الرئيسيةأعمدة“سانجو” أو سيرة نجم “إرهابي”

“سانجو” أو سيرة نجم “إرهابي”

عشاق السينما الهندية عبر العالم، يعرفون جيدا مسار عائلة دات (Dut)الفنية، فالأم هي نرجس، نجمة سنوات الخمسينات والستينات، وبطلة الفيلم الأشهر “الأم الهندية” للمخرج محبوب خان، والأب هو النجم سونيل دات بطل عشرات الأفلام الناجحة، سواء كممثل أو مخرج، بل هناك من اعتبره ندا لأميتاب باتشان في التمثيل والنجومية، إضافة لكونه رجل سياسة لا يقهر بمواقفه الصارمة في مسألة الأقليات وحقوقها المهضومة، أما الابن، فهو نجم أستوديوهات بوليود سنجاي دات المشهور بلقب سانجو، والمعروف، في نفس الآن، بحياته الصاخبة المتقلبة، التي تداخلت فيها نزوات الشباب، خمر وحشيش ومغامرات نسائية متنوعة، والاندفاع وعدم التريث في مواقفه من حيث التعاطف مع المسلمين، بعد هدم مسجد أيوديا سنة 1992، و”التورط” في العمليات الإرهابية التي شهدتها مدينة مومباي سنة 1993، نتيجة المواجهات التي حدثت بين المسلمين والهندوس آنذاك.
إذا كانت الأم نرجس والأب سونيل قد اشتهرا بأدوارهما السينمائية الكبيرة، وقصة حبهما المفارقة للواقع، بسبب ديانتيهما المختلفتين، وكذا ما كان يقال عن علاقة نرجس بالممثل والمخرج الأشهر راج كابور قبل زواجها بسونيل، فإن الابن، ومنذ بداية الثمانينات من القرن الماضي، لم يتوقف عن خلق المتاعب المتتالية لعائلته، والأحداث المثيرة الصادمة لبلده، لحد أن حياته المتقلبة الغارقة في الفوضى والمشاكل الأسرية والمجتمعية والفنية، تم تضمينها بشكل متخيل، في كتاب سيري بعنوان “دعهم يتكلمون”، كتاب يتضمن تفاصيل مختلفة، لم تتطرق لها الصحافة الهندية، طيلة تتبعها لحياته، والتنقيب عن مثالبه، والتشهير به بشكل مستفز، من أجل بيع نسخ أكثر لدى عشاق أفلامه من جهة، وعند من يكره مساره، خاصة في الأوساط الهندية الهندوسية المتطرفة.
كتاب “دعهم يتكلمون” كان ذريعة لبناء سيناريو فيلم جميل حمل عنوان “سانجو”، من توقيع المخرج راج كومار هيراني وبطولة عشرات النجوم الهنود الكبار، أساسا منهم النجم رانبير كابور، الذي أدى دور سنجاي دات بكثير من الأناقة والإقناع..
الفيلم يتتبع مسار سانجو منذ انطلاقته الأولى، مع فيلم “روكي”، الذي أخرجه سونيل دات من أجل تثبيت اسم ابنه في الساحة السينمائية البوليودية، ولغاية اليوم الذي يغادر فيه السجن سنة 2013، بعد قضاء ثلاث سنوات بتهمة حيازة السلاح (المحكمة كانت قد حكمت عليه بست سنوات قبل الحصول على تقليص للمدة)، وقبلها اتهامه بالإرهاب والتعاون مع الإرهابيين المسؤولين عن التفجيرات التي ضربت مومباي سنة 1993.
الفيلم يمكن تقسيمه لثلاث محطات أساسية في تناول حياة نجم كبير، محطات كانت لها الأثر الأكبر في صنع شخصيته المتناقضة التي تتقاطع فيها اللامسؤولية والنجومية، شخصية لم تكن تقيم للحياة والقيم الأسرية والفنية أدنى قيمة، لحد أنه كاد أن ينتحر بعد أن قررت المحكمة سجنه، لولا تدخل زوجته، ومجيء صحفية لكتابة سيرته، صحفية سمحت له أن يحكي بكل حرية ودون قيود أخلاقية، حكى بعيدا عن شعبوية الصحافة الصفراء، أي دون مساحيق أو كذب أو أدنى مجاملة، بمعنى أنه حكى من أعماق القلب، مما جعل فصول حكيه تصل لقلوب القراء، وبعدها لمشاعر المتفرجين، حيث نجح الفيلم في حصد النجاح التجاري والفوز بالجوائز، من أهمها جائزة أحسن فيلم فير لسنة 2018.

يمكن تلخيص المحطات الثلاث المتحدث عنها في كتاب السيرة الذاتية/الفيلم، كالتالي:
محطة الشبابية العاصفة، وهي مرحلة اتسمت باللامبالاة المطلقة، والعيش في أحضان تعاطي المخدرات بكل أنواعها وأشكالها، لحد أنه كان مدمنا غارقا في متاهات الهلوسة والإساءة للعائلة والأصدقاء، ورغم تضحيات الأب الكبيرة، وتدخلات صديقه الحميم سنجاي كامليش، الذي تعرف عليه بالصدفة بالولايات المتحدة الأمريكية عندما سافر مع العائلة رفقة الأم التي كانت تعالج هناك من مرض السرطان، فإن سانجو لم يعرف للتعقل طريقا، ولم يعي حينها أنه ابن عائلة كبيرة أمامه مستقبل كبير، خاصة بعد أن أنتج وأخرج له والده فيلمه الأول “روكي” سنة 1981، الذي جعل منه نجما يتنبأ له بمستقبل زاهر، نجومية لم تثنيه عن الارتماء أكثر فأكثر في أحضان الانحراف، الذي أدى به إلى فقدان حبيبته الأولى، وقضائه تقريبا سنة ونصف في مستشفى أمريكي للمعالجة من الإدمان. وقد تميزت هذه المرحلة بوفاة والدته نرجس الذي خلف في نفسه صدمة وفراغا كبيرين، لم يستطع الأب فهمها والتعامل معها وملأها بالحب والحنان، الشيء الذي كرس عزلته و بعده عن محيطه العائلي.
المحطة الثانية، وهي مرحلة المشاكل السياسية التي واجهته بعد إنفجارات مدينة مومباي، والتي جاءت كنتيجة للمواجهات الدينية التي حصلت بعد هدم مسجد بابري بمدينة أيوديا سنة 1992، وهي مجموعة إنفجارات ضربت مناطق ومراكز مختلفة بالعاصمة الاقتصادية للهند بشكل جد متزامن، وخلفت العديد من الضحايا البشرية البريئة والخسائر المادية الثقيلة، حيث تبين، من خلال تحقيق الجهات الأمنية، أن سونجاي له يد بشكل من الأشكال فيها، حيث كان قد اقتنى أسلحة من عند بعض المساهمين في هذه الإنفجارات، قرائن وأدلة كانت كافية لإدانته والزج به في دوامة المتابعة القضائية، وإغراقه في مستنقع المس بسمعته وسمعة أبيه الفنية والسياسية، ورغم تبريراته بكون الأسلحة اقتناها للدفاع عن النفس بعد سلسلة من التهديدات، التي كانت تتلقاها عائلته كنتيجة لوقوف أبيه مع المسلمين وتقديمه لهم يد العون في محنتهم بعد الإنفجارات وتعرضهم للقتل والتهجير بعد حرق منازلهم، إلى أن ذلك لم يقنع أحدا، وقد ازداد الوضع سوءا بعد نشر إحدى الجرائد خبرا ملغوما يشير إلى ضبط شاحنة محملة بالمتفجرات في مرآب منزل سانجو.
حقائق وأكاذيب، كان لها الوقع الكارثي على مسار هذا الممثل السيئ الحظ، لكن بريق الأمل وقف إلى جانبه بعد صراع مرير على كل الجبهات، حيث برأته المحكمة من تهمة الإرهاب لكنها أدانته بتهمة امتلاك أسلحة بشكل غير قانوني، فكان من حقه السجن لمدة ستة أعوام، قضى منها ثلاث سنوات، في ظروف جد مهينة، رغم شهرته الواسعة ومناصرته من طرف عشاق فنه العديدين وبعضا من زملائه السينمائيين. لكنها في نفس الآن كانت فرصة بالنسبة له لإعادة التفكير وترتيب الحياة قبل الخروج لمعانقة الحرية والعائلة والصديق الوفي كامليش.

المحطة الثالثة، وهي مرحلة متموقعة بين المرحلة الأولى والثانية، وتتعلق بمشواره الفني الناجح، وتقديمه للعديد من الأفلام القوية، بدءا من فيلمه الأول، المشار إليه سابقا، “روكي” سنة 1981، مرورا بفيلمه الشهير “مونا بهاي” بجزأيه الأول والثاني سنة 2004 الذي حصل من خلاله على جائزة أحسن ممثل كوميدي سنة 2005، وصولا لأفلامه التالية، لعل آخرها فيلم “سانجو” (الذي نحن بصدد الحديث عنه)، حيث ظهر في نهاية الفيلم كضيف شرف يؤدي أغنية جينيريك النهاية برفقة بطل الفيلم رانبير كابور.
مسار سانجو السينمائي نجاح بطعم المعاناة والأحزان اللامتناهية، فإذا كان فيلمه الأول الذي أطل من خلاله على الجمهور الهندي الواسع، هي اللحظة الأنجح والأهم، فإنها كانت أيضا اللحظة الأكثر حزنا في مساره، حيث توفيت أمه التي كانت تحلم أن تحضر العرض الأول للفيلم، وأن ترى إبنها يسير على خطاها وخطى والده في النجومية، لكن مرض السرطان كان له الكلمة الفصل، فغادرت الحياة دون أن تكون حاضرة، تاركة بذلك الابن يرتدي رداء الغبن ولا يحس بحلاوة النجاح، بل أن هلوسات الإدمان جعلته يغادر قاعة العرض الأول للفيلم، وينزوي في مكان قصي يبكي بعيدا عن تصفيقات الجمهور وفلاشات المصورين و تهاني الزملاء والأصدقاء الذين حضروا بكثافة لدعم مساره.
أما اللحظة الثانية الناجحة في مساره، التي كانت مع فيلم “مونا بهاي” الذي شاركه البطولة إلى جانبه والده سونيل، فقد جاءت هي الأخرى قاصرة عن حمل ملامح الفرح والسعادة المطلقة، حيث توفي الأب بعدها بأشهر قليلة، تاركا إياه يواجه مصيره الفني والإنساني يصارع الطواحين الهوائية المتمثلة في الإعلام الشعبوي و المتابعة القضائية الصارمة.
إذا كان فيلم “سانجو” قد أعاد الاعتبار لسنجاي دات، وجعله يكشف الحقائق التي حاولت الصحافة دائما التلاعب بها وتقديمها في حلل مثيرة، فإن الفيلم من جهة ثانية، قد تفوق في جمع مجموعة كبيرة من الفنانين الهنديين المشهورين من مثل أنوشكا شارما وباريش راوال وفيكي كوشال وديا ميرزا ومانيشا كويرالا و سونام كابور، مثلما استطاع تقديم فرجة سينمائية راقية فيها الكثير من البوح والعاطفة الجياشة التي تجعلك تتعاطف مع هذا النجم المثير الذي أصبح اليوم من أهم النجوم، نجم يراكم النجاحات و يواصل رفع اسم ومسار عائلة دات، التي كان لها الفضل الأكبر في تكريس السينما التجارية البوليودية منذ سنوات الخمسينات ولغاية اليوم..

 

عبد الإله الجوهري

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *