في فيلمه الجديد “أنا القبطان (2023)، الذي عرض مساء أمس ضمن العروض الخاصة لمهرجان مراكش السيمائي خارج المسابقة الرسمية، يقرر المخرج الإيطالي المتميز ماتيو غاروني صاحب التحفتين “غومورا” و”دوغمان” أن يغير اتجاهه في سياق آخر لايجد له في إيطاليا سوى الوجهة الأخيرة التي سيصل إليها.
“أنا القبطان” فيلم عن الهجرة السرية نحو أوروبا كما لم نشاهدها من قبل في أفلام تكررت فيها التيمة ولم يتكرر الإبداع في أغلب الأحيان.
نتابع في هذا الفيلم شخصية “سيدو”، الشاب ذو الستة عشرة سنة وهو يخوض مغامرة الهجرة السرية انطلاقا من السينغال ومرورا بليبيا حيث سيذوق الأمَرَّين قبل الوصول إلى إيطاليا صحبة صديقه عيسى الذي سيضيع منه قبل أن يجده.
حتى لو كانت التيمة متكررة يجد لها المخرجون المبدعون تخريجات تبهرنا، وهذا ما فعله غاروني في فيلمه هذا بحيث كسر قساوة مسار شخصية الرئيسية وهي في ذروتها بمشاهد شاعرية عبارة عن أحلام لهذه الشخصية نحلق فيها في فنطازيات تعبر عن دواخل الشخصية وتستجلي استيهاماتها. فيما كانت نقطة الضعف الكبيرة في الفيلم هي تلك التي حاول فيها لمتميز غاروني أن يجعل من “سيدو”شخصية قيادية كونها كانت تستمد قوتها الدرامية من ضعفها وليس من قوتها التي كان المخرج وكأنه وو يريد كسب جمهور واسع يلوي عنقها ليذهب بها لمسارات لا تستحملها.
الأداء التمثيلي للممثل الشاب الذي أدى دور “سيدو” كان جيدا خصوصا في تعابير وجهه طيلة لحظات الفيلم.
مشاهد الصحراء كانت جميلة وموحية ومعبرة عن توهان الشخصيات في ذلك الفضاء الجميل والقاسي معا. وقد صورها غاروني بشكل جمالي مفكر فيه.
قد أفضل فيلم “دوغمان” ولايمكن لي أن أجادل في تميز “غومورا” الفيلم الذي أعلن عن موهبة غاروني، لكني لا أستطيع أن أقلل من قيمة أنا القبطان كون الموهبة الإخراجية ورؤيتها المتميزة تستطيع أن تُعلي حتى من قيمة المواضيع المكرَّرة والمطروحة باستمرار وتعطيها صبغة إنسانية تدهشنا وتجعلنا نعيد النظر فيما كنا نعتبره من المسلمات.
عودة لفيلم “دوغ مان”
تميزالفيلم السابق لماتيو غاروني “دوغمان”، بكونه فيلما بسيطا وعميقا في آن واحد، وتتجلى بساطته في كونه ارتكز على قصة ليس فيها افتعال وأحداث تُحكى بشكل خطي لا يكسره أي شائب، فيما يتجلى عمقه في غوصه في أعماق النفس البشرية بشكل يذكرنا مثلا بشخوص دويستيوفسكي، خصوصا الشخصية الرئيسة “لوتشيو” مربي الكلاب ، هاته الشخصية التي أداها الممثل مارشيلو فونتي بحرفية وعمق كبيرين استحق عنهما جائزة أفضل ممثل بمهرجان كان السينمائي، كوننا نقرأ كل معاناة هذه الشخصية في تعابير وجه الممثل، إذ هي من تلك الشخصيات السلبية التي تتلقى الضربات باستمرار ولا ترد عليها، لكن لوتشينو سينفجر في النهاية ويرد الاعتبار لنفسه رغم أن نفسيته لايبدو أنها قد ارتدت لسويتها بل ازدادت تعقيدا ومعاناة.
ويقول ماتيو غاروني عن سبب اختياره لمارتشيلو فونتي لأداء الشخصية الرئيسية لفيلمه : “إنه يمتلك وجها من تلك الوجوه القديمة الطراز، ولديه نظرة تتميز بالحنان والعطف والإنسانية، ويعرف كيف يمثل بعينيه، رأيت فيه شبيها لباستر كيتون، ولا أظن أن ممثلا آخر كان ليلعب الدور أفضل منه، إنه يجسد آخر تجليات البراءة”. ويمكن لي أن أؤكد هذا إذ أن مارتشيلو فونتي الذي حظر مع الفيلم للجونة وتفاعل بعفوية مع جمهور المهرجان يبدو أنه يمتلك كل هذه الصفات.
يرجع ماتيو غاروني في فيلمه هذا لأجواء مشابهة لفيلمه”غومورا”، أجواء العنف والمخدرات والشخوص الهامشية، وحتى الفضاءات التي يختارها توحي بتلك الهامشية المطلقة والبعد عن المركز “السَّوِي” والمُرفَّه.
على العموم فإننا نجد في فيلم “دوغمان “أجواء طبعت مسارات كبار المخرجين الإيطاليين وميزت السينما الإيطالية عن غيرها من السينمات، فحتى والمخرج يغرق ويغرقنا مع شخصية لوتشينو السلبية التي تعاني رغم حبها للناس وللحيوانات إلى درجة يغامر فيها بإنقاذ حياة كلبة رغم مايكتسي ذلك من مخاطر، فإنه لاينسى أن يضع لمسات من الكوميديا في مسار حكيه يخفف بها من ثقل التيمة وقساوتها..
عبد الكريم واكريم-مراكش