محمد اليونسي من المخرجين المغاربة الذين لا يبحثون عن الأضواء ولا يركبون موجات التكنولوجيات الحديثة للتواصل الجماهيري التي تمنح إمكانات واسعة لترويج المعلومات المزورة ولخلق أصنام من المبتذل ركوبا على شعبوية وابتذالية في الفكر والثقافة والفنون تجتاح العالم بكامله.
لا يركب سعار وهم الشهرة الشعبوية والوهج المؤقت، لفرض وجود مستمر على ما يشبه شاشات الوهم والخيال وليس التخييل.
نحاور هنا صاحب فيلم “الوشاح الأحمر”، وهو الفيلم الروائي الطويل الذي صنع صورة صارخة التناقض لصاحبه ببلد من الصعب التخلص فيه من قسوة الأحكام المسبقة، وخاصة عندما تتلاقى عليه ظروف تهيج من لا يستعمل عقله ولا يسأل نفسه ولا يستقصي للتمييز بين الدعاية المغرضة والحقيقة المختلفة حقيقة أو منطقا.
مرحبا محمد اليونسي، هلا عرَّفت القراء بنفسك بداية ما دمت من الذين يهربون من الأضواء.
أنا من مواليد 1969، بمدينة فاس التي علمتني حب الموروث الشعبي الأصيل، درست بها حتى التعليم الثانوي. كانت البداية مع عالم الفن بالتعرف على المسرح ثم تأسيس جمعية مسرحية مع مجموعة من أصدقاء الطفولة، وبعد جولة بمسرحية “حفار القبور” بمدينة فاس ونواحيها بنجاح أسس أول شركة ـ شركة ليزبيك ـ بمدينة فاس في المجال المسرحي.
حصلت الفرقة على الدعم المسرحي وكذلك دعم الترويج في أول موسم لها، وهذا كان بالنسبة إلى مدينة فاس إنجازا تاريخيا؛ وذلك بمسرحية “شاري الهم”. شارك تفي ورشة تقنيات كتابة السيناريو نظمت بمدينة فاس، وعاودت متابعة دراستي الأكاديمية وذلك بالتسجيل بمعهد “سيني كور” بكندا، أسست شركة “المدينة للإنتاج” الذي تهتم فقط بالمجال التلفزي والسينمائي. أنتجت أكثر من خمسة أفلام تلفزيونية مع مخرجين مرموقين، كالجيلالي فرحاتي وعبد السلام الكلاعي.
كيف رسوت في مهنتك على ميدان السينما؟ وهل يشكل هذا النمط التعبيري الفني اليوم لك فضاء الوجود الرئيسي مهنيا فقط أم هناك تلازم بين المفيد والممتع فيه بالنسبة لك؟
لم أفكر، يوما ومنذ وطأت عالم السينما، في أنني سأتخذها مهنة لي. لقد كنت دائما أرى فيها ذلك العشق الذي طالما انتظرته منذ طفولتي، حيث كانت حكايات جدتي وحكايات “حلقات راس القليعة” بفاس تملأ مخيلتي ولا تفارقها.
كنت أتخيل لكل قصة سمعتها كل حيثيات الوجود من ديكور وملابس وألعب دائما دور البطولة. لذلك، لم أكن أفكر في ولوج عالم السينما كمِهَني وإنما كعاشق، وسأظل كذلك؛ لأن هذا النمط التعبيري الفني أصبح يشكل بالنسبة إليّ مسألة وجود أكثر مما يشكل مسألة المفيد والعملي.
ما الذي جعل فيلمك المثير “الوشاح الأحمر” يكون علامة على تمكنك من التعبير السينمائي، دليل ذلك عرضه لمئات المرات وطنيا وإقليميا وعالميا عبر المهرجانات والسفارات والملتقيات، كما أنه كان مصدرا لجدل قوي وانفعالي، حتى لا أقول عدواني ضدك؟
فيلم “الوشاح الأحمر” كان ثمرة لتجربة تجاوزت العشر سنوات في ميدان السينما. إنه فيلم روائي طويل لم يأت بمحض الصدفة، كما يقول البعض؛ ففيلم “الوشاح الأحمر” جاء بعد أكثر من 15 عملا قمت بإخراجه، من أفلام قصيرة تجاوزت التسعة أفلام، وكذلك فيلمين طويلين، زيادة على الشريط الوثائقي، ثم البرامج الإذاعية والتلفزيونية.
كل تجربة مما سبق كان لها أثر على مسيرتي، وعلى تفكيري أيضا؛ فالمرحلة الأولى، والتي أسميها مرحلة اكتشاف عالم السينما وهي المرحلة التي بدأت أعمل على إخراج الأفلام القصيرة من مالي الخاص، كانت بالنسبة لي درسا في تعليم تقنيات الإخراج أكثر من التركيز على أشياء أخرى. أما المرحلة الثانية، والتي أسميها مرحلة التطور.
وهي المرحلة التي عملت فيها على إخراج الأفلام الطويلة الأولى، كانت بالنسبة إلي بمثابة مرحلة بحث عن الذات داخل هذا العالم الجميل، كما كانت أيضا مرحلة البحث عن أنواع أساليب التعبير السينمائي.
أما مرحلة النضج فقد بدأت مع فيلمي الروائي الطويل “الوشاح الأحمر”، حيث أصبحت أهتم بمناقشة وطرح الأفكار عبر السينما أكثر من الاهتمام بالتقنيات التي أدركت أنها ليست سوى وسائل لغوية أكثر منها أدوات تعبيرية.
كل هذا التطور كان في الظل.. لذلك، كان فيلم “الوشاح الأحمر” مصدر جدل قوي حولي وحول قدراتي، وذلك لأن معظم المهتمين لم يواكبوا مسيرة تطوري، بل منهم من لخص تجربتي في فيلم “ألو 15″؛ وهو الفيلم الكوميدي الذي نال إعجاب الكثير من الناس، وليس النخبة طبعا.
كان رد الفعل عدوانيا، إلى درجة أن منهم من اتهمني بترويج البروباغاندا لبلدي؛ لكن بعد عرض فيلم “الوشاح الأحمر” لمئات المرات وطنيا وإقليميا وكذلك عالميا، إما عبر المهرجانات أو السفارات والملتقيات، تغيرت الكثير من الأحكام العدوانية وغير المؤسسة، مما جعل أكثر المهتمين بالمجال السينمائي ينتبهون إلى مسيرتي ولتقييمها من جديد على أسس أسلم وأكثر إنصافا.
ينتظر جمهور السينما، نقادا وشغوفين وهواة ومحترفين، العرض الأول لفيلمك الأخير “دقات القدر”.. أود أن أسألك بداية لماذا تأخر استكمال الاشتغال على فيلمك بل إنجازه أكثر من 3 سنوات بعد حصولك على الدعم؟
كما تعلم، سيدي، أن الصناعة السينمائية في بلدنا ما زالت في طور البناء، وبأنها لم تكتمل بعد. فنحن ما زلنا نعاني نقص في بعض الاختصاصات بل في أهم الاختصاصات..
لذلك، فنحن ما زلنا نعاني كثيرا في مجمل مراحل صناعة الفيلم السينمائي بالمغرب. أول النقائص الجانب المالي، حيث كل المبالغ المخصصة لدعم الأفلام المغربية لا تتجاوز ثمن مشهد في فيلم سينمائي فرنسي، ولن أتحدث عن سينما هوليود. لذلك تجدنا نعاني قبل وأثناء التصوير من قلة الإمكانات.
أما ثاني الجوانب فيتجلى في بعض الاختصاصات في مرحلة المونتاج، والتي تعد مهمة في صناعة الفيلم، وسأضرب لك مثلا في المؤثرات البصرية ـ D 3 ـ التيكان من المفروض أن أعمل بتقنياتها أثناء التصوير؛ لكن لنقص المختصين في المجال تغاضيت عن الأمر، واضطررت لبناء ديكور ضخم تعدت ميزانيته السبعين مليون سنتيم…
كل هذه العوامل أثرت في مسيرة الفيلم من ناحية التوقيت، وكذلك مرحلة المونتاج أخذت مني حوالي سنة كاملة؛ منها ما هو مردود لقلة الإمكانات.. ولم أستطيع إتمام تلك المرحلة حتى حصلت على دعم الإنتاج من الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزيون، كما مرده أيضا لقلة المختصين في المونتاج والتأثيرات البصرية.
غيرت الكثير، حسب معلوماتنا وحسب الملف الصحفي لفيلمك، من اختياراتك الروائية والفنية والتقنية مع هذا الفيلم.. هلا حدثتنا عن الرهانات الجمالية لك في هذا الفيلم المنتظر دخوله المنافسة الوطنية للمهرجان الوطني للفيلم مع بداية هذه السنة الجديدة، وهو الفيلم الذي يبدو أنك اشتغلت فيه على ثنائية التاريخ والحب؟ فما طبيعة العلاقة الجمالية التي نسجتها بينهما في فيلمك هذا؟
سأقول لك إني دخلت مرحلة جديدة في حياتي الفنية والتي سأسميها أيضا مرحلة الإبداع، حيث تخطيت مرحلة النضج، وكان أولها كتابة رواية “السمفونية الخامسة” التي ستتحول إلى فيلم “دقات القدر”.. ومن هنا، أقول إنني ولجت مرحلة الإبداع والتي تتجلى في إنتاج الوحدات الفكرية، وتخطيت مجرد مناقشتها.
وبالتالي، أصبحت لي رؤية ذاتية على مجموعة من المفاهيم والمواضيع الثقافية والاجتماعية كما السياسية. كل هذا التطور صاحبه تطور في أدوات التعبير طبعا، فأصبحت أهتم بجمالية الطرح وليس الصورة فقط.
ولأن الجمالية تتحكم في تكوين الأثر، فهي أيضا تعطي القدرة على إبداع الجديد انطلاقا من توافق سابق الوجود وعلى الحفاظ على علاقة شكلية، على الرغم من تبدل العناصر، كما تمكن من النفاذ إلى المخزون التراثي لمجتمع معين، لذلك فاختيارها كان مبني على هذا الأساس.
وما دام التاريخ هو الشاهد على كل الدروس والعبر التي مرت، فقد وجدت أن كل أسباب الحروب كان هو النقص في الحب، ولو وجد الحب في كل الحالات لما وجدت تلك الحروب. هكذا حاولت وضع التاريخ بين تساؤلات وجودية، لأني وصلت إلى قناعة أن الفوارق والاختلافات من أصل البشرية؛ لكن بالحب نجعلها تذوب وسط المشترك الإنساني والكوني.
يبدو أن فيلم “دقات القدر” حكي مركب بين المحلي والغيري، وبين التاريخي والفلسفي، ألا تعتقد أن اعتناق المنحى الفلسفي الرمزي في الاشتغال السينمائي الوطني، حيث يراهن الجميع تقريبا على الفرجوي بمعناه البسيط، فيه نوع من المغامرة بالنجاح في شباك التذاكر الضروري لاستمرارية الإنتاج ودوام الإشعاع الجماهيري للفيلم المغربي؟
عندما نتحدث عن السينما فيجب أن لا ننفي نوعا من أنواعها أو نقلص قيمة نوع مقارنة بآخر؛ فلكل نوع عشاق ودور يقوم به داخل المنظومة المجتمعية. للفيلم الفرجوي جمهوره الخاص، فهو ذو دور ترفيهي، وهذا لا ينقص من قيمته؛ فالقيمة الفنية بالنسبة إلي تتجلى في الحرفية والمهنية في الاشتغال على لون ما..
لذلك، فالاشتغال على أي لون من ألوان الأفلام لن ينقص من استمرارية الإشعاع الجماهيري للفيلم المغربي، بل كل لون يستقطب نوعا من الجماهير، ليبقى الرابح الأكبر هو السينما المغربية.
أما ما ينقص من إشعاع الجماهيري هو تقديم أفلام غير منضبطة تقنيا وفنيا؛ لأن حتى “فيلم المؤلف” له جمهور خاص وعريض سواء في المغرب أو خارجه، بل هو الواجهة الثقافية لكل بلد في مجموعة من المهرجانات، كما في القاعات السينمائية..
لذلك لا أرى في الاشتغال على المنحى الرمزي والفلسفي في السينما الوطنية؛ لأني أعرف أن لدينا جمهورا ذواقا ومتعطشا لهذا اللون السينمائي، شريطة توفير الانضباط التقني والفني للفيلم.
حاوره: إدريس القري