الرئيسيةمتابعات سينمائيةسينما الشعر من الشكلانيين إلى بازوليني

سينما الشعر من الشكلانيين إلى بازوليني

كثيرا ما يتم الحديث عن “شعرية السينما” أو عن “السينما الشعرية”، وتتفاوت تحديدات المفهوم باختلاف زوايا النظر وتطور المقاربات تبعا للسينمائيين والتغيرات السياسية والثقافية. وقد ارتبط المفهوم بمجموعة من السينمائيين [ فرطوف، بيدوفكين، ايزنشتاين، بازوليني، أنطونيوني، بيترولوتشي، غودار، بارادجانوف، إيلينكو، شامشيف، غريفيت، تاركوفسكي، دوفزنكو ] (نيكول دزيوب 2017) ، ويمكن اختزال هذه المجموعة في من اغترفوا من منظور الشكلانيين الروس، أو الذين أبدعوا سينماهم بممارسة حرية تخرق القواعد السردية الكلاسيكية، أو أدخلوا تغييرات هامة في تقنية المونتاج. وللمزيد من التدقيق في المفهوم، سيتم التوقف عند الشكلانيين الروس وبازوليني.

سينما الشعر عند الشكلانيين.
تلاحظ آنا لوطون (1992)، أثناء تحليلها لبعض الأفلام السوفياتية لسنوات 1960 – 1970، أن بعض هذه الأفلام تتشابه مع بنية الشعر، بحيث تتأسس على التماثل بين الصور وليس على المنطق السردي. بالفعل، عرف هذا التوجه باسم ” السينما الشعرية”، كما سميت بـ “السينما العتيقة” لأن أفلامها مستمدة في الغالب من الحكايات والأساطير الشعبية. فضلا عن هذا، تستعمل الدراسات وصف السينما غير السردية لوصف السينما السوفياتية. في هذه السينما تحظى الصورة بامتياز أكبر من تسلسل السرد. إذ تسميها جان فرونسكايا (1972) بـ “سينما الصور”، مشيرة إلى أن الفيلم الشعري يولد لدى المشاهد الانطباع بمشاهد “لوحة جميلة”. غير أن طموحات السينما الشعرية لا تقتصر على إنتاج الصور ” المشهدية” أو “التشكيلية”؛ بل إنها تمتد إلى استغلال إمكانيات آلة المونتاج الجديدة لإنتاج المعنى. فضلا عن هذا، ليست السينما الشعرية، في التقليد الشكلاني السوفياتي سينما غير سردية فحسب، بل هي الأحرى سينما ضد سردية. من هنا يتطلب الأمر تحديدا أكثر وضوحا بالوقوف عند مفهوم “سينما الشعر” المقترح من طرف شكلوفسكي(نيكول دزيوب 2017).
ينطلق من تمييز الشكلانيين بين عدد من الثنائيات الضدية [مضمون/شكل، سرد/ إظهار، نثر/ شعر]. ليميز سينما النتر من سينما الشعر على أساس التقابل بين الحكاية/ التركيب. لقد حاول الشكلانيون الروس في كتاب “سينما الشعر” (عمل جماعي 1929) وضع الأسس النظرية للسينما كفن أو وسيط للتواصل، ووصف أسلوبيته وإجراءاته الخالصة، ورصد علاقاته مع فنون التشكيل والمسرح والأدب، حيث استعملوا مصطلح “الشعري” بالمعنى الأرسطي، مع نوع من المزج بين الشعري والنتر. في “سينما الشعر” تعطى الغلبة للعناصر الشكلية على حساب المعنى، وتعتبر السينما الشعرية سينما بدون موضوع. وحسب جاكوبسون توجد ” وظيفة شعرية للسينما”، كما توجد وظيفة شعرية للغة”. في حالة اللغة، تتمظهر شعرية الخطاب في غياب الأفعال، وفي حالة السينما تتحقق الشعرية برفض الحكاية وانسيابها الوهمي.
لتوضيح فكره يقدم شكلوفسكي أمثلة من أفلام يستعمل مخرجوها بعضا من أسس سينما الشعر: [الأشكال الهندسية – خاصة الصوتيات: التكرار، الجناس – قوة العرض، الصور “الجدلية”]. هذه الأدوات “الهندسية”، الموازية بين الصور، تكون مبدأ شعريا، بالنسبة لشكلوفسكي؛ ما دامت تؤدي إلى خلق إيقاعات بصرية، وتعطي للفيلم معنى لا سرديا. بحيث يظهر الفعل الخفي الذي يمكّن المتفرج من إدراك وجود العمل السينمائي كإنتاج”. يتجسد هذا التصور في فيلم فيرتوف ” رجل الكاميرا’ (1929)، حيث يوحي جينيريك البداية أن السينما الشعرية مستقلة عن الكلمات وعن اللغة. بهذا ستكون السينما مستقلة عن الأدب، وستكون الصور مقنعة دون عون من السيناريو. وأخيرا ستكون السينما مستقلة عن المسرح، وستتخلى عن الديكور. في نهاية الجينريك، يكتب فيرتوف: “يسعى هذا العمل التجريبي إلى خلق لغة عالمية حقيقية ومطلقة للسينما، مختلفة تماما عن لغة المسرح و الأدب. وسيصير هذا الفن “شاعريا” حين يعتمد اشتغاله فقط على خصائصه “المميزة”، لدرجة أن السينما لن تكون شاعرية إلا إذا تحررت من الأدب”. يبين فيلم “رجل الكاميرا”، أن السينما تسمح بإظهار ما يخفى عن الإنسان/ المتفرج. (كواليس السينما). فرجل الكاميرا يستطيع التواصل مع الجماهير، يستطيع ( بفضل الكاميرا) الدخول إلى الفضاء الحميمي للأفراد. هنا يصبح الالتقاء هناك بين “سينما – حقيقة” و ” سينما الشعر” ممكنا، بل ضروريا، ويتعلق الأمر في الحالتين، برفض وهم الفضاء الأمامي للمسرح، و الذهاب إلى رؤية ما يجري في الخلف. أكثر من هذا، يمكن لسينما الواقع أن تكون شاعرية. إذ تعطي السينما الفرصة للعابرين “العاديين” للتشخيص دون أن يكونوا ممثلين، لأنهم ” يلعبون أدوارهم الحياتية”. نتيجة لهذا، لا تنفصل السينما عن بعض من “تفاهة اليومي” الذي يسمح بالنظر إلى “شعرية” الفيلم من زاوية أخرى (نيكول دزيوب 2017).

سينما الشعر عند بازوليني
يعتبر بازوليني (بازوليني 1965) “السينما الشعرية” تأويلا جدليا للتاريخ، لأن “الماضي يتحول إلى استعارة للحاضر في علاقة تركيبية، ولأن الحاضر، أيضا، إدماج مجازي للماضي”. تبنى الاستعارة من خلال الإبداع الشعري، حسب بازوليني، وتتشكل داخل التاريخ كممجموع كلي محكوم في حركته بالديالكتيك. لكن التاريخ في حد ذاته، يؤخذ في حركة الديالكتيك كمجموع وليس فقط كمحتوى . في ” مقطع زهرة الورق” من الفيلم الجماعي “الحب والغضب (1969)”، يلعب بازوليني، في نفس الآن، على الديالكتيك وعلى التوازي بين الطبيعة اللامتوقعة واللامنتظمة للشخصية وبين الأحداث التاريخية المربكة والدالة المحدثة في السنوات السابقة.
حياة الإنسان تشكل الموضوع الأساس للفن السينمائي. لكن ما هي الحياة بالضبط؟ يقول بازوليني نفسه، ما يميز سينماه هو التأرجح بين السعادة والألم: جانب جوهري لـ “سينما الشعر”. هذه السينما التي تغترف من حياة الناس – لا باعتبارها حياة يومية معطاة ومضنية، بل باعتبارها قوة دينامية وخلاقة – والتي تواجه، في جدليتها، شيئا يمكن أن يكون هو الموت، دون أن يكون موتا، فليس للموت الحق في ” حركة الحياة التي تخترق المعيش” وتكوّن ” العملية ” الفنية. وإذن، فالانزلاق نحو الموت، نحو موت ماكرة، هو الذي يشكل القطب المضاد. من هنا توصف سينما بازوليني بأنها ” سينما البقاء”: سينما الطاقة الحية، في مواجهة مباشرة مع ختفاء الأشياء والكائنات؛ إذ يمكّن المونتاج من إعادة تركيب صور الحياة في نفس لحظة الموت. إننا، في منظور بازوليني، نمارس السينما كحياة بعد الموت – ليس الموت في الحياة، وإنما الحياة في الموت، وكنتيجة نتحدث إذن عن موت لم تعد موتا بالمعنى الصريح.
لا ينبغي الاعتقاد أن مفهوم بازوليني يقابل المفهوم الشكلاني. ذلك أن بازوليني يقترح في محاضرة أسماها ” سينما الشعر ” (1965) تأملا سيميولوجيا للسينما. فالسينما هي قبل كل شيء شعرية بالرغم من كون السينما، مبدئيا، فنا “واقعيا”. تفرض هذه “الشعرية” نفسها على السينما بكيفية آلية تقريبا، لأنها تتكون من صور “مثيرة”. استنادا على هذه المسلمة، يطور بازوليني المفهوم إلى كون السينما مكونة من صور – رموز، لها نفس التطور الذي تعرفه جذور الكلمات. وإذا كانت السينما لغة فنية وليست فلسفية، فذلك راجع إلى “قوتها التعبيرية”، وإلى” قدرتها على تجسيد الحلم”، وإلى “طبيعتها الميتافيزيقية بالأساس”. هكذا يصل إلى استنتاج أن ” لغة السينما في جوهرها ” لغة شعرية”. لكن السينما الصناعية (المختزلة في مقاولة اقتصادية) لا تهتم إلا بتطوير الطبيعة السردية للوسيط، مما يشكل تقليدا لـ “لغة نثرية سردية”. هكذا يحاول بازوليني إنجاز تركيب دال بين التصور الشكلاني للشعر (أو الشعرية) وتصوره المتمثل في مجال تدفق الرؤية والحلم: إذ يرى أن سينما الحلم تتطور تبعا للخصائص السيكولوجية غير المنتظمة للشخصيات، أو تبعا لرؤية المؤلف للعالم والتي هي شكلانية قبل كل شيء. للتعبير عن هذه الرؤية الداخلية، يدعو بازوليني إلى استعمال صيغ أسلوبية وتقنية خاصة، متزامنا مع خدمة الإلهام الشكلاني الذي يشمل الأداة والموضوع في الآن نفسه.
يُستعمل مصطلح “شعري”، عند بازوليني، بالمعنى ” الشكلاني” مع كونه مرادفا للحلم. إذا كانت الطبيعة النترية التقليدية للسينما قد منعت “شعريتها” من التطور، فلأنه تم إهمال كل ما كان فيها من لاعقلانية، وحلم، وبدائية وتوحش. السينما لغة حرة تتكون من صور-علامات ( لغة الذاكرة والحلم) على مستويين: مستوى الشخصية والتشخيص، ومستوى المؤلف والعبارة: إذ تتميز السينما الشعرية بإنتاج أفلام ذات طبيعة مزدوجة. فالفيلم الذي نراه ونتلقاه عادة هو ” ذاتية حرة غير مباشرة وأحيانا غير منتظمة وتقريبية. ذاتية تأتي من كون المؤلف يستخدم “الحالة الذهنية المهيمنة في الفيلم”، وهي حالة شخصية، تشخيص مستمر يسمح له بحرية أسلوبية كبرى، غريبة ومستفزة. خلف هذا الفيلم يجري فيلم آخر – الذي صنعه المؤلف حتى بدون ذريعة التشخيص البصري مع البطل؛ فيلم تعبيري أو تعبيراني، كامل التمام والحرية. هكذا سلك بازوليني منعطفا مزدوجا بواسطة المحاكاة والتعبير، ليصل إلى السينما الشعرية، كسينما قادرة على إنطاق مختلف الشرائح الاجتماعية، اعتمادا على “السنن التقني” الذي يدعمها – تناوب الأهداف، مؤثرات بصرية، تدقيقات صدفوية، مونتاج نشاز- نشأ تقريبا من عدم التسامح مع القواعد، ومن الحاجة إلى حرية غريبة ومستفزة”. هكذا يلتقي بازوليني والشكلانيين الروس في التمييز بين الدال والمدلول، بين الفيلم والحكاية، بين اللغة الشعرية والسرد النتري. يلتقون في رفض الانسيابية السردية، والدعوة إلى لغة سينمائية شعرية تتجاوز قواعد الكتابة التقليدية المسكوكة، وتتمرد ضد حرية الإبداع.

د. محمد طروس

 

مراجع
– Fieschi Jean-André, « Pasolini l’enragé, dialogues avec Jean-André Fieschi », dans Cahiers du cinéma, hors-série, « Pasolini cinéaste », 1981
– Jakobson Roman, Questions de poétique, Paris, Éditions du Seuil, 1973.
– LAWTON Anna, Kinoglasnost: Soviet Cinema in Our Time, Cambridge, Cambridge University Press, 1992.
– NIKOL DZIUB. Le « cinéma de poésie », ou l’identité du poétique et du politique ? fabula avril 2017
– PASOLINI Pier Paolo, « Le Cinéma de poésie », trad. Marianne DI VETTIMO et Jacques BONTEMPS, dans Cahiers du cinéma, n° 171, 1965. Repris dans Pier Paolo Pasolini, éd. Marc GERVAIS, Paris, Seghers, coll. « Cinéma d’aujourd’hui », 1973.
– VRONSKAYA Jeanne, Young Soviet Film Makers, London, Allen and Unwin, 1972.

– Fieschi Jean-André, « Pasolini l’enragé, dialogues avec Jean-André Fieschi », dans Cahiers du cinéma, hors-série, « Pasolini cinéaste », 1981
– Jakobson Roman, Questions de poétique, Paris, Éditions du Seuil, 1973.
– LAWTON Anna, Kinoglasnost: Soviet Cinema in Our Time, Cambridge, Cambridge University Press, 1992.
– NIKOL DZIUB. Le « cinéma de poésie », ou l’identité du poétique et du politique ? fabula avril 2017
– PASOLINI Pier Paolo, « Le Cinéma de poésie », trad. Marianne DI VETTIMO et Jacques BONTEMPS, dans Cahiers du cinéma, n° 171, 1965. Repris dans Pier Paolo Pasolini, éd. Marc GERVAIS, Paris, Seghers, coll. « Cinéma d’aujourd’hui », 1973.
– VRONSKAYA Jeanne, Young Soviet Film Makers, London, Allen and Unwin, 1972.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *