الرئيسيةمتابعات سينمائيةمشاهد(ة) الذاكرة سينمائيات أمجد ناصر  

مشاهد(ة) الذاكرة سينمائيات أمجد ناصر  

“كانت للحياة والثقافة وجه واحد، وكانت الحياة تعلو ولا يعلى عليها”

                                                                أمجد ناصر

 

“السينما هي فن الحياة بالدرجة الأولى”

                             أندري بازان

 

“لقد اصبحت الأفلام تشاركنا كياننا، لقد صارت شظايا أخرى لما يحدث لنا، ومزيدا من الأوراق التي تخلطها الذاكرة دون تحديد أي مكان لها في المستقبل”

                                                                                                 ستانلي كافيل

رحل عنّا الكاتب أمجد ناصر، في موت وصفه وهو في الحياة في أكثر من مناسبة، وخلّف لنا نصوصا لا زالت تنبض بحياتها الخاصة وتعدنا بمفاجآت أخرى. كتابته تعبّر عن روح عصرها حين لا تستقيم لأي تصنيف، وتتجرّد بطاقتها الخاصة من أي هيمنة تحديدية وتقنينية للجنس الأدبي. هي الشعر، هي النثر. هي القصيدة، هي الرواية، هي كتاب السفر وكتاب يبدو ككتاب اليوميات. هي المقالة، هي الخاطرة التي يتدثر فيها النقد وتحتجب فيها النظرية. ودون الاتفاق على أي حد أدنى من التجانس، تمنح هذه الكتابة نفسها كمسرح نبيل تتجاور فوق خشبته، بكل كرم وأريحية، وانفتاح وليبرالية، كلّ هذه الأنواع والأجناس، رافضة لأي مساومة تقف في طريق البوح عن هموم الإنسان والهمّ الانساني. فكتابة أمجد ناصر تحتكم لهذه المعادلة المعقدة جدا التي لم تتحقق لكثير من مجايليه في شرق الأرض وغربها: كلما كانت احتفاء علنيا بالإرث الشعري والأدبي كلما أفصحت أكثر عن علاقة حبّها اللامشروط لما هو للإنسان وما هو إنساني. كتابة فيها “للحياة والثقافة وجه واحد، (وفيها) تعلو الحياة ولا يعلى عليها” (1).  كتابة، في علاقتها مع القارئ، تنتقي وتنفتح بكل كرم.

كيف نقرأ كتابة كهذه؟ كيف نقرأ أمجد ناصر؟

قراءة أمجد ناصر طموح ينساق مع كتابته في تنوّعها وتنويعاتها لتصير هي الأخرى ملاحة حرة في بحر من التحوّلات. إبحار لا خطة مسبّقة لمساره، ولا دليل، فقط هذه البوصلة التي تتحرك إبرتها كنتيجة لموقف، أو اختيار ثقافي أو حساسيّة، أو كل هذه الشروط متداخلة معا.  نصوصه تسبح طليقة كجزيئات أو ذرّات في كون لا حدود لمعالمه. نصوص تحتجب وتنكشف. تتكتّم في أشياء وتبوح في أخرى. تخاطب القارئ الذي تختاره أكثر مما هو يختارها. فالقراءة في كتابة أمجد ناصر تجربة تحوّل وتحويل، ليس للمسكوك أو المطلق فيها أي موضع أو سلطة. كتابة نقول عنها الكثير ولكن نقول على ضوءها الأكثر.

كتابة أمجد ناصر من هذه النوعية من الكتابة التي تصرّ على استدعاء السجل المفاهيمي لجيل دولوز. فهي تغنى بمحفزات السفر والترحال، ولا تستقرّ على ما “بات ساكنا جامدا محافظا” كما كتب صبحي حديدي في مقدمة “حياة كسرد متقطع” (2)، النص النموذج الذي دشن به أمجد ناصر لكتابة عربية جديدة. كتابة تقترح كذلك “قراءة” عربية جديدة تستعيض عن الاتكاء على جهاز التلقي النمطي، المكرّس بفعل العادة والإعادة، بالتجميع الجذموراتي rhizomatic connections الذي يجعل منها توليدا إبداعيا دائم التجدّد، دائم الحركية، دائم التنقل عبر كل الآفاق. إنها “الكتابة بلا سواحل” كما وصفها كذلك الكاتب المغربي رشيد يحياوي في مقاربته لشعرية أمجد ناصر ذات النفس الدولوزي (3).

 

تقدم نصوص أمجد ناصر نفسها كمجال لسفر مفتوح يتجاوز في معابره حقل الكلمة إلى اللغوية الواسعة للوسائط والأنماط التعبيرية التي ترتبط بفنون أخرى، وبالأخص هذه التي تدور في محور الصورة. فهي كتابة تتجذر في هذا المشروع المخضرم بين الحداثة ومابعد الحداثة العربية، بالتالي فهي تفسح لنفسها الفرصة والسيّاق للتّفاعل مع هذه الوسائط في أوجه لا تقتصر فقط على التّعالقات النصية المرتبطة بالمضمون، بل تتجاوز ذلك للأنساق والصيغ التعبيرية الخاصة بهذه الوسائط. في فسحة هذه الأرضية التعبيرية والجمالية التي تتنقّح فيها الكلمة الأدبية بالصورة الفوتوغرافية والسينما والتكنولوجيا الرقمية، يحمل نص أمجد ناصر هذا الوعي الضمني والمضمّن بكونه يخاطب قارئا أصبحت ذائقته وحساسيته مشروطة بأنماط للتلقي ترتبط أكثر وأكثر بهذه الوسائط. وكونها تحمل هذه الميزة فهي نصوص تشكّل عيّنة نموذجية لهذه الكتابة التي تستدعي في قراءتها ما اصطلح عليه أومبيرتو إيكو بالنية التناصية intentio intertextualis، والتي أدرجها إلى جانب النوايا الثلاث التي تتحكم في عملية القراءة، نية المؤلف intentio autoris ونية القارئ intentio lectoris ونية النصintentio operis .  نصية كتابة أمجد ناصر تستفز القارئ في البحث عن القرائن المباشرة للتعالقات ونسج شباك المقارنات والتي لم تعد تقتصر على التمحيص في صور التأثير وأنماط المحاكاة، بل تجاوزت ذلك إلى خلق وتوليد حواريات جديدة داخل هذا الهامش الواسع الذي تمنحه الشبكة التناصية للموسوعة الثقافية، وما تسوغه روح العصر zeitgeist.

كتب أمجد ناصر في ظرف تاريخي أصبحت فيها الصورة، وبشتى تجليّاتها، شكلا أساسيا وقناة وسائطية لا تفرض شروطها فقط في عملية إدراك الواقع، وتشكيل صيغ تمثلاته، بل تقحم أبجديتها في عملية التفكير في هذا الواقع بغض النظر عن حضور نية الكاتب في هذا التفكير أو عدم حضورها. وكتابة أمجد ناصر تغنى بالمؤشرات التي تسوغ هذه المقاربات الحوارية التي تحول عملية القراءة لما نعته الكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطو بالتمرين المقارن، والذي يلح على الحضور والاستحضار في مناسبة كل قراءة.

في تصدير هذه المقاربة، المحدودة الأبعاد والنتائج بحدود أفق اجتهادنا، أدرجنا ثلاث عتبات نصية كلها تنصب في هذه الجوانب التي تتقاطع في التجربة التأليفية لأمجد ناصر. فكتابته تنطلق من الهم الإنساني بالدرجة الأولى، وتمتح من الحياة، نهجا ومنهجيا، حتى في أعقد تلويناتها التعبيرية وتصميماتها الجمالية الغائصة في البلاغة العربية. فأمجد ناصر راهن على هذه الانماط الكتابية كالشعر المنثور والمقالة والسردية التسجيلية في أدب الرحلة التي تقربه أكثر من تخوم السينما، الفن الملتصق أكثر بالإنسان والحياة. وكونه كذلك فكتابته تحمل أثر الصورة خصوصا وهي تعالج مضامين تسكنها الصورة بكل أبعادها، وعلى اختلاف طرق مقاربتها، كما هو حيز الذاكرة. فعصرنا هو عصر الإنسان الذي يحمل ذاكرة سينمائية، واًصبحت السينما بالنسبة له شرط أنطولوجي حين تشاركه في تشكيل ذاكرته، كما نخلص لذلك من مقولة فيلسوف السينما الأمريكي ستانلي كافيل. تستفزنا مقولة هذا الفيلسوف أعلاه للاتجاه بالقراءة التي تعتمد الحوارية بين الأدب والسينما نحو مجالات أخرى خارج أبعاد العلاقة بين النص الأدبي والفيلم السينمائي التي حوصرت، وبدرجة لحد الاستنفاد، في حدود التعديل الأدبي في السينما وعلاقة السينما بالشعر، وإشكاليات من قبيل النسخة والأصل والصدق والخيانة.

في هذه المعطيات نجد ما يسوغ لرغبتنا في قراءة مختلفة لأمجد ناصر، انطلاقا من منظار التعالقات، وعلى ضوء الصورة السينمائية، وبالأخص هذه العينة منها التي تمنح لقراءتنا فرصة التوليد المختلف كما هي حال السينما اللاتخيلية Non-Fiction Cinema التي أبدع فيها المؤلف السينمائي الفرنسي، مجايل أمجد ناصر، كريس ماركر Chris Marker. وكل قراءة تحرّكها رغبة من هذا النوع تظل مغامرة وبالتالي فنتائجها لن تكون بمنحى عن ردود الفعل التي ترفضها وبنفس درجة القوة التي ترحب بها ردود فعل أخرى.

في الصورة والذاكرة

تستمد كتابة أمجد ناصر حيويتها وجماليتها من هذه الحركية وخفة التنقل بين مستويات مختلفة في قنواتها التواصلية مع القارئ. هذه الحركية تنعكس كذلك في مستويات التلقي المرتبطة بعملية القراءة، حيث تصير هذه العملية حفلا كرنفاليا بكل امتياز، تتجاوز فيه الكلمة أبعادها الإدراكية المتمحورة حول اللفظ إلى أبعاد تعبيرية وجمالية خارج أفق هذا الأخير. استجلاء بعض أوجه جمالية هذه الكتابة يتحتّم كذلك مقاربتها بآليات استقرائية هي الأخرى تناسب هذا التحول والحركية، وتتجاوز، كشرط وكنتيجة لذلك، حقل الكلمة والمركزية اللّفظية. وهو طموح استقرائي توليدي له ما يشرعنه في نصية أمجد ناصر العابرة للأنواع والأنماط التعبيرية، خصوصا هذه النصوص، ونركز هنا على نص يوميات “بيروت صغيرة بحجم راحة اليد” (2013)، التي يمكن أن تقرأ عبر مسلاط الصورة السينمائية، وبالأخص على ضوء هذا المجال البيني والمتنوع الذي تمنحه السينما اللاتخيلية.

استحضار الحقل المعرفي المرتبط بالصورة، في سياق كتابة أمجد ناصر المرتبطة بالذاكرة والأمكنة، له ما يسوغه كذلك في سياق الخطاب الابداعي الجمالي الآني الذي أصبح يتميز أكثر من أي وقت مضى بتداخل وتلاقح الوسائط التعبيرية من جهة، وتقاطع هذه الوسائط بشكل مخصب حين يتعلق الأمر بموضوعة تسود معالجتها في إبداعات ما بعد الحداثة كتيمة الذاكرة. فبعد كتابات الروائي الفرنسي مارسيل بروست، والأدبيات النقدية التي عالجتها، تكرست هذه الفكرة عن الذاكرة كصورة ذهنية بالمعنى الأيقونوغرافي رهينة بتشكيل وتصميم المخيلة، أكثر منها عملية لاسترجاع مضمون ذاتي كامل الملامح يتواجد في خزان الماضي الزمني. فالذاكرة في جوهرها تمرين مرتبط عضويا بالمجال البصري حيت تكون من جهة نتاجا للصورة ومن جهة أخرى مٌنتج لهذه الصورة. أصبح كذلك من الصعب الإشارة إلى كتابة الذاكرة هي الأخرى في المجال الأدبي دون هذه المرجعيات ذات الطابع والمهمة التصويرية مثل الفوتوغرافيا والسينما، و لا سيما هذه الأعمال التي تبني على فكرة الذاكرة كما تبلورت من خلال كتابات بروست وتأملات المفكر الألماني فالتر بنيامين، مثل أفلام المؤلف السينمائي الفرنسي ألان روني  Alain Resnaisفي السينما الخيالية ورائد سينما المؤلف اللاتخيلية مواطنه كريس ماركر.

من جهة أخرى، أغنت الإمكانيات التعبيرية والجمالية للصورة الرقمية الوسائط ذات الطابع الأيقونوغرافي بطاقة تسجيلية قوية، وبشكل حوّل مفهوم “الذاكرة العملية” Practical memory الذي وضعه المفكر الألماني فالتر بنيامين إلى واقع معرفي فعلي وملموس. ينطلق فالتر بنيامين من هذه الرؤية للصورة كحيّز يتحرك فيه الزمن بشكل مختلف، وللذاكرة كوسيط تثوي في تلافيفه طبقات الزمن اكثر من كونها آلة تحفر في تضاريس هذا الأخير. بناء على هذه الرؤية تصبح الصورة المرتبطة بالذاكرة مجالا وحقلا للتّنقيب والحفريات يتجاوز ما تفصح عنه هذه الصورة في مستواها السطحي المباشر. وتجد آراء ومفاهيم فالتر بنيامين بخصوص الذاكرة والصورة والمفاهيم المتولدة عنها حقلا خصبا في المتون الأدبية التي تستدعي الحساسية البصرية في توليفها لعوالم الذاكرة، مثل نصوص الكاتب الاسباني المغربي خوان غويتسولو Juan Goytisolo أو الكاتب الفرنسي الإسباني خورخي سمبرون Jorge Semprún. وكتابة الذاكرة عند أمجد ناصر حين تتصادى مع هذه المتون في طرحها وطريقة معالجتها، فهي الأخرى تدمج وتجنّد الكلمة الأدبية في “عملية تصوير” لتفاصيل الأمكنة والأحداث بشكل يجعلها، تنزاح عن، وتجاور في نفس الآن بين، الصورة كحقل مؤسس على الشعرية العربية، إلى الصورة في بعدها الأيقونوغرافي وتمثلها المرتبط أكثر بأفكار مارسيل بروست وفالتر بنيامين. وأمجد ناصر ككاتب بيني وعابر في أكثر من جغرافية واسم، تشكلت لديه هو الآخر هذه الصيغة في بناء طبقات الذاكرة عبر تفاصيل البيت الأول، وروائح المقاهي، من ضمن عناصر أخرى، جعلت هذه الذاكرة تستقيم للتوصيف البنياميني لتكون وسيطا وطيا أكثر منها آلة.

كما أشرنا أعلاه، تجد الآراء والمفاهيم الفكرية التي تدور في محور خطاب الذاكرة والصورة تعبيريّتها المباشرة مع الإنجازات التي تحققت للسينما عبر النوع الفيلمي اللاتخيلي المصطلح عليه بفيلم المقالة، أو المقالة الفيلمية، خصوصا في هذه الصيغة المرتبطة بالمؤلف السينمائي الفرنسي كريس ماركر. وفي السياق الأدبي، والذي تتأطر فيه كتابة أمجد ناصر التي تعنينا في هذه المقاربة، تلقى سينما كريس ماركر التسجيلية حيزها الخاص لكون أفلامه، إضافة إلى اعتمادها التعليقات التي تحاكي النص الأدبي لغة وأسلوبا، تنبني على توليف تنويعي في عناصره المضمونية  تأتي صيغته التركيبية بشكل ينسجم مع نمط كتابة المقالة كما نظر له الكاتب الفرنسي مشيل دو مونتينيي Michel de Montaigne. هذه الميزة النوعية لفتت نظر المنظر والناقد السينمائي أندري بازان Andre Bazin في فيلم “رسالة من سيبيريا” Lettre de Siberie (1957) ليسقط عليها وصف المقالة الفيلمية الذي سيقترن باسم كريس ماركر وبسينماه.

تشكل أفلام كريس ماركر هذا الحيّز النموذجي الذي تتقاطع فيه الكلمة الأدبية مع الصورة السينماتوغرافية. تستقل الصورة عن الصوت والعكس بالعكس، بخطابات ومضامين متقاطعة أحيانا ومتضاربة أخرى، دون الخضوع لمعادلة تنصب في خلق المعنى والتأثيث لفهم في حد ذاته. إنه المونتاج أو التوليف الذي يمنح للذاكرة صفتها العملية، كما عرفها فالتر بنيامين، حين تتفعّل في حركية حرّة داخل زمنيات متعددة ومتنوعة. إنها السينما المثالية التي تمنح هذا المعادل الوسائطي الذي يمكن على ضوءه استكشاف أبعاد جمالية أخرى لأسلوب كتابة تسبح فيه الذاكرة طليقة بين الحدث والذات، الحلم والواقع، تجاويف الماضي وآفاق مستقبل لم نستشرف ملامحه بعد. وهذه الخاصيّات التوليفية تحضر كذلك كتنويعة أسلوبية في كتابة أمجد ناصر التي تدور في محور الذاكرة. لن نبالغ أبدا حين نصف كتابة أمجد ناصر في الذاكرة كهذه المقالات الفيلمية التي تشكّل المقابل الانعكاسي لسينما فيلم المقالة عند كريس ماركر. ففي تفاعله مع المواضيع التي يقف عليها في الأمكنة، واستباره لمكنوناتها يلجأ أمجد ناصر إلى أسلوب يصهر الكلمة الشعرية في الكلمة الإخبارية، واللوحة الوصفية في النقلة السردية ما يجعل النص ينشطر في شاشات مرئية متقابلة ترقى بالقراءة إلى مستوى المشاهدة ببعدها البصري السينمائي. فلوحات أمجد ناصر الوصفية في كتابات الذاكرة تأخذ هذا التوصيف المقترن بالفوتوغرامات السينمائية كحيز مؤطر بالحاضر والآني، ولكن تتفعّل داخله زمنيات عابرة لطبقات الماضي والمستقبل معا.

سردية الحصار

 

لعلّ عمل كريس ماركر التسجيلي الأكثر حوارية مع الكتابة الأدبية، ويستدعي نفسه بإلحاح في سياق أمجد ناصر ونصه عن ذاكرة الحصار “بيروت صغيرة بحجم راحة اليد” هو فيلم كريس ماركر “السفارة” L’Ambassade (1973). هذا العمل الفيلمي القصير، الذي جاء عبارة عن تسجيل تخيّلي fictional document، تحاكي قصته أجواء التوتر في تشيلي 1973 غداة الانقلاب العسكري الذي أجهض التجربة الديموقراطية للرئيس سالفادور أليندي. كما هي حالة الشخصيات التي تسكن يوميات بيروت في كتاب أمجد ناصر، تعيش شخصيات فيلم السفارة هي الأخرى حالة حصار، داخل سفارة أجنبية كما يصرح العنوان. يمكن أن نرى في شخصيات فيلم كريس ماركر ذات الميول اليساري هذا المقابل العضوي لشخصيات أمجد ناصر في يوميات بيروت داخل الحصار. جو الانتظار والخوف الذي عاشته هذه الشخصيات الواقعية كما وصفها الكاتب، هو نفسه الجو الذي عاشته شخصيات كريس ماركر الخيالية في الفيلم جراء الحصار والعنف العسكري في تشيلي أغوستو بنوتشي الذي لا يختلف عنه في بيروت المحاصرة بالجيش الاسرائيلي والميلشيات التي ساعدته.

يجتمع فضاء بيروت الماكروكوزمي وفضاء السفارة الميكروكوزمي في خاصية كونهما حيّز مغلق يتهدّده عالم خارجي بعدوانية معلنة. هذا الحيز سرعان ما يكتسب خاصيته كمجال لمقاومة الموت الخارجي عبر الإصرار على الحياة الذي أخذ وجهه المثالي في اشتغال الشخصيات المحاصرة في عملية تفكير إيجابية تتشعّب بين التأمل الوجودي الفلسفي تجاه الواقع، والنظرية الفكرية والسياسية التي تحاول إعطاء فهم لهذا الواقع. نقل أمجد ناصر، عبر صوته كسارد مؤلف وشخصية في اليوميات، تفاصيل هذه التأملات والنقاشات بينه وبين رفاقه حول مواضيع السياسة والأدب وتجربة الكتابة الشعرية الجديدة التي كانوا منخرطين فيها آنذاك إلى جانب عملهم النضالي في صفوف الجبهات الفلسطينية. هذا الصوت السارد في الكتاب نعثر له على مقابل في صوت المؤلف المعلّق في فيلم ماركر كهذه القناة الوحيدة التي تمرر مضامين النقاش الذي تكتفي الصورة في الفيلم بمسح أجواءه ونقل وتيرة التفاعل بين أطرافه.

في تجربة فيلم “السفارة” التسجيلية البديلة، اعتمد كريس ماركر أسلوب الارتجال والحد الأدنى من الاحترافية، مستعملا كاميرا سوبير 8 التي ترتبط كآلة إنتاجية بهذا الاختيار الأسلوبي الذي يحتفظ للفيلم بخامته الواقعية، ويعبر عن نيته الملتزمة كفيلم مقاومة. هذه النية التأليفية هي نفسها التي تحكمت في الاختيار الأسلوبي الذي راهن عليه أمجد ناصر في تدوين أحداث يومياته، وكذلك في رفضه وضع أي أصابع تحريرية، تعكس خبرته وتجربته الأدبية، حين قرّر نشرها لاحقا، وهو الشيء الذي سطّر عليه الشاعر غسان زقطان في تقديمه للكتاب حين قال: ” “.. لم يحاول أمجد ناصر أن يعيد النظر في الحكاية، لم يضع هوامش أو تعليقات تعكس وعيا لاحقا، ببساطة قاسية احتفظ بالخوف والقلق وإشارات الندم الشخصي والحنين..” ص 7.

انتهج كريس ماركر في “السفارة” كذلك أسلوب التمرين في تصوير وسرد الوقائع، حيث أعلن منذ البداية أن مجهوده التسجيلي مجرد نقط وملاحظات، ليلغي بذلك أي إمكانية تعديل تأليفي قد يشحن الأحداث بدرامية بطولية. مضمون الصورة يحطنا مباشرة مع شخصيات ملتصقة براهنيّة الوقائع، لكي نقترب منها أكثر عبر هذه الواقعية وهي تدبّر إنسانيتها داخل وضعية يتقاسمها التهديد الخارجي والقلق الداخلي، في ممارسات عفوية لروتين العيش اليومي بين الأكل، وعزف الموسيقى والحديث المتبادل. هذا الطابع الإنساني المجرّد هو نفسه الذي يسم شخصيات يوميات بيروت في توصيف الشاعر غسان زقطان، والذي كان كذلك أحد أبطالها، حين يقول “.. ليس هناك بحث عن بطولة ما، الأشخاص الذين يتجولون في اليوميات أبسط بكثير من حيلة البطولة وبلاغتها، وأكثر قربا من إنسانيتهم..” ص 7.

يضعنا الاختيار الأسلوبي في كتاب يوميات “بيروت صغيرة بحجم راحة اليد” وفيلم “السفارة” كذلك في إطار ميتاكتابي يتقاسمه أمجد ناصر مع كريس ماركر وهو الرهان التأليفي على صيغة جنس المقالة الأدبية من داخل أصلها الفرنسي ككتابة تجريبية حرة، وأسلوب تميرني يخترق الأنواع ويتشعب عبر كل المضامين، أي ما تحمله كلمة essai الفرنسية منذ أن أبدع مشيل دو مونتيني هذا الأسلوب كجنس أدبي. أسلوب المقالة في إجراء أمجد ناصر كما في توليف كريس ماركر ينحاز عن كل تقريرية حين تتقلص فيه نسبة الموضوعي على حساب الذاتي في اليوميات، ويتداخل فيه التسجيلي بالتخيّلي في الفيلم، هذا في الوقت الذي يراهن فيها كليهما على قوة الكلمة الأدبية، سواء في سرد الكاتب أو في تعليق المؤلف السينمائي، كوسيط بين القارئ والوقائع التي تتشكّل منها مادة “التسجيل” المضامينية في نمطها الكتابي في اليوميات وصيغتها السينماتوغرافية في الفيلم المقالة “السفارة”. عامل الكلمة الأدبية التي تتنوع بين التقريري والشاعري، هو ما يحدّد طبيعة السردية في كتاب أمجد ناصر ويصف صوت السارد المعلق في فيلم كريس ماركر. بالتالي يشكل هذا العامل أرضية التماهي الرئيسية بين إجراء فيلم المقالة عند المخرج وأسلوبية كتابة الذاكرة عند الكاتب كما تجلت في نص يوميات بيروت.

صورة لذاكرة المستقبل

 

يغنى كتاب يوميات “بيروت صغيرة بحجم راحة اليد”، بهذا العنصر التصويري المرئي الذي يذكرنا بإحدى توقيعات كريس ماركر التأليفية، وهو اعتماد السردية لهذه الفوتوغرامات التي تجمع بين البعد الفوتوغرافي والبعد السينماتوغرافي. في كتاب أمجد ناصر تأتي كل صورة وصفية لبيروت كهذا الإطار الذي لا يقف في مضمونه على الحد الفوتوغرافي، الصحفي والتقريري، المعبر عن صور الدمار والخراب الذي لحق بالمدينة أثناء الحصار، أو صور التحول الذي غير ملامحها عقودا بعد ذلك. كل صورة وصفية تشكل هذه الشاشة التي تتحرك فيها شخصيات وتتطور أحداث سرعان ما تتحول إلى محفز تأويلي لتأملات فكرية تتشعّب بين التاريخ والأدب والسياسة.

نجد كذلك للفوتوغرامات الوصفية في يوميات أمجد ناصر مرجعية في التوليفات التّسجيلية لكريس ماركر حين تُشكل كل صورة وصفية للمدينة إطارا تتحرّك داخله عوالم الذاكرة بشكل انسيابي بين الماضي والحاضر والمستقبل. في بيروت الحصار الموصوفة في “نصوص من الحصار” يمكن أن نستشرف بيروت العودة، المرتبطة بفصل “العودة إلى الفردوس المفقود”، ومن هذه الأخيرة ينفتح مسلك للذاكرة إلى بيروت التي تتشكل في ذهنية القارئ وتسكن تخوم المستقبل. لم تعد الذاكرة في يوميات بيروت هذه الاداة التي “تدبر شؤون الحنين”، والتي تبرأ منها أمجد ناصر في بداية فصل “العودة إلى الفردوس المفقود” بل صارت عملية إبداعية رهينة بالمخيّلة، أي هذه الآلة البروستية بامتياز حسب جيل دولوز، التي تتطلع إلى آفاق تتجاوز الماضي وحدوده الزمنية. في فوتوغرامات بيروت تتفاعل ذاكرة المؤلف الراوي مع الذاكرة التي تبوح بها تفاصيل الفضاء لينصهرا في شكل بلّورات زمنية تستقيم لتوصيف الذاكرة الصورة memory-image الذي خص به فيلسوف السينما الفرنسي نمط الصورة السينمائية بالدرجة الأولى. هذه البلورات الزمنية هي الحيّز الذي يدخل فيه الحاضر في حوار مع الماضي والمستقبل معا. في بيروت، التي عاد لزيارتها أمجد ناصر بعد أن جرت مياه كثيرة تحت الجسر، يغيب كل مؤشر زمني يمكن أن يفصل الذاكرة عن لحظات الحاضر. وقفات المؤلف السارد على محطات في الفضاء، ووصفه لحالات التحوّل التي لحقتها كما لحقت الشخوص التي تعرَّفنا عليها في الفصل السابق، يجعلنا فعليا نعاين حالة المدينة الآنية وهي لحظات من الحاضر سوف تطالب لاحقا بحقها في الذاكرة كما قال كريس ماركر في سياق مشابه. في دقائق الوصف لحاضر المدينة، وهو يعاني هذه الهجنة التي لحقته من جراء الهجمة الاقتصادية النيوليبرالية والتي شوهت ملامحه، تفصح كلمة أمجد ناصر عن أعراض جروح وانكسارات تنتظر بيروت وقادمة لا محالة. في هذا الوصف تأخذ الذاكرة في اليوميات طابعها العملي من داخل مفهوم فالتر بنيامين الذي يخولها هذه القدرة في عبور الأزمنة والسير في الاتجاه المعاكس من الحاضر نحو المستقبل. فبيروت تحمل في هذا الوصف من القروح والمآسي المؤجلة ما سيطالب فيما بعد بحقه في الذاكرة.

حركة الذاكرة في هذا الاتجاه المعاكس تشكّل مجرى خطابيا parcours محوريا في إجراء كريس ماركر التأليفي في السينما اللاتخيلية. نستحضر هنا بالذات فيلمه الذي يحمل عنوانا فصيحا في هذا السياق، “ذاكرة مستقبل” Le Souvenir d’un Avenir (2001) والذي أنجزه بشراكة مع المخرجة الفرنسية يانيك بلون Yannick Bellon. يتناول هذا الفيلم المسيرة الإبداعية للفنانة الفوتوغرافية دنيس بلون Denis Bellon، والدة المخرجة الثانية للفيلم. اعتمد هذا الفيلم لماركر فوتوغرافيات دنيس لون التي تعرض عالم الفنانين السورياليين بأعلامه وعلاماته، أو في تلك التي تكشف عن الجانبين الوحشي والإنساني معا للاستعمار الفرنسي في إفريقيا، أو تلك التي تعرّي عن وضع الفئات المقهورة في أوروبا كالغجر. في هذا الفيلم يتناول السارد الصوتي، وبنبرة أدبية قوية، مجال الصورة الفوتوغرافية كحقل أركيولوجي مستقبلي تتشكل فيه ذاكرة الأشياء التي لم تأتي بعد. يشكّل كل فوتوغراف من إنجاز وتصميم الفنانة الفرنسية عينة توثيقية للأعراض المباشرة للاضمحلال الحضاري الأوربي، سواء للذي يمكن معاينته في الحاضر أو الذي يمكن استشرافه مستقبليا. تتحول الفوتوغرافيات إلى رقع شفافة diapositives لصور جديدة مضمونها هو هذه المأساة التي تنتظر أوربا أثناء الاجتياح النازي والحرب العالمية الثانية.

بشكل شبيه ومماثل، ومن داخل الخاصية التأليفية الأدبية، نجد راوي يوميات ” بيروت صغيرة بحجم راحة اليد” هو الآخر يعي وضعه كحلقة بين الماضي والمستقبل، وفي هذا الوعي تأخذ اللحظات الوصفية نفس طابع الصورة الفوتوغرافية في فيلم “ذاكرة مستقبل”، ليتحول الكلام عن الحصار الذي عانته بيروت في بداية ثمانينيات القرن الماضي إلى مؤشرات دلالية عن الوضع الكارثي الذي ينتظر المدينة مستقبلا. هذا الوعي يحمله الراوي المؤلف ويتوزع بينه وبين شخصيات الكتاب، حين يقول:

              “كثير من الذين التقوني في بيروت قالوا لي ها أنت تعود وفي ركابك اجتياح إسرائيلي جديد.”

يبين كل وصف للمدينة، في عقده لمقارنات تربط منطقيا ماضي بيروت الحصار مع حاضرها في زمن اجتياح العولمة وثقافة اللامبالاة، عن أعراض المآسي المستقبلية التي تنتظرها. مثل فوتوغرافيات يانيك بلون، تنحاز عملية التوثيق التسجيلية المتضمّنة في يوميات أمجد ناصر من حالة الشهادة إلى حالة المشاهدة حيث يتداخل البصري بالاستبصاري. في هذا المستوى المتعالي للمشاهدة تتحقّق عملية التذّكر كتمرين معرفي يرتهن بالمخيّلة، ويتداخل فيه الشعور باللاشعور والكائن بالممكن، والذي وصفه جيل دولوز في كتاب “بروست والعلامات” بالذاكرة البروستية حيث ” تتدخل الذاكرة كوسيلة للمعرفة، تتجاوز هدفها الأول وكينونتها الأصلية، لتصير بحثا لا يتجه نحو الماضي ولكن نحو المستقبل” (5). نعيش مع الراوي لحظات تكوين بيروت جديدة مفتوحة على كل الاحتمالات بما فيها هذه التي تسكن أفق المتلقي الذي يقحمه الراوي هو الآخر في هذا التمرين البروستي:

           ” ها إنني لا أفعل سوى محاولة إحياء شبكة من الصور المندثرة…ألا نمرّ جميعا بمثل لحظة الالتباس هذه: نشمّ رائحة أو نسمع أصواتا أو نرى وجوها في مكان ما فتحيلنا إلى لحظة غامضة يصعب تحديد زمانها ومكانها. بل يصعب الجزم بوجودها أصلا؟! هذا ما ينتابني الآن وأنا أحتسي قهوتي في المودكا.. إنني ما أزال، على ما يبدو، في نصّ المكان، في تخيّله، في ذكراه، لا في المكان نفسه” (ص 196-197).”

في حيز الواقع الافتراضي هذا، يصبح بإمكان كل من الراوي والقارئ الاحتمالي توظيف الذاكرة كعنصر اختراق لبعد المستقبل. يأخذ كليهما خاصية بطل كريس ماركر الإشكالي الذي يتنقل بين أبعاد الزمن، ونقصد هنا بطل الفيلم المستقبلي “الرصيف” La Jetée (1962) الذي يرحل للماضي لكي يصلح الأخطاء التي تتفادى بها الإنسانية كوارث الحاضر. في وضع جمدة زمنية رهينة بوضع الحاضر في الواقع، يسكن افتراضيا بطل كريس ماركر مدينة باريس بديلة، تتواجد في حيز ذاكرة تغطي كل أبعاد الزمن الماضي والحاضر والمستقبل. إنه الحيز الذي يسكنه راوي في اليوميات وهو في وضع جمدة رمزية كما جاء في الوصف أعلاه بدافع الارتياب والقلق اللذان يجعلان الأشياء والفضاءات تفقد صلتها بمرجعياتها. في هذا الحيز ننظر لبيروت وهي في حالة تحول جديد على غرار تحولها بين بيروت الحصار وبيروت الفردوس المفقود. هذا التحول الجديد الافتراضي هو ما يمنح للمدينة عبورها الزمني نحو المستقبل. في هذا المستقبل نعثر على بيروت الأزمة السياسية وربيعها العربي الخاص، وبيروت بيروتشيما، وبيروت التي تناور حصار موت جديد في زمن وباء كوفيد 19. ملامح بيروت في اليوميات تبدوا هذه الأعراض التي تصف حالاتها المستقبلية. في هذا التمرين الإبداعي للذاكرة تأخذ اليوميات ميزة النص الملفوف أو الطي الذي تحتجب فيه تفاصيل أخرى عن المدينة تتكشف في واقع القراءة الفرضي. إنها تفاصيل بيروت ما بعد أمجد ناصر.

من الذاكرة إلى الكتابة عن الكتابة

حوارية الكلمة والصورة السينمائية، على ضوء كتابة أمجد ناصر ومقالات كريس ماركر الفيلمية تتأسس كما أشرنا أعلاه بالدرجة الأولى على التيمة المحورية التي تعبر تجربتهما التأليفية وهي تيمة الذاكرة. من خلال طريقة معالجة هذه التيمة، تلتقي التجربة التأليفية لأمجد ناصر مع الإجراء التوليفي في السينما اللاتخيلية عند كريس ماركر من خلال هذه الرؤية التي تتجاوز فكرة الذاكرة كعملية للتخزين والصيانة لمعطيات حصلت وتحصّلت في الزمن، وتقاربها كعنصر أذاتي إبداعي كفيل بخلق عوالمه الخاصة. هذه العوالم تأخذ في الكثير من المناسبات طابع الميتاكتابة، أي الوصفي لعملية الإبداع التأليفي نفسها، حيث تحمل الذاكرة، تصورا خاصا عن تجربة كتابية وتضعه عتبة لمشروع تفكير نقدي مستقبلي.  في كتاب اليوميات “بيروت صغيرة بحجم اليد” لا تكتفي العملية السردية بجرد الوقائع وصيانتها للذاكرة بل تتجاوز ذلك لتعزل بعض الاحداث عن سياقها الأولي وتحوّلها إلى نقطة انطلاقة لتأمل فكري تتشعب أبعاده بين الذاتي والموضوعي والعام والخاص. فحدث مبتذل وعرضي، كغياب الشاعر محمود درويش عن الأنظار أثناء حصار بيروت، حوله أمجد ناصر إلى فرصة للتأمل في التجربة الشعرية العربية الأكثر مشاكسة وحداثية كتجربة الشعر المنثور، وسياق لمعاودة التفكير في علاقة الشاعر بالمجتمع وانتظارات هذا الأخير من مثقفيه في ظرفية سياسية جد مشحونة بالتوتر والاحتقان كالظرفية التي غطت اليوميات تفاصيلها وأبعادها. خلافا لما دونه أمجد ناصر بخصوص غالب هلسا من تفاصيل عن نشاطه الإذاعي أثناء الحصار، جاء الكلام عن محمود درويش كنوع من التأطير عبر المسافة لسجال نقدي سيتحقق لاحقا في المستقبل:

       ” هناك تقولات في وسط المثقفين عن غياب “درويش” وعدم ظهوره بيننا، .. لا تزال أصداء مقالته المتوتّرة ضد الشعر الذي يشبه نكتة الصباح تسمع على أرصفة “الفكهاني”. لست معنيا بها، ولا أظن أنها موجهة ضدنا. فنحن لا نكتب قصائد إلكترونية ولا نلقي النكات! المزعج فيها نبرتها المتعالية. “الرصيفيون” يعتبرونه شاعر المؤسسة وهم الذين يقصدهم درويش على الأغلب.” ص 44-45

على غرار مؤلفات أخرى أنجزها أمجد ناصر لاحقا مثل كتاب “خبط الأجنحة”، نجد كتاب اليوميات “بيروت صغيرة بحجم راحة اليد” هو الآخر يتمتع بميزة هذا الانتثار الأسلوبي الذي يجعله يكسب كذلك صبغة التوليف الذي يحمل بين طيّات مضمونه الرئيسي كتابا آخرا في النظرية عن الكتابة والشعر. نظرية أمجد ناصر في الكتابة الأدبية تحضر على شكل تلميحات تفاجئ القارئ دون أن تزعج اندماجه مع مادة الكتاب الأولى. هذه النظرية تحضر كذلك في كتاب اليوميات ولها ما يسندها في آراء أمجد ناصر والشعراء العرب الذين يسكنون صفحاته كغسان زقطان وسعدي يوسف وأنسي الحاج على سبيل المثال لا الحصر. كتاب اليوميات يتضمن كتابا في النظرية يحضر في شكل تطريس ويمكن أن يستقل عن اليوميات دون أن يفقد الرابط العضوي معها.

كشأن في كتابة ما بعد الحداثة يجمع أمجد ناصر بمخرج سينمائي ككريس ماركر، نعثر لهذا الانتثار الأسلوبي والتوليف الميتاكتابي في كتاب اليوميات على وجهه السينمائي في تجربة المؤلف السينمائي الفرنسي التي تناولت السينما كموضوعها مثل فيلمه “يوم واحد في حياة أندري أرزنفيتش” (1987) (6)، الفيلم الذي سجل فيه وقائع لقاء المخرج الروسي في اللحظات الأخيرة من حياته مع ابنه بعد غياب طويل. هذا اللقاء سيحوله الفيلم إلى مناسبة للتأمل في الإنجاز السينمائي لشاعر السينما الأول، رابطا بين الخطوط العريضة لهذا الانجاز على المستوى التيماتي والشكلي التركيبي في بعديهما الشاعري، وحيثيات جد شخصية في حياة السينمائي الروسي. لم يكن غرض كريس ماركر تقديم مفاتيح من سيرة أندري تاركوفسكي لتشفير عوالمه الفيلمية بأكثر ما كان يحاول التقبض بالرؤية الفلسفية للحياة التي كان يحملها هذا الأخير ومدى تفاعلها مع الاختيارات التعبيرية التي راهنت عليها تلويناته المجازية في اللغة السينمائية. فيلم كريس ماركر عن أدري تاركوفسكي قد يكون هو مقالته عن السينما الشعرية وموقعها في هذا الحيز الذي يرفضها وهو حيز السينما في شروطها الرأسمالية العضوية.

نموذج آخر لهذا التوليف الميتاكتابي الذي يحمل من خلاله كتاب يوميات “بيروت صغيرة بحجم راحة اليد”، رؤية في الكتابة والأدب، نعثر عليه كذلك في الشريط التسجيلي الذي أنجزه كريس ماركر عن تفاصيل تصوير فيلم “الإعتراف” (1970) L’aveu للمخرج اليوناني كوستا غافراس، والذي عنونه “نخاطبكم من براغ: المحاكمة الثانية لآرثر لوندن” (1971) (7). رغم ارتباطه الوثيق بسياق عمل سينمائي أولي كفيلم كوستا غافراس، يتجاوز فيلم كريس ماركر هذه المهمة التوثيقية لتجربة سينمائية كفيلم عن الفيلم، ليخلق نصية مفتوحة تتقاطع فيها تفاصيل المتابعات السياسية ومحاكم التفتيش الستالينية في الواقع، مع تفاصيل تدوير هذا الواقع سينمائيا. اعتمد فيلم ماركر القماشة الشكلية التلوينية للأبيض والأسود التي تصهر عوالم الفيلم السينمائية مع الواقعية، إذ يصعب فيها الفصل بين ما ينتمي للسينما وما ينتمي للأرشيف.  فأكثر من كونه مادة إضافية أو ملحق توضيحي لفيلم “الاعتراف” يطرح فيلم “نخاطبكم من براغ: المحاكمة الثانية لآرثر لوندن” هذه العلاقة الشائكة والاشكالية بين السينما والسياسة، وبكون هذه الأخيرة تعتمد نفس آليات الانتاج السينمائي في فبركة المواقف والآراء وفي تجنيدها للفاعلين في تشخيص هذه المواقف والآراء. يعتبر فيلم كريس ماركر فعليا محاكمة ثانية لآرثر لوندن لكون هذا الأخير كان في الواقع التاريخي مجرد ضحية لإخراج سينمائي صرف كانت محاكم التفتيش الستالينية وراء إنتاجه، ولكون كل فيلم سينمائي سياسي من شاكلة فيلم كوستا غافراس ليس في الأول والأخير سوى محاكمة سياسية هو الآخر موجهة لأطراف بعينهم.  طرح فيلم كريس ماركر للسّجال كذلك أفكارا حول ماهية الالتزام الحزبي والانتماء الإيديولوجي، وأقحم في هذا السجال الآراء والخلفيات الفكرية التي تسند كل وجهة نظر، وفي بعض المواقف، عبر نفس الأشخاص الفاعلين في فيلم “الإعتراف” مثل نجمي السينما الأوروبية إيف مونطون وسيمون سنيوري. في الحوارات والتعليقات تظهر هذه الشخصيات وهي فعّالة فكريا وسياسيا وتحمل رؤية ونظرة خاصة في الأدوار التي لعبت، لتدخل في علاقة مجاورة مع شخصياتها الحكائية أكثر من كونها مجرد ظل سينمائي لها. فيلم كريس ماركر يتمتع بخاصية العمل السينمائي القائم بذاته، والذي يستقل برؤيته وتيمته وطريقة معالجته رغم ارتباطه عضويا هو الآخر بالسياق التأسيسي لفيلم كوستا غافراس.

بشكل معادل، قد نجد كتاب يوميات بيروت هو الآخر يتضمَّن فصلا خاصا بالمتن الشعري، نصوص من الحصار، يفتح عبره المؤلف بابا للحوارية بين الشعر وهذه النظرية عن الشعر والكتابة التي جاءت في شكل تلميحات مرتبطة بسياق ذكر أسماء شعرية عربية كاسم محمود درويش. يحضر في اليوميات متن افتراضي عن النظرية والكتابة في صيغة نصية مستقلة بذاتها وفي شكل سردية موازية للسردية المحورية المرتبطة بوقائع الحصار وتفاصيل الدمار والموت.

تشعّب الذاكرة

يمنح كتاب اليوميات ” بيروت صغيرة بحجم راحة اليد” نفسه كمجال للحوارية مع نمط آخر من خطاب الصورة الذي أنجز فيه إبداعيا كريس ماركر وهو الصورة الرقمية. يبدو أمجد ناصر في يوميات بيروت وكأنه يكتب للعين التي تقرأ في الشاشة كما تقرأ في الورق. هذه النية في خلق التعالقات النصية مع المجال الوسائطي المرتبط بصورة الحاسوب تعلن عن نفسها من خلال العتبة التي استهل بها أمجد ناصر كتابه، والتي تستمد مصدرها من مجال الذاكرة الرقمية في الإنترنيت عبر موسوعة ويكيبيديا الحرة. في هذه العتبة نجد نصا مقتبسا يختزل وضع مدينة بيروت تحت الحصار الإسرائيلي، ومن خلالها، يعطي أمجد ناصر ليومياته صفة ذاكرة “أخرى” لبيروت في زمن الحصار من ضمن سلسلة الذاكرة المتشابكة في حيز الوسائط التشعّبية hypermedia zone من صور وأفلام ورسائل وتقارير صحفية وربورتاجات تلفزية.

في هذا الحيز الجغرافي الفرضي للوسائط التشعّبية تنحاز الأحداث المروية في الكتاب عن طابعها الذاتي، كمذكرات مرتبطة بأنا المؤلف، وخاضعة لمنظور خاص يتحكّم فيه الجواني أكثر من الخارجي، لتتأطر مرة أخرى كفوتوغرافيات أو فوتوغرامات مستقلة تتجاور مع ذاكرات أخرى داخل مجال فرضي شبيه بنوع “التطبيق السّحابي”. ينعكس في كتاب اليوميات عبر عتباته هذا الوعي بواقع القراءة الجديد الذي فرضت فيه الشاشة وجودها إلى جانب الصفحة الورقية، وبكل امكانيات التكثيف والتخمة التي تمنحها تجاه المواضيع المطروقة كما أشار لذلك المفكر الفرنسي جيل ليبوفيتسكي Gilles Lipovetsky (7). في هذا الواقع صارت عملية القراءة كذلك تتميز بحركيّة التنقل السريع من سجل معرفي لآخر، الحركيّة التي فرضت بدورها حساسية جديدة في التعامل مع النصوص. إنها الحساسية التي تتدخل قطعا على مستوى الإدراك والشعور أثناء قراءة نص يوميات “بيروت صغيرة بحجم راحة اليد”، لكونه كما لمّح أمجد ناصر من خلال اختياره لشكل العتبة التي صدر بها كتابه، نص يغنى بالحوارية مع نصوص أخرى، من داخل خاصيات أنماطها التعبيرية، وهو ما قد يتحكم كذلك في طريقة تمثل الأحداث التي يتناولها الكتاب. تفصح عتبة الكتاب في مرجعيتها الوسائطية كذلك عن هذا الحس الديموقراطي الذي يشعره أمجد ناصر تجاه القارئ المحتمل لكتاب اليوميات. فحين يقدم له وقائع وأحداث ترتبط ارتباطا وثيقا وحميميا بذاته كمؤلف، يرعى له في نفس الوقت حق مقاربتها من داخل حساسيته الخاصة المشبّعة بما تمنحه الوسائط الجديدة للذاكرة.

هذه الكتابة عن الذاكرة من داخل الوعي بالحساسية التي تفرضها سلسلة التّعالقات داخل حيز الوسائط التشعّبية، تقترح لها مرجعية نجدها هي الأخرى كما أشرنا في إنجاز كريس ماركر السينمائي البديل، الذي يكمن في هذه الصياغة الحاسوبية للكتاب الإلكتروني، عبر حامل القرص المضغوط CD-ROM، المعنون Immemory (1997). ترتحل الذاكرة داخل حيز هذا الكتاب البصري عبر الحاسوب والوسائطية المتعددة، واللاخطية، في رحلة بين الخيال والتسجيل، السينما والفوتوغرافيا، والحرب والأدب. في هذا المسار يمكن أن نجد المعادل البصري للترحال الذي يتحقق للذاكرة في كتاب يوميات “بيروت صغيرة بحجم راحة اليد” على المستوى الفرضي والافتراضي، والذي، كما أشرنا أعلاه، تحفّزه العتبة المشحونة بالإحالات على حيز الوسائط التشعّبية. يبني عنوان تصميم كريس ماركر (Immemory) على المزج بين الذاكرة كموضوع خارجي يركن في الماضي السحيق immemorial، والذاكرة كعملية إبداعية رهينة بالقدرات التخيلية الذاتية memory. في مسار رحلة داخل بلد خيالي، يجول المشاهد / القارئ في طرقات يتقاطع فيها مارسيل بروست بألفريد هيتشكوك، حيث تتداخل عملية التذكّر كفعل تخيّلي بالتذكّر كحفر عمودي في أغوار الماضي. يقدم كريس ماركر في هذه الرحلة دليل الجولة لأهم المحطات في الذاكرة الإنسانية، في الوقت الذي يحفظ فيه للزائر هامش حرية واسع مرتبط بالصدفة، أو ما يمكن نعته بالملاحة العشوائية.

بشكل معادل لهذا التجوال الحر، نعثر في يوميات بيروت على محطات يأخذ فيها كل حدث من أحداث الحصار شكله الخاص في الذاكرة، راعيا هذه التحولات بين ما هو شعري وذاتي وما هو تاريخي وموضوعي في نفس الآن. هذه التحولات تتجاوب مع مستوى التلقي والقراءة الذي تتجاور فيه الحساسيات كذلك وحسب طبيعة وحالة وانتظارات المتلقي. رسم أمجد ناصر هو الآخر، وعلى غرار ما فعله كريس ماركر في كتابه الرقمي، خريطة تجوال مفتوحة داخل جغرافية الحصار، دون أن يحصر القارئ في جدول زمني معين أو يلزمه بمسار مخطّط عن سبق. عبر هذه الخريطة حفظ للذاكرة التي تحملها الوسائط الأخرى حيزها وحفظ للقارئ حق انتقاء ذاكرته من خلال اليوميات. كل استطراد وإشارة بيوغرافية، ونص أدبي مضمن وتأمل نقدي أو فكري في الكتاب يشكل محطة للذاكرة. في هذا التنوع تتكثف التمثلات عن بيروت المحاصرة مثلما تتشعب الوسائط التي تناولت هذا الحصار. في هذا الشرط تتحول ذاكرة بيروت المحاصرة في اليوميات إلى مجال، كلما يرتبط بالبعد التاريخي الموضوعي لأحداث ماضي قريب، ينفتح أكثر على الهامش الخيالي الإبداعي المستقبلي المرتبط بالبعد الفرضي الذي تنسجه الوسائط ومدى حساسية القارئ المتحمل واختياراته التشفيرية الخاصة للذاكرة. في هذا الهامش تستمر بيروت / الذاكرة وتضمن حركيّتها كحفر إبداعي ذاتي في الماضي الموضوعي، أي ك immemory.

 في شكل خلاصة

رغم صيغته التدوينية التي حفظت لمادة المضمون خامتها الأولى، يظل كتاب يوميات “بيروت صغيرة في حجم اليد” هذا النوع من الكتابة البديلة للذاكرة والتي لا مكان فيها للقناعات والمسكوكات. في هذا النص تتجاور في عملية، وعمل، الذاكرة مهمّتي التسجيل وسرد الوقائع وكذلك تخصيب هذه الوقائع في نصية تحتية محجوبة داخل طيّات السرد. تلافيف هذه النصيّة تتكشّف لهذه القراءة التي تستدعي دليلها خارج هامش الكتابة الأدبية، أي في آفاق إبداعية وجمالية أخرى، قد تبدأ مع السينما ولكن لا تنتهي فيها.  نص أمجد ناصر يرحب بآليات مختلفة تسعف في الترحال بقراءته في تخوم استقرائية مختلفة حين يمنح نفسه للتفاعل، بكل ترخيص وشرعية، مع حساسيات جمالية وتعبيرية صقلت خارج سلطة الكلمة. في هذا الشرط تصبح كتابة أمجد ناصر سفر عاشق للقراءة، وعشق للسفر في القراءة. وفي هذا الشرط كذلك تحتفل كتابته البديلة بما هو بديل وترحّب به.

خضنا في هذه المقاربة ومشينا في مسالكها عبر ما يعد به ويرشدنا إليه الدليل النسبي الذي يحتكم للتمرين المقارن الذي ينعش النص الأدبي ويمنحه حياة أخرى ومختلفة. هذا التمرين الذي يظل الخامة الأولى لأي قراءة إبداعية يعيد فيها النص الأدبي تشكيل ذاته كجنين جديد تتشكل صورته المحتجبة في الملامح التي ترسمها مخيلة القارئ عبر أدواته وحساسيته الخاصة وظرفية قراءته، وكذلك درجة هوس التفكيك الذي يتحكم في هذه القراءة.

كتابة أمجد ناصر هي نموذج لهذا النص الذي كلما أحكم أعمدة تشفيراته في الهيكل الأدبي كلما انفتح في تصميمه الهندسي على الحساسيات التي تتكون وتصقل خارج معمار الأدب. إنه النص الذي لا يؤمن بأية حدود في بناءه أو استقراءه. نص الترحال والعبور والاختلاف. نرجو أن تكون كذلك هذه القراءة، المحدودة في أفق اجتهادنا، هي الأخرى عتبة نحو ترحال وعبور آخر نحو المختلف.

بقلم: عبد اللطيف عدنان

 

هيوستن مارس 2022

  • – خبط الأجنحة. دار المتوسط (2013) ص 65
  • – الحياة كسرد متقطع (2007)
  • – معابر أمجد ناصر
  • –. Perspectives critiques. Proust et les signes (1986Gilles Deleuze (
  • – Une journee d’Andrei Arsenevitch
  • – On vous parle de Prague: Le deuxieme proces d’Artur London
  • – Gilles Lipovetsky L’ecran global. Cinema et Culture-media a l’age hypermoderne. Seuil (2007)

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *