الرئيسيةنقد“جزيرة الكلاب” هايكو سينمائي لويز أنديرسون

“جزيرة الكلاب” هايكو سينمائي لويز أنديرسون

فيلم “جزيرة الكلاب” هو تاسع أفلام المخرج الأمريكي المستقل و المتميز “ويز أنديرسون”, هذا المخرج ذو الأصول السويدية والنرويجية, و الذي يحمل إرث السينما الأوربية في حريتها و تعبيريتها حتى النخاع في مخيلته و تظهر جليا في اشتغاله على الألوان الباستيل و الملابس و الديكور و المعمار في شقه التناظري الذي يشكل بصمته الخاصة و كأنه يحتفي ب”فريتز لانغ” في كل أفلامه. بالإضافة إلى اللون الأصفر الذي نجده حاضرا في كل أفلامه, هذا اللون الذي يحيل على الإستقلالية (انظر دلالة الأصفر في حركية السينما المستقلة بأمريكا, لون شعار مهرجان ساندانس الأمريكي للفيلم المستقل أصفر, و الأمثلة كثيرة ) و التفرد و الذاتية و الحركية, و كثيرا ما نرى المخرج في خرجاته الإعلامية أو العادية يرتدي اللون الأصفر, كأن حضور اللون هو حضور لذات المخرج بصريا. هذا المخرج الذي درس الفلسفة ثم غادر باكرا صفوف مدرسة السينما ليتعلم من خلال التجريب و إنجاز أفلام بالثمانية مليمتر ثم الفيديو.
ويز أنديرسون في فيلمه الأنيمي من نوع السطوب موشن هذه المرة الجديد “جزيرة الكلاب” يقترح علينا قصة يخوض فيها مرة أخرى تجربة الآخر الذي يحضر بقوة في أعماله حيث دائما ما يعبر عن إثنيات و عن فضاءات و ثقافات و لغات أخرى في أفلامه لأنه و كما صرح في إحدى حواراته يجد الآخر موضوعا مهما لديه لمعرفة ذاته سقراطيا (نسبة لأرسطو صاحب فكرة اعرف نفسك بنفسك عن طريق الآخر). و الأمر صحيح نسبيا فبالعودة لتاريخ السينما فما أدهش الجمهور في بداياتها مع الإخوان لوميير و جعلها فرجوية و جماهيرية بامتياز هي قدرتها على إشباع غريزة الفضول و المعرفة لدى الناس, فضول حول كيف يعيش الآخرون و هو مادفع الأخوين لوميير إلى إرسال مصورين أنذاك في كل أنحاء العالم بحثا عن خصوصيات الشعوب و نمط عيشهم, و كاتالوغ ورثة لوميير حافل بآلاف العناوين و الأرشيف عن ثقافت العالم.
يتحدث الفيلم الذي تدور أحداثه باليابان عن قصة عمدة مدينة ميغاساكي “السيد كوباياشي” الذي يكره الكلاب مثل أجداده و يستغل فرصة تفشي وباء انفلوزا الكلاب المفتعل, ليخلي المدينة من هذه الحيوانات الأليفة و ينفيها إلى جزيرة مهجورة عبارة عن مطرح كبير للأزبال.
أل كوباياشي تكره الكلاب حد العمى منذ قرون, كراهية تبررها تلك الحرب الضارية التي وقعت بين القبيلة و الكلاب حين كانت حرة طليقة, و أدى انتصار الإنسان عليها إلى ترويضها, و لكن الكراهية مع ذلك لم تختفي.
الفيلم يحتفي بشعر الهايكو على ثلاثة مستويات, أولا على مستوى اختيار السرد عن طريق تقسيم الفيلم إلى فصول عدة قصيرة تشبه قصائد الهايكو التي لا تتعدى أربعة أبيات كحد أقصى. و ثانيا على مستوى بناء الحوارات بطريقة شعرية و غير مباشرة. حوارات حكائية و رمزية تحيل على قراءات متعددة كشعر الهايكو المكثف.
و ثالثا احتفى الفيلم بشعر الهايكو من خلال ذكر قصيدتين عن علاقة الإنسان بالحيوان أو الطبيعة عموما في بداية و نهاية الفيلم بشكل مقصود و حكائي, و تقول القصيدة الأولى.
أدير ظهري
للبشرية
صقيع على النافذة
يحتفي الفيلم أيضا بفن الرسم الياباني من خلال الإشتغال على التلوين و الفراغ و تموضع الشخوص بشكل تشكيلي محض يجعل من كل لقطة لوحة يابانية بامتياز.

و من المعهود على ويز أنديرسون اشتغاله بصدق على ثقافات الآخر الذي يختار شخوصا أو فضاءات منها لسرد مغامرات شخوصه التي دوما تغير فضاءاتها و عاداتها, شخوص تتحول باستمرار في افلامه لتعبر عنه أولا و لتقحمنا بلباقة في عوالم هذا المخرج الذي تجمع أفلامه بين السينما كفن ذاتي نخبوي و سينما الفرجة إذ أن أفلامه تجني ملايين الدولارات عبر العالم.
لا أريد الدخول في تفاصيل الفيلم و حرقه لمن لم يشاهده بعد, و لكنني فكرت في كتابة هذه المقالة لأدعو السينيفيليين للاستمتاع بفيلم ينعش أرواحنا الملتهبة بحرارة هذا الصيف و الأحداث السياسية و الإقتصادية التي يعيشها العالم حاليا.
فالفيلم مرتب و سلس و يمكن قراءته من عدة زوايا و حسب مرجعيات كل مشاهد على حدا, هو فيلم للجميع, للأطفال و الكبار على حد سواء. و الأهم أنه يستطيع السفر بنا خارج ذواتنا و واقعنا لأزيد من ساعة.
فيلم استطاع أن يحصد جوائز عدة أهمها جائزة أفضل مخرج بمهرجان برلين الدولي في دورته الأخيرة.
فيلم عن العلاقة مع الآخر, عن السياسة, عن الطبيعة و عن كلاب تتألم في صمت في جزيرة ملوثة تحول نباحهم لآهات لا تنتهي.
و أختم مقالي بذكر القصيدة الأخيرة في الفيلم و التي تقول:
ماذا حدث؟
لأفضل أصدقاء الإنسان
براعم ربيع متساقطة

مراد خلو

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *