اختتمت الدورة الثالثة لمهرجان الجونة السينمائي ،وهكذا كان الحاضرون والضيوف قد شاهدوا طيلة تسعة أيام أفلاما لايمكن أن تجتمع بهذه القيمة الفنية في أي مهرجان عربي آخر، إذ أتيح لضيوف الجونة مشاهدة أهم ما عُرض في المهرجانات السينمائية الكبرى خلال هذا العام إضافة لاكتشافهم لجواهر سينمائية كانت مختبئة وبحث عنها مبرمجو المهرجان ليتحفوهم بها، خصوصا أن أفلام المسابقة الرسمية أغلبها أفلام أولى أوثانية لمخرجيها…
وقد جاء نتائج مسابقة الفيلم الروائي الطويل كالتالي :
جائزة نجمة الجونة الذهبية فاز بها فيلم “ستموت في العشرين” للمخرج السوداني أمجد أبو العلاء.
جائزة نجمة الجونة الفضية حصل عليها فيلم “عيد القربان” للمخرج البولوني يان كوماسا.
جائزة نجمة الجونة البرونزية عادت لفيلم “آدم” للمخرجة المغربية مريم التوزاني.
جائزة نجمة الجونة لأحسن فيلم عربي روائي طويل فاز بها فيلم “بابيشا” للمخرجة الجزائرية مونية مدور.
جائزة نجمة الجونة لأفضل ممثل حصل عليها الممثل البولوني بارتوش بيلينا عن دوره في فيلم “عيد القربان”.
جائزة نجمة الجونة لأفضل ممثلة نالتها الممثلة هند صبري عن دورها في فيلم “حلم نورا”.
وفي التالي قراءة لبعض أفلام الدورة الثالثة لمهرجان الجونة السينمائي :
“آدم” لمريم التوزاني في الجونة السينمائي..فيلم نسائي حميمي
استطاعت مريم التوزاني بفيلمها الروائي الطويل الأول هذا أن تحقق تفوقا فنيا من خلال تناول قضية اجتماعية ذات طابع نسوي، وذلك من خلال قصة تدور في فضاء شبه مغلق من بداية الفيلم إلى نهايته، وبين امرأتين تتطور بينهما العلاقة بالتدريج من التباعد والنفور إلى التعاطف من جانب واحدة اتجاه الأخرى ثم الصداقة الجميلة. إذ تلجأ سامية الشابة الحامل بشكل غير شرعي والهاربة من عار الأسرة والأهل إلى دق منازل الناس في حي شعبي قصد العمل عندهم، فلا تقبلها سوى الأرملة عبلة التي تعيش صحبة طفلتها وحيدتين بعد أن توفي الزوج في حادثة سير، وبالتدريج ودون تسرع في لي عنق الحكي ولا تمطيط للأحداث تنسج المخرجة بشكل درامي تدريجي علاقة بين الشخصيتين المختلفتين في تركيبتيهما الإنسانية، لنتابع كمشاهدين واحدة من أهم الأفلام المغربية المشتغل فيها على الفضاء الداخلي بشكل متحكم فيه ومن خلال شخصيتين أساسيتين فقط، إذ لم تشكل الطفلة “وردة” رغم حضورها الطاغي سوى ذلك الرابط الذي يساهم في التقريب بين سامية و الأم عبلة، ومع الثلث الأخير للفيلم وبعد ولادة الشابة سامية لطفلها تِؤزِّم مريم التوزاني الوضع، كون الطفل الوليد غير مرغوب فيه من طرف الأم لأنه يشكل عنوانا للفضيحة، لترفض أن ترضعه أول الأمر ثم تكاد تقتله في لحظة انعدام توازن نفسي وعاطفي.
كانت اللحظات القليلة التي تخرج فيها الشخصيات الثلاث من الفضاء المغلق، المتمثل في المنزل و المتجر كفضاءين غير منفصلين، تشكل نوعا من الانفتاح على زخم الحياة وعنفوانها، وقد استطاعت المخرجة تصوير الشارع المغربي بشكل قل أن رأيناه، ليس فقط خلال هاته اللحظات العابرة لكن أيضا أثناء متابعتها لشخصيتيها سامية وعبلة وهن داخل متجر المأكولات، بحيث كنا نشاهد زخم الحارة من وجهة نظرهما وكيف يعيشانها من الداخل.
استعملت مريم التوزاني الأغاني والموسيقى في فيلمها “آدم” بشكل وظيفي بحيث كانت لأغنية “بتونس بيك” لوردة الجزائرية دور مهم في فك شيفرة شخصية عبلة التي كانت مغرمة بأغاني وردة إلى حدود تسمية ابنتها على اسمها، لكن ما إن توفي زوجها في حادثة السير حتى حَرَّمت على نفسها سماع الأغاني، لكن حضور سامية وإصرارها على إخراج عبلة من تقوقعها على ذاتها جعل هذه الأخيرة تعاود التصالح مع نفسها ومع جسدها وتمنح فرصة للرجل الذي يحبها.
من أهم ما ميز فيلم “آدم” هو ذلك الأداء التشخيصي الاستثنائي للممثلتين نسرين الراضي ولبنى أزبال اللتين حملتا الشخصيتين الرئيسيتين ومن خلالهما الفيلم على أكتافهما.
عموما يمكن لنا التأكيد أن فيلم “آدم” يشكل إضافة مهمة للسينما المغربية وإعلانا عن قدوم مخرجة ستقول كلمتها في القادم من الأفلام.
”أغنية بلا عنوان” البيرو في سنوات الفوضى واللاستقرار السياسي
تدور أحداث فيلم “أغنية بلاعنوان” للمخرجة البيروفية ملينا ليون أثناء سنوات بداية الثمانينات حيث كانت البيرو تعيش أزمات اقتصادية وانتفاضات ضد النظام الحاكم يتزعمها تنظيم “الدرب المضيء” الشيوعي الماوي ، ومن خلال هذه الخلفية التاريخية نتابع حكاية أم شابة في بداية عشرينياتها يُسرق طفلها الرضيع في عيادة وهمية من طرف عصابة تتاجر في الأطفال بعد أن يتم إيهامها بأن العيادة تُقَدِّم خدمات مجانية للنساء الحوامل كي يلدن بها، وفي بحثها المضني عن طفلها الرضيع تلتقي بصحفي يشتغل بجريدة مهمة فيقرر هذا الأخيرمن باب التعاطف بداية الأمر أن يتبنى قضيتها التي ستقوده إلى اكتشاف وفضح مافيا تتاجر بالأطفال الرُّضَّع وتبيعهم خارج البيرو.
الفيلم مصور باللونين الأبيض والأسود الأمر الذي أضفى عليه مسحة من الحزن ومنح الصورة جماليات شكلية تكاملت مع التيمة المتناولة، بحيث استطاعت المخرجة ميلينا ليون في فيلمها الأول هذا، الذي كان عرضه الأول في مسابقة نصف شهر المخرجين بمهرجان كان السينمائي في دورته الأخيرة، أن توصل أحاسيس الغبن والقهر والظلم الذي تعرضت لها الأم الشابة والأمهات الأخريات اللواتي تم اختطاف أطفالهن منهن بشكل حقير ولا إنساني وكيف أن “العدالة” البيروفية آنذاك لم تكن تأبه بِرَدِّ الأبناء إلى أمهاتهن وأنها لم تتحرك لِلزَّجِّ ببعض من أفراد مافيا الأطفال في السجن سوى لأن جريدة كبيرة ومؤثرة شعبيا أفردت للقضية صفحتها الأولى، وحتى حينما يطلب الصحفي من القاضي متابعة التحقيق لكي يتم استرداد الأطفال من الخارج يجيبه هذا الأخير “لماذا لاترى الأمور من وجهة نظر مختلفة، فالأطفال سيعيشون ربما أفضل بعيدا عن أمهاتهم الفقيرات”.
“أغنية بلا عنوان” فيلم إنساني تتعاطف فيه المخرجة مع سيدات مغبونات ولاحول لهم ولاقوة في مواجهة ظلم وقع عليهن، وهو فيلم يحمل أحاسيس رقيقة وحزنا مشوبا بالرفض وعدم تقبل واقع مزر وغير إنساني. وفي مشهد جميل يقوم فيه عضو ملثم منتم لتنظم “الدرب المضيء” بتفجير قنبلة صغيرة ليتمكن من تفريق تجمع مهرجاني ليُوزِّع منشورات ضد النظام وسط جمع من الناس، لتكتشف الأم الشابة بشكل سري وبنوع من الدهشة ونحن معها كمشاهدين أن الصحفي المتعاطف معها هو من فعل ذلك وأنه منتم للتنظيم المحظور.
”الأب” دراما كوميدية عائلية
في فيلم “الأب” للمخرجين البلغاريين بيتر فالجانوف وكريستينا جوروزيفا نتابع قصة أب وابنه مكتوبة بشكل جيد ومُؤدَّاة من طرف ممثلين مُتمكِّنَين يحملان الفيلم على كتفيهما من البداية وحتى آخر لقطة فيه. تموت الأم ليتوهم الأب أنها مازالت تتواصل معه عن طريق قوى خارق للعادة وللطبيعة، لكن الإبن العقلاني يرفض توهمات أبيه ويفعل ما بوسعه لكي يثنيه عن الاستعانة بمشعوذين يوهمون الناس بإمكانية التواصل مع الموتى من أقربائهم، لكن الأب يزداد تَمَسُّكا بأوهامه كلما ازداد الإبن إصرارا على إقناعه بعكسها، خصوصا حينما تهرع إليهما جارة صديقة للأم وهي ترتجف من الخوف مدَّعية أن هذه الأخيرة تتصل بها من العالم الآخر عبر الهاتف. ومن خلال لحظات اعتمد فيها المخرجان كوميديا موقف راقية ضبطا لحظاتها بشكل جيد، لم تدع جمهور الجونة الحاضر في القاعة أن يتماسك نفسه ويتفاعل بالضحك بين الفينة والأخرى، الأمر الذي أنقذ الفيلم من رتابة كانت ربما ستجره لزاوية أخرى بنظرة مختلفة، كون الفيلم ينسف خرافات الماورائيات بشكل سلس وبدون خطاب مباشر ولا وعض ولا إرشاد. وقد نسج المخرج والمخرجة شخصيتين تحملان طابعا إنسانيا واضحا للعيان من خلال علاقة جد معقدة بين أب وابنه تتجاذبها مشاعر الحب والرفض واللوم ، شخصيتان مختلفتان في كل شيء لكن يجمع بينهما حب عميق ، وفي مشهد أخير جميل بعد أن يستطيع الإبن أن يثبت بالدليل القاطع لأبيه أن ما يعتقده هو مجرد أوهام ، يعترف هذا الأخير بإحساسه بالذنب ناحية موت الأم ويعتبر نفسه مسؤولا بشكل غير مباشر عن موتها ، كونها أجرت معه اتصالا هاتفيا قبل وفاتها بقليل بعد إجراء عملية جراحية ولم يكن هو مباليا بمصيرها بل خاطبها بألفاظ جارحة وتمنى لها الموت.
“الأب” فيلم إنساني بكل ما في الكلمة من معنى ويحمل طابع تلك الأفلام التي تأتينا من أوروبا الشرقية بين الفينة والأخرى حاملة نفحات السينما الجيدة والمختلفة.
“ذات مرة في تروبشفك” دراما قروية أسرية
“ذات مرة في تروبشفسك” للمخرجة الروسية لاريسا سادريلوفا عبارة عن دراما قروية تتناول حياة ثنائي من الأزواج وعلاقة “خيانة زوجية” بين طرف من كل جانب من هذا الثائي . وقد حاولت المخرجة أخذ جانب الرؤية الموضوعية الخارجية دون الميل أو التعاطف أو التبرير لأي من شخوصها.
تتصاعد أحداث الفيلم من علاقة غرامية سرية بين رجل وامرأة متزويجين وجارين وتسير الأمور بدون مشاكل حتى تكتشف زوجة الرجل “خيانة ” زوجها لتلمح لزوج عشيقة زوجها لتفتضح الأمور.
لا تصدر المخرجة الروسية أحكام قيمة على شخوصها ف”الخيانة” لاتحمل تماما المفهوم الأخلاقي الحاد خصوصا أن زوجي العشيقين يظلان متشبثين بهما رغم علمهما بالعلاقة ، هي فقط اختيارات عاطفية يتحمل كل من يختارها عاقبتها وهنا في هذا الفيلم تكون العاقبة خيرا ويعود العشيقان إلى أسرتيهما دون أدنى عواقب وخيمة بحيث تنتصر المخرجة لِلَمِّ الشَّمل الأسري عوض الذهاب بعيدا مع العاطفة الجارفة والمدمرة والمشتتة للشمل.
“محطمة النظام” طفلة تبحث عن الحنان الأسري ولا تجده
نتابع في فيلم “محطمة النظام” للمخرجة الألمانية نورا فايشت الطفلة “بيني” ذات العشر سنوات والتي تنتج طاقة شعورية غير طبيعية إذ تنتابها باستمرار حالات هستيرية تُكَسِّر خلالها كل ما تجده أمامها وتدخل في تشنجات وصراخ حاد رافضة كل محاولات من حولها لتهدئتها، ونظرا لكون أمها المطلقة غير مستعدة للتكلف بها ومراعاتها والاعتناء بحالتها فإن فريقا من المختصين الاجتماعيين والنفسيين يحاولون أن يتكلفوا بحالة الطفلة التي لاتكاد تتحسن حتى تعود إلى ماكانت عليه أو تسوء أكثر.
“محطمة النظام” فيلم صادم لايدعنا كمشاهدين نظل محايدين اتجاه مانشاهده على الشاشة، إذ تجعلنا المخرجة نتعاطف مع الطفلة “بيني” في كل حالاتها حتى وهي تمارس عنفها ضد الآخرين. وفي مشهد مؤثر حين تقرر الأم التخلي عن طفلتها بعد أن تكون قد وعدتها بالعودة إلى البيت مبررة للمتخصصة الاجتماعية أنها تخاف على طفليها الآخرين من عنف “بيني” ومن كونهما سيتأثران بها، لتطلب منها الأخيرة أن تخبرها بنفسها بهذا القرار لكن الأم تتملص وتهرب لتعود المتخصصة الاجتماعية إلى “بيني” والدموع في عينيها وتدخل في حالة من البكاء لتنقلب الأدوار في هذه اللحظة لتصبح “بيني” هي من تخفف عن المرأة المصدومة من جحود الأم.
من خلال أحداث الفيلم وما استطاعت شخصية الطفلة أن تظهره من صدق وبأداء جيد للممثلة الصغيرة التي أدت دورها يبدو أن المخرجة نورا فايشت قد أجرت بحثا ميدانيا متأنيا قبل أن تشرع في كتابة وتصوير فيلمها هذا لأن إلتصاق الفيلم بالواقع وبحالة ميدانية ظاهر للعيان على الشاشة.
“المرأة الباكية” و “أبيض في أبيض”.. السينما الأمريكو لاتينية حينما تنبش في فظاعات الماضي الأليم
يمزج المخرج الغواتيمالي خايرو بوستامانتي في فيلمه “المرأة الباكية” بين الأسطورة والواقع وهو يتناول قضية سياسية جد شائكة وهي محاولة شعب المايا في غواتيمالا فضح ما تعرض له من قمع وقتل وإبادة بداية الثمانينات من القرن الماضي على يد ديكتاتور والمطالبة بالقصاص منه، ورغم أنه يقدم هنا باسم متخيل فإنه يحيل على الديكتاتور إيفرين ريووس.
موضوع كهذا كان يغري بتناول مباشر لقضية ساخنة لكن المخرج اختار أن يتطرق لتيمته هاته بشكل فني متميز بحيث نرى كل الأحداث من وجهة نظر أسرة الديكتاتور المتقاعد والمريض والمتهالك ومن داخل بيته، هو الذي نظن بداية أنه يتوهم رؤية أشياء وأشباح، خصوصا أن أعراض مرض ألأزهايمر قد بدأت تظهر عليه، هو المقيم صحبة أسرته المكونة من زوجته وابنته الطبيبة وابنتها الصغيرة والحرس المدجج بالسلاح، لكن الأمور ستتغير بقدوم امرأة هندية شابة من المايا، لتُعوض نقصا حدث بسبب ذهاب مجموعة من الخدم المايا نتيجة الاحتجاج الشديد الذي يتعرض له الدكتاتور قرب باب بيته ، هاته المرأة التي سيتبين لنا كمشاهدين وبالتدريج غرابة تصرفاتها خصوصا فيما يتعلق بعلاقتها بحفيدة الديكتاتور، لنعلم في الأخير أنها مجرد شبح “المرأة الباكية” التي قتلها الديكتاتور هي وأطفالها الصغار حينما كان في الحكم وجاءت لتنتقم منه، ولن تهدأ حتى يموت كل من شارك في المذبحة التي ذهبت ضحيتها هي وأطفالها وجزء من شعبها.
وقد استطاع المخرج الغواتيمالي أن يجر نوعا سينمائيا اعتدنا أن نراه كسينما للرعب والماورائيات نحو منطقة أخرى مختلفة وهي السينما السياسية بكل ما تفرضه من مباشرة، وقد نجح في ذلك بامتياز خصوصا أنه استطاع اللعب بهذين النوعين ولم يمنحنا كل أوراقه مرة واحدة ضابطا أدواته الإبداعية ومتمكنا منها في فيلمه هذا.
في فيلم “أبيض على أبيض” للمخرج التشيلي ثيو كور نجد مرة أخرى تلك التيمة لسينما أمريكا اللاتينية هاته الأيام وهي النبش في بشاعات الماضي الأليم والمجازر التي تعرض لها الهنود الحمر والشعوب الأصلية من طرف النظمة الديكتاتورية المتعاقبة على حكم البلاد ومن طرف الإقطاعيين والمسيطرين على الأرض بالقوة. هنا في هذا الفيلم يوظف المخرج التصوير الفوتوغرافي الذي درسه وأتقنه من خلال مصور بورتريهات فوتوغرافية يؤتى به من طرف صاحب مجرعة إقطاعي لتصوير زوجته الصغيرة وبعض من رجاله وجزء من مزرعته، ليكتشف هذا المصور وبالتدريج مدى البشاعات التي يقترفها هذا الإقطاعي في حق السكان الأصليين وكيف يمارس في حقهم مذابح ممنهجة وبدم بارد.
وقد استطاع المخرج ثيو كور في فيلمه الثانيي هذا أن يوظف جماليات الصورة مستغلا شخصيته الرئيسية التي تمتهن التصوير بفية وبحب إلى درجة أن يصبح في مشهد أخير وجميل يمارس ما يشبه ويقارب الإخراج السينمائي وترتيب وتأثيث مكونات إطار صوره ومعطيا للشخوص التي يصورها.فيلم أبيض على أبيض فيلم مختلف ولا يطمح فيه مخرجه أن يتقفى أي اتجاه سينمائي لكن ككثير من الأفلام الأ يريكولاتينية الحديثة نجد به تأثرا بالأدب الأمريكو لاتيني وبكُتَّابِه الكبار.
وخارج المسابقة الرسمية في الاختيار الرسمي تم عرض أفلام حديثة لمخرجين مهمين عرضت في المهرجانات الالبارزة عالميا ومن بين هاته الأفلام فيلما “عفوا لم أجدكم” للمخرج الإنجليزي كين لوتش و”ألم ومجد” للمخرج الإسباني بيدرو ألمودوفار.
كين لوتش يستمر في رصد معاناة المهمشين في فيلم “عفوا، لم أجدكم”
في فيلمه الأخير “عفوا لم أجدكم” يعود المخرج الإنجليزي كين لوش إلى مواضيعه الأثيرة المتمثلة في معاناة الطبقات الكادحة والمسحوقة تحت نير الاستغلال الاقتصادي لمن هم أعلى منها طبقيا. وفي هذا الفيلم نتابع قصة أسرة فقيرة تناضل فقط من أجل حياة كريمة عادية، إذ أن رب الأسرة يقوم بتوصيل الإرساليات بعد أن اشترى سيارة جديدة يشتغل بها لحساب شركة لكن صاحب الشركة لايرحمه وعند كل تأخيرأو تغيب عن العمل، مهما كان السبب عاجلا وضروريا، يخصم منه مقادير من المال، ليصل معه بعد أن تعرض لحادث اعتداء وسرقة إلى مبالغ كبيرة لايستطيع أداءها. إضافة لهذا نتابع في الفيلم المشاكل الاجتماعية للأسرة والتي أغلبها ناتج عن مشاكل اقتصادية وعن الحالة المتواضعة لها، إذ يعاني الإبن المراهق من مشاكل دراسية ينقطع على إثرها عن الذهاب للمدرسة وفي نفس الوقت يحتقر عمل أبيه ومساره في الحياة فتنتج بين الإثنين مشادات ومشاحنات نتيجة ذلك والبنت الطفلة ذات العشر سنوات تعاني من اضطرابات في النوم وتتبول في السرير ليلا، أما الأم فتضطر للاشتغال ساعات إضافية في عمل جد مرهق ومقرف بدون مقابل مادي إضافي على تعبها ذاك.
على العموم يظل كين لوش أهم مخرج معاصر يستطيع الغوص في قضايا اجتماعية لأناس طحنتهم الآلة الرأسمالية وجعلت منهم عبيدا معاصرين لايفعلون سوى الدوران في ترسانتها الهائلة ليضخوا الأموال لها ويظلوا في شقاء طوال عمرهم، وهو يفعل هذا بسلاسة وبشكل يبدو أول الأمر بسيطا لكنه عميق في نفس الوقت ، إذ نشاهد في هذا الفيلم كما كل أفلامه الأخرى شخوصا من لحم ودم أمامنا على الشاشة ونتابع معاناتهم الحقيقية دون مساحيق ولا ادعاء فني مبالغ فيه.
ألمودوفار يكتب وصيته سينمائيا في “ألم ومجد”
يمكن لنا الجزم وبدون مبالغة تذكر أن “ألم ومجد” يعد الفيلم الأكثر حميمية للمخرج الإسباني الشهير بيدرو ألمودوفار، إذ نتابع فيه معاناة المخرج السينمائي سلفادور مالو الذي لا نجد كبير عناء لنرى فيه ألمودوفار نفسه، هذا المخرج الذي تنهشه الأمراض ووهن منه الجسد ودخل في حالة إدمان على الهيروين واضطر للتوقف عن الكتابة والإخراج السينمائي لمدة ويعاني إضافة لكل هذا أزمات نفسية.
في هذا الفيلم الجد حميمي يدخل ألمودوفار في حالة مكاشفة ومصارحة ونقد ذاتي مع نفسه ومع جمهوره، إذ يُصرُّ على عرض سلبيات حياة المخرج ومن خلالها سلبيات حياته وتعثراته في الحياة وفي الفن.
في “ألم ومجد” يبدو الصدق والمكاشفة للنفس وللآخر حاضرين بكل قوة وبشكل فني ناضج، هنا نجد خرجا كبيرا وكأنه يكتب وصيته الأخيرة بشكل سينمائي على الشاشة، فيلم به شجن دفين وحزن شفاف يبدو في عيون شخصية المخرج من خلال أنطونيو بانديراس الممثل وليس النجم، وفي لحظة صدق يقول المخرج لممثله “لا أحب الممثلين الذين يبكون، البكاء سهل لكن الممثل الحقيقي هو الذي نشاهد الدموع في عينيه وهو يحبسها أن تسقط”، وهذا ما نراه حقيقة أثناء أداء الممثل للمسرحية وفي عيون الصديق الذي يأتي ليشاهدها ليفاجئ بأنها تحكي مرحلة مهمة من علاقته بسلفادور مالو.
في أحد المشاهد الكوميدية في الفيلم يكشف ألمودوفار كيف خذل جمهورا كان ينتظره ليناقش معه فيلمه الكلاسيكي، وهنا وهو يسائل حول علاقته بالجمهور، يبدو وكأنه غير عابئ برأي الجماهير ولا حتى بإقبالها، وكأنه وصل لمرحلة النضج والعبقرية التي لم تعد تحتاج اعتراف الغير ولا لرأيه.
عبد الكريم واكريم-الجونة