الرئيسيةمتابعات سينمائيةالمليار والأثر قراءة لفيلم “المليار”*

المليار والأثر قراءة لفيلم “المليار”*

    ـ عنوان مثير:

لا ريب في أهمية ما تُعَنْونُ به الأفلام ، علما أن بعضها يأتي ملائمة كعتبة وكنص موازٍ يساعد على التلقي والغوص في ثنايا الفيلم بأحداثه وشخصياته وفضاءاته، وبعضها يمكن اعتباره فُضْلةً بلا أثر وازن على فحوى الفيلم وأحداثه والرسائل التي يود إيصالها إلى المشاهد ،وقد يكون العنوان للإثارة فحسب لنجد أن دلالته لا تسري على مضمون أو قصة الفيلم.

والحال أن عنوان الفيلم “المليار” عنوان ناجح باعتباره لفظا يحمل دلالة إغوائية وإغرائية لمقام المال في حياة الناس، وقد جعل المال بوابة لتحقيق المآرب و للاستيلاء على إرادات الناس وللاستعباد،و للتأثير على المبادئ وزوايا النظر تجاه الحياة، وهو ما تعكسه أحداث الفيلم،فـ”المليار” ظل أساسيا ورئيسيا في الأحداث ، فهو المغير من أحوال وأحلام البطل ، وهو المغير والمحول لنظرة المحيطين به تجاهه كشخص منبوذ سيصير كأنه السيد وهم العبيد الخاضعين لطلباته مهما كان أمرها. وبهذا يكون هذا العنوان طعما مشهيا لما يستتبعه من أحداث ، وكيف ستأتي معالجة علاقة الأحداث والشخصيات بصدده كقيمة لها أثرها في الانتقال من حال إلى آخر بديل وأحلى. وهو ما سيتكشف للمشاهد في رحلته عبر سياق أحداث الفيلم.

ـ فضاء الحلم بالبديل :

في فضاء مقفر يبعث على اليأس وعلى البحث عن الدرهم النادر …في فضاء يسري فيه الزمن ثقيلا بطيئا فيملأه أهله بالاشتغال على الإشاعات اليومية ومناقشة شؤون هذا وتلك..في هذا الفضاء يعيش بطل الفيلم وحيدَ الرؤية والهمّ ،يحمل أسماله المتسخة بفلسفته الخاصة إزاء ماضيه وحاضره قبل أن يثير اهتمام الجميع فيصير بطلا في طرفة عين.

تدور أحداث الفيلم حول شاب يدعى “ولد صفية”الذي يجد نفسه مضطرا للاقتيات والعيش من فضلات مطرح للنفايات،  يعيش وحيدا في كوخ ،يحمل معه همومه الخاصة قبل أن تختاره جمعية تنموية كأفقر شخص يستحق هبة مالية كبيرة تخلصه من الفقر إلى الأبد بإيعاز من جمعية عالمية همها محاربة الفقر.. ويشيع الخبر بين كل الناس ليعيشوا معه حلم الثراء فيتقربون إليه ويلبون طلباته باعتباره ملاذا للمساعدة المادية حال استلامه الهبة المزعومة ، وفي حفل تسلمها يفاجأ الحاضرون بكون قدرها لا يتعدى خمسة آلاف درهم. فينسحبون مصدومين .

فيلم ينقل إلى المشاهد حيا فقيرا راصدا لواقع مزر يعيشه قرويون يحاولون رأب الصدع المعتري لحياتهم عبر الصراع من أجل العيش، حي حالم بواقع بديل يطلون من خلاله على الرفاه ولو بقدر ضيئل ، مما يجعل الفضاء مناسبا للخبر الجديد الغريب الذي صدقه الجميع بعد الريبة في حقيقته.

ـ بطل الفيلم من التهميش إلى الاهتمام،ومن الاهتمام إلى التهميش :

يبين المخرج صورة البطل “ولد صفية ” في ثوب من الخصوصية والفرادة التي تجعله مختلفا مما يعزز من تهميش الناس له ، فهو المتسخ ، المقتات من النفايات، المجهول الأب، الفريد التصرفات ،الظاهر كاتما أسراره الدفينة التي تشغل دواخله فتزيده بعدا عن العوالم اليومية التي تجمع الناس .

ويربط “ولد صفية”علاقة عشق وحب مع امرأة مطلقة ينوي صادقا الارتباط بها ،وبدورها تبرز من خلال حواراتها معه عفتها ونبلها لتبقى الشخص الذي سيبقى معه وقد انصرف الناس عنه بعد أن ظهرت حقيقة الهبة الهزيلة جدا.

كل أحداث الفيلم انصبت حول أحوال البطل ولد صفية من حالة العزلة والتشابك العلائقي المتوتر مع من في محيطه إلى حالة الخبر المفاجئ الذي غير الجميع،وإذا كانت بقية الشخصيات يطبعها التناقض والصراع من حيث سلوكاتها وآرائها وتوجهاتها قبل أن يوحد وجهتها التملق لبطلة الفيلم بعد شيوع خبر هبته المنتظرة، فإن شخصية عشيقته الأرملة يمكن اعتبارها الشخصية الستاتيكية الثابتة على مبدئها الذي لم يغيره الطمع في النهل من ثراء بطل الفيلم،وهي التي حفظت عمق حبها له لتبقى الوحيدة معه حين انصرف الجميع عنه. وكأن الفيلم يريد أن يمرر رسالة تمجد البقاء على المبدإ مهما كانت الأحوال، فقد أحبته مُعْدَما وحيدا واختارت الارتباط به وقد زال ثراؤه المزعوم ، وقد رد على الجميع أثناء مداخلته بأنهم كلهم أبوه مجيبا عن سؤال سبق أن طرحته عليه عشيقته في يوم من الأيام .

ـ الرسالة المحورية في الفيلم:

وانطلاقا مما سبق ، يفضح الفيلم ظاهرة النفاق والرياء والأنانية وحب المظاهر السائدة كسلوك ذميم وغير نبيل.

وهو بذلك يرصد لظاهرة استعباد المال للإنسان وجعله يغير كثيرا من سلوكياته لكسب رضى المالك له طمعا واستجداء من أجل المساعدة والانتفاع ولو بالقليل منه.

كل الشخصيات البارزة في الفيلم تغيرت نظرتها بمجرد سماع الخبر المفاجئ غير المنتظر. وبذلك يفضح كثيرا من الهنات والثغرات والمواقف الاجتماعية التي تطال كل المجتمعات البشرية التي يسودها الفقر والتهميش إزاء المال وأهله.

ـ الفيلم يصور الظاهرة بعمق :

قدم الفيلم بلقطات ومشاهد متنوعة ومحبوكة تعكس بلا تصنع ما يجري في مجتمع تستبد به الزبونية والطمع والتملق والأنانية. وقد أجاد المخرج في اختيار الشخصيات بملامحها وتصرفاتها وحواراتها المتوائمة مع ما أسند إليها من أدوار.

وانطلاقا من هذه الحيثيات ، يجعلنا الفيلم نعيش لحظات مفعمة بالمفاجآت وبالتغيرات التي لحقت سلوكات الناس فغيرتها ليصير الجميع يسعى لحظوة التقرب إلى المشرد الذي سيصبح مليونيرا بعد أيام، كما يجعلنا شهودا على واقع قاهر تحت سقف الفقر وما يجره من جرائر وأطماع، وما يفعله بالقلوب والعقول.

اتسمت أحداث الفيلم ديناميكية خاصة وفق أحداث متلاحقة بوثيرة سريعة تجعل المشاهد يترقب ويتوقع ما سيحدث انطلاقا مما حدث ويحدث ، مما جعل الفيلم بعيدا عن أجواء الرتابة والانتظار الطويل لكونه يخاطب في ذات الآن وجدان وعقل متتبع أحداثه حتى النهاية. وبنية وحبكة الفيلم لا تترك للمشاهد مجالا للشعور بالملل مما يجعل للفيلم سلطة الإغراء والغواية . وقد استطاع المخرج جعل كثير من الوقائع وهي تتحقق في فضاء الأحداث تنفض عن نفسها بعض النمطية والرتابة انطلاقا من تفاصيل متنوعة الوقع على نفسية المشاهد.

فيلم المليار يفتح نافذة إزاء الأوضاع المزرية التي تجعل الناس يبذلون قصارى جهودهم  من أجل الثراء ولو كان ذلك على حساب نبل الصفات ومكارم الأخلاق ،مما يجعله دوما ضمن مسيرة التحول من الفقر إلى الغنى ضمن نطاق الأحلام المبتغى تحققها بغض الطرف عن الوسيلة التي يتم بها ذلك.

وينتهى الفيلم وقد أبرز صورة المال وكيف يمكنها أن تشغل العام والخاص بعيدا عن المبادئ المبنية على الرفض والقبول، والسلب والإيجاب.

 

لحسن ملواني

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هامش :

*”المليار” فيلم سينمائي مغربي عرض في القاعات السينمائية ، صُوِّر بمدينة الرباط ، وهو من إخراج  محمد رائد مفتاحي ،و سيناريو توفيق حماني ،بطولة ربيع القاطي، و حسناء المومني، و محمد عاطر، عبد الله شيشا وساندية تاج الدين، ، وزهور السليماني، وزهيرة صادق، وعبد الحق بلمجاهد، وآخرين…

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *