الرئيسيةالسينما العربية“نوارة”.. السؤال الذي لم يأت من مقرر الثورة!

“نوارة”.. السؤال الذي لم يأت من مقرر الثورة!

يقول نجيب محفوظ (إن المعاصر هو أسوأ مؤرخ) لأنه باختصار يرى كل شيء عن قرب في الوقت الذي تحتاج فيه بعض الحوادث والأمور الجسام إلى نظرة من بعيد كي تتمكن عين الرائي أو ذاكرة الحاكي من التقاط التفاصيل الكاملة أو شبه الكاملة للوقائع والتأثيرات.

في فيلم «نوارة»- الذي افتتح الدورة الخامسة لمهرجان الأقصر للسينما الأفريقية في عرض أفريقي ومصري أول بعد عرضه العالمي الأول في مهرجان دبي في دورته الثانية عشرة- تبدو نية المخرجة هالة خليل في أن تعفي نفسها من دور المؤرخ الذي قد لا يصلح دوما للسينمائي، ولكنها تستغل الميزة الكبرى لصناعة الأفلام وهي طرح الأسئلة.

إن نوارة ليس فيلماً عما حدث في يناير 2011 ولكنه أقرب إلى السؤال الذي توجهه المخرجة إلى الجمهور- وربما إلى نفسها أيضا- تاركة الإجابات تأتي وتروح في ذهن المتلقي وهو يحاول الربط ما بين اللقطة الأولى التي تسير فيها الشابة نوارة/ منة شلبي في حارات ضيقة تحمل وعائين كبيرين من الماء تنوء بحملهم، بينما شعارات الثورة مرسومة بخطوط كبيرة على الجدران وبين اللقطة الأخيرة التي نرى فيها سور حديدي يغلق أتوماتيكيا بعد أن خرجت منه- أو دخلت بمعنى أدق- سيارة الشرطة التي تحمل نوارة المقبوض عليها، بينما تلوح المدينة في الخلفية وكأنها من خلف السور أصبحت سجنا كبيرا لنوارة، وكل ما تمثله من شرائح وطبقات اجتماعية. ما بين هذين اللقطتين تكمن العديد من الأسئلة والإشارات والدلالات المباشرة عن الواقع المصري ما بعد 2011.

وجعلنا من الماء

يمكن ببساطة أن نقوم بتفكيك نوارة إلى مجموعة من العناصر الأولية التي يسهل معها قراءة الفيلم والتشبع بأسئلته مع الأخذ في الاعتبار أن من التجني أو غير المنصف أن نتعامل معه باعتباره منشورا سياسيا مع أو ضد يناير بل إنه يبدو من أكثر التجارب التي أنجزت عن يناير حيادية في التعاطي مع الواقع الحقيقي بأقل قدر من الصراخ والشعارات وبانحياز كبير إلى الناس وليس الحدث، حيث إن ثمة فارق بين أن تنحاز إلى يناير كحدث، وأن تنحاز ليناير على مستوى الناس فالانحياز إلى الناس يؤدي إلى الانحياز لمطالبهم ومشاعرهم وأفكارهم عن يناير أما الانحياز ليناير فلا يؤدي بالضرورة إلى نفس النتيجة فالحدث خلافي أما الناس فلا جدال حول همومهم واحتياجاتهم.

أولى العناصر التي يمكن من خلالها قراءة التجربة هو عنصر (الماء) الذي خرج منه كل شيء حي، إنه أبسط احتياجات البشر وأكثرها ضرورية واستخداما في نفس الوقت (شرب- استحمام- نظافة)، الماء في نوارة مرادف للحد الأدنى من الحياة.

نجحت هالة خليل في أن تجعل الماء رمزا للفاقة والفقر المدقع، وفي نفس الوقت شكل من أشكال الرفاهية القصوى ففي الوقت الذي يبدأ فيه الفيلم بنوارة تحمل وعائين من الماء لمسافة طويلة لكي نعرف فيما بعد أن المنطقة العشوائية أو الشعبية التي تقيم فيها لا يصلها الماء لأنه لا توجد مواسير ورجالات الحي والمجلس المحلي«الشرفاء» يساومون سكانها على تركيب المواسير لأن (كل حاجة غليت بعد الثورة) نجد أطنانا من الماء تدفق بسخاء شديد ودون عناء في العالم الآخر، حيث فيلا شاهندا وأسامة باشا (شيرين رضا ومحمود حميدة) الوزير السابق ورجل الأعمال المعروف، حيث تعمل نوارة كخادمة طوال اليوم في سياق أقرب للعبودية الاجتماعية، حيث نراها تقوم بكل شيء تقريبا من تنظيف ومسح وكنس عبر لقطات مكثفة ومتتالية، ودون الوقوع في أي منزلقات ميلودرامية تفيد الاستفزاز الطبقي المباشر.

في مقابل العطش الذي ترويه بنهم شديد جدة نوارة/ رجاء حسين بعد أن أحضرت لها نوارة الماء وهي تتلذذ بشبق المحروم (الميه حلوة) نجد حمام السباحة الواسع الذي تسبح فيه خديجة ابنة شاهندة وأسامة وهي المقابل الاجتماعي والطبقي لنوارة (فتاة في مثل عمرها تقريبا ترتدي البيكيني وتسبح في كمية من المياه تكفي لري ظمأ حي نوارة بأكلمه).

تحرص هالة على حضور الماء ضمن عناصر الصورة دون افتعال أو إقحام ليصبح العنصر الشفاف مرآة تعكس الكثير من الدلالات الاجتماعية والسياسية والإنسانية في هذا البلد المنكوب.

بينما تتحفظ نوارة في استهلاك الماء وهي تغسل وجهها صباحا في الحمام المشترك نجد الماء يهر بلا مبالاة في حمام المستشفى الحكومي، حيث قامت كبيرة الممرضات بوضع والد علي زوج نوارة (أمير صلاح الدين) خوفا من أن يتم طرده.

وفي مقابل مساومة رجال شركة المياه لإدخال الماء لحي نوارة ومطالبتهم بزيادة مقابل المواسير ورشاوى الحفر نجد أسامة باشا الوزير السابق يقفز في حمام السباحة كحوت ضخم في دلالة واضحة لكونه أحد «حيتان» النظام السابق، ونجد بواب الفيلا (أحمد راتب) يقوم بغسل برش الزرع وغسل السيارات – وهو المطلب الأساسي لشاهندة هانم بعد أن غادرت الفيلا هي وزوجها وبنتها هربا من تهم التربح والفساد- (العربيات تتغسل كل يوم).

بل لا تخلو الإشارات السياسية المباشرة من توظيف لعنصر الماء فالوزير السابق يحرص على أن يظل شعره أسود بالصبغة- وهي رمز الطبقة الحاكمة وقت مبارك الذي كان يحرص وأعوانه على أن يبدو شبابا بشعر أسود طوال الوقت- ولكن بعد يناير تبدو الصبغة من وجهة نظر المخرجة غير قادرة على أن تخفي شيب هذا النظام فنراها في لقطة معبرة تزول مع الماء، بينما يغسل الوزير السابق رأسه قبل أن يتخذ الوزير وزوجته قرارا بالهرب عقب القبض على مبارك وعائلته.

وكفارق لوني وبصري مباشر يبدو التناقض الحاد بين الحارت والأزقة التي تسعى فيها نوارة حاملة أوعية الماء والمماشي والجسور المشجرة وقنوات المياه والملاعب التي تخلق من الكومبوند الذي تقع فيه فيلا شاهندة قطعة من الفردوس المفقود بالنسبة لنوارة وطبقتها الاجتماعية بل غالبية الشعب المصري.

إن نوارة عنما تقرر أن تستجيب إلى طلبات زوجها علي (الزوج مع إيقاف التنفيذ نظرا لعدم توافر حجرة واحدة يمكن أن تجمعهم كزوجين في هذا البلد الضيق معنويا) فإن أول لقطة لها عقب القرار هي لقطة تصورها تسبح باستمتاع شديد تحت الماء تماما كما كانت ترى خديجة المقابل الطبقي لها تسبح باستمتاع وحرية، تتعمد المخرجة كجزء من توظيفها لعنصر الماء أن يكون حاضرا وبقوة في لحظات الحب والجنس والسعادة المختلسة في حمام السباحة وفي البانيو وسط رغاوي الصابون الكثيفة، وفوق المرجيحة بشعور مبتلة عقب ممارسة الجنس والاستحمام لعدة مرات. لو أن الماء لا يمثل عنصرا دلاليا وموظفا بعناية لكان من السهل أن نرى مشاهد الحب والجنس فوق الفراش المفتقد، ولكن لأن الحب والجنس هنا ليسا هدفا في حد ذاته، ولكن الحد الأدنى من الحياة وضروراتها الإنسانية، وبالتالي وجب حضور الماء بعد أن طال بنوارة وعلي التيمم لسنوات طويلة.

ورابعهم كلبهم

ثاني العناصر الذي أدرجتها المخرجة في سياق طرحها لاسؤال (الحدث والواقع) هو الكلب «بوتشي»، الكلب الخاص بخديجة ابنة شاهندة وأسامة والذي نراه في البداية وهو يهاجم نوارة ويكاد يفتك بها، ولكن مع تطور شخصيتها وتحقيقها بعض النمو الدرامي تتطور علاقتها ببوتشي ليصبحا صديقين حتى إن المشاهد يرتبط شعوريا بالكلب للدرجة التي يحزنه معها قتله على يد أخو أسامة الذي جاء يبحث بهستيرية عن أخاه الهارب.

من ميزات القوة في أي عمل فني هو توظيف العنصر الدرامي الواحد ضمن أكثر من دلالة أو سياق فبوتشي في البداية يمثل جانبا من الخصومة الطبقية التي تعاني منها نوارة، هو يرفضها وهي تخاف منه، وهو في نفس الوقت حارس هذه مملكة الرفاهية مثله مثل عشرات الكلاب الذين نسمع نباحهم طوال الفيلم يتجاوبون مع نباحه أو يعلنون عن وجودهم تحت أقدام أسيادهم (أسياد البلد على حد تعبير أخو أسامة باشا وهو يقتل الكلب في النهاية) فيما بعد سوف تترك شاهندة الكلب ونوارة والبواب ليكونا علامة على بقاء البيت مفتوحا بعد هروبهم، هنا يكتسب بقاء نوارة والبواب مع الكلب دلالة اجتماعية واضحة ونظرة طبقية مباشرة، وتتأكد هذه الدلالة الاجتماعية عندما تتوقف نوارة عن الخوف من الكلب ويصبح صديقا لها تعد له الطعام الفاخر الذي يكفي لإطعام أسرة بأكلمها (ثمة إشارة بصرية جيدة بين عملية قلي الطعمية /طعام الفقراء وبين عملية إعداد أكل الكلب بوتشي الذي يتناول فرختين مسلوقتين وكمية من الخضار السوتيه، وهي إشارة لا تأتي متتالية أي في لقطتين متعاقبتين ولكنها جزء من البناء الدلالي للفيلم ككل).

حين تتوقف نوارة عن الخوف من الكلب يتضح فكرة الطبقة الاجتماعية الواحدة التي ينتمي إليها كلا الكائنين في هذا المجتمع بل إن كلاب طبقة شاهندة وأسامة يبدو وكأنها تعيش بصورة أفضل من شريحة نوارة وعلي بأكلمها.

أخيرا يتخذ الكلب دلالة سياسية عندما يدافع عن نوارة ضد أخو أسامة باشا/عباس أبوالحسن الذي يحاول أن يستجوبها بعنف شديد حول وجهة سفر أسامة وزوجته لنفهم أن الأخ بعباءته التي يرتديها فوق البذلة لم يكن سوى الظهير الشعبي المعروف لكي يدخل أسامة باشا مجلس الشعب وينال كرسي الوزارة، هذا الكلب /الطبقة التي تحاول أن تدافع عن مثيلاتها من الطبقات الدنيا ضد جبروت طبقة أسامة وشاهندة فلن تجد إلا القتل كرد فعل من الطبقة التي طالما حمتها وأمنتها (ألا يبدو هذا قريبا من عمليات التصفية المعنوية التي تعرض لها البعض عقب يناير 2011 والتي أدت بالكثيرين من خدام النظام السابق إلى السجون أو اغتيال السمعة).

كانت شاهندة مكونة من الأب والأم والابنة الجميلة ورابعهم كلبهم ولكن حين جاء وقت الفرار أصبح لزاما أن يترك هذا الكلب هنا لكي يحمي البيت الذي هجره سكانه على أمل العودة عندما يعود كل شيء كما كان قبل يناير.

الحامي والحرامي ..

يبدو اسم نوارة اسما براقا على المستوى الإنساني ولكن موضعه في السيناريو هنا لا غرض منه سوى أحداث هذا التناقض الصارخ ما بين المعنى المشتق من النور، وذلك الخفوت والشحوب والأسى الملامحي والشكلي الذي تعاني منه الشخصية بحكم فقرها وعظام روحها التي طحنها العيش في بلد مجتمع كل شيء فيه طبقي وعشوائي وغامض وغير مفهوم حتى ثورته نفسها.

بالطبع لا يمكن إنكار الجهد الكبير الذي بذلته هالة المخرجة لتوظيف إمكانيات منة شلبي بداية من الشحوب وإضعاف الجسد، مرورا بالقضاء على طبيعة الإلقاء السريع للكلمات التي هي إحدى سلبيات الأداء عند منة في أغلب أدوارها، وكذلك القضاء على طريقتها الغريبة في السير.

من المعروف أن خمسين بالمئة من قوة الأداء لدى أي ممثل – ومن نصيب الجوائز التي يحصل عليها- ترجع إلى توجيه المخرج وإدارته ولطالما كان الاعتبار النقدي في جوائز التمثيل- التي حازت منها منة جائزة أحسن ممثلة في مهرجان دبي 2015- هو مناصفة التقدير ما بين الممثل والمخرج، حيث اكتمل الأداء بشكل ناضج نتيجة هذا الجهد الإخراجي في نوارة.

ولا شك أن المخرجة استطاعت توظيف هذا الشحوب والضعف الجسماني لصالح الجانب النظيف والشريف في الشخصية فهي ترفض خيانة الأمانة المتمثلة في رعاية الفيلا، وترفض التساهل في سرقة علي لها بل تدفعه لإعادة الساعة الثمينة التي سرقها وهي تعترف بكل شيء للشرطة لأنها ترى أنه لم يعد هناك مجال لإخفاء أي شيء بعد أن انكشف المستور. وهي ترفض أن تتزوج في فراش بشقة زوجها أو أن تمارس الجنس في غرفتها الصغيرة بالفيلا لأنها تريد أن تتعاطى مع الزواج كحق إنساني وليس كلذة مختلسة ولا يدفعها لذلك – أي ممارسة الحب والجنس بالفيلا- سوى رغبتها في الشعور بالأمان المعنوي والشعوري بعد أن تعرضت لقسوة أخو الوزير وعنفه غير المبرر عليها.

نوارة تحمل في داخلها ذلك الوازع الديني المعرف لدى الطبقات الشعبية المصرية والذي نراه في لقطة واضحة تنظر فيها إلى مئذنة أحد الجوامع التي تطل على الحواري الضيقة التي تحمل الماء عبرها. ونجده في رغبتها بأن تقوم بتسفير جدتها للحج، وفي دعائها المستغيث بالله وتساؤلها عن سر ما يحدث لها من نكبات متتالية، وهي في سيارة الشرطة بعد أن قبض عليها بتهمة السرقة من أموال عائلة الوزير المتحفظ عليها، وهي مفارقة شديدة السخرية والعبثية تصل إلى تخوم الكوميديا السوداء فالنظام فاسد، ولكن الشعب هو المتهم! والوزير السابق يسرق، ولكن نوارة هي التي يقبض عليها!

كان من الممكن أن يكون نوارة فيلما أكثر تميزا لو تخلص قليلا من ثقل المباشرة والخطابية التي اذدحم بها شريط الصوت خاصة، بينما يتعلق بتوظيف نشرات الإذاعة والبرامج الحوارية، خاصة في مشاهد الأتوبيس الخاص بنقل الخدم داخل الكومبوند، حيث بدى بعضها فجا، خاصة المؤلف منها (مصر بلد غنية بس منهوبة) فهذا ما نعرفه وندركه وتؤكد عليه الصورة بكل تناقضتها الصارخة فلماذا إذن الإصرار على تأكيد تلك المعلومة المكررة صوتيا بمختلف الوسائل (إذاعة وتليفزيون؟)، صحيح أن الفيلم يبدو في توجهه المباشر والواضح والبسيط قاصدا شرحه من المتلقين غير المخضرمين سينمائيا والذين ربما يحتاجون إلى التبسيط والتوضيح لضمان وصول السؤال الفيلمي إليهم، ولكن ليس معنى هذا أن يتحول الأمر إلى تكرار أشبه بتكرار الكتاتيب في تحفيظ القرآن.

ثمة فارق كبير بين سيل التعليقات الإذاعية والتليفزونية التي تنهال على المتلقي عبر سياقات الفيلم ومشهد واحد تحاول فيه نوارة أن تشق طريقا للميكروباص الذي تركبه كي تصل إلى شغلها في فيلا الوزير السابق عبر واحدة من مظاهرت (العيش والحرية والعدالة الاجتماعية) هذا الفارق هو فارق تعبيري وفني، فرغم المباشرة التي يتسم بها كلا المشهدين إلا أن مشاهد التعليقات الإذاعية تبدو أكثر جفافا من مشهد شق الطريق إلى أكل العيش عبر المظاهرة التي تنادي بالعيش!

رغم ذلك سوف يبقى نوارة واحدا من التجارب الفيلمية المهمة التي حاولت أن تطرح سؤالا بسيطا من خارج المقرر الثوري المفروض منذ يناير 2011 حتى الآن هذا السؤال باختصار: (ماذا فعلت الثورة للبسطاء من هذا الشعب؟).

رامي عبد الرازق – مصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *