ثوب الحرب واسع يسع كل شيء. مثل ثقب أسود يُجمِّعُ كل الضوء، أم إنه يُجمّع الظلال؟ ثوب الحرب واسع مثل الثوب الذي استعاره خليل من ثياب أبيه عندما توقفت آلة الغسيل بسبب انقطاع الكهرباء. نعم في الحرب، عندما يحضر الماء تغيب الكهرباء فتتوقف آلة الغسيل وبداخلها كل ثياب خليل الصغيرة والبريئة. خليل الذي يحتاج أمه لكي توقع له دفتر علاماته المدرسية، متشبثا بظلها وبوعودها التي تقصفها الحرب، ينتظرها بشجاعة من وُلِد في زمن الحرب أو ما قبلها، بصحبة ظله وظلال يشكلها على شاكلة فراشات تطير. ولكنها مجرد لحظة هدوء زائف، فالحرب على الأبواب، نسمع صوتها، انفجارا وطلقات رصاص…
في سوريا التي على مشارف الحرب، امرأة تحاول أن تواصل التكيف مع التفاصيل الصغيرة للحياة؛ وجبة أكل ساخنة مثلا تقدمها لابنها، يضحكان وهما يتناولانها بلذة. ولكن التفاصيل تسقط تحت القنابل القادمة، فتنطفئ شعلة قنينة الغاز. “شو بنعمل؟” يسأل خليل، فيكون على الأم أن تقف في الدور الطويل لاقتناء قنينة الغاز، ولأن الهاوية لا قاع لها في فترة ما قبل الحرب، يفوت البائع كل بضاعته لمسلحي الجيش، وهنا وبعد أسبوع من الأكل البارد في فصل الشتاء، تركب سناء، الأم، موجة فكرة وتنطلق مع جلال وأخته بحثا عن بائع آخر لشعلة الدفء. في الحرب أو ما قبل الحرب، المغامرة ليست اختيارا، إنها جزء من اليومي. بحث عن دواء، بحث عن أكل، بحث عن قنينة غاز، كل شيء يمكن أن يتحول إلى مغامرة كبرى. الرحلة التي كان من المفترض أن تكون فقط مقابل أجر مبالغ فيه، تصبح هروبا من التوقيف والاعتقال وربما من الاختفاء القسري أو من الموت…والآن، على الأم الهاربة أن تعود إلى طفلها. خليل وحده في البيت. والده آثر الرحيل إلى بلد خليجي لينقذهم، لكنه نسي أو تناسى، بعيدا هناك، من رحل لأجلهم.
في رحلة الالتفاف على المدينة ونقط التفتيش في المعابر التي تقسم المدينة، يجوب الثلاثة سناء وجلال وأخته، أرضا قاحلة، نخمن أنه فصل الشتاء، شتاء الحرب الطويل. الأشجار مستسلمة لهبوب الرياح، المياه لا تخرج عن مجرى النهر. صمت يعوي مثل ذئب جائع.
يغرق فيلم “يوم أضعتُ ظلي” للمخرجة السورية سؤدد كعدان، في حالة اللاضوء، فحتى عندما تكون هناك أشعة شمس، وعندما يومض الضوء من مكان ما، فهو يظل رهينا بالظلال المحيطة به، كأنه مقيد دائما. وتنجح سؤدد في جعلنا نشعر بحالة ارتباك وتنقل إلينا خوف أبطالها، عندما تركز على مساحات الظل. الظل الذي يرسمه خليل كائنا يحلق على الجدار، وترسمه سؤدد بشاعرية الصورة في أغلب لقطات الفيلم.
الظل الذي ينقص جلال. جلال المنحاز للغضب. الذي رأى أثر الحرب قبل الآخرين، واختار موقعه فيها. إنه يعرف الأماكن، إنه يبحث عن شيء ما. لو أن أخته لا تردعه، لكان قد رحل. هناك جرح لا يندمل بداخله. جرح يُفقِده روحه. فقد شقيقه مازن. فقد ظله.
تستمر الرحلة، على الأقدام، بعد أن يتدبر الثلاثة قنينات الغاز، يحملونها ثقيلة، ولكن ضرورية لحياة شبه عادية في مرحلة ما قبل الحرب. الطريق طويل، خاصة إذا أضعت الوجهة، وجلال، وإن لم يعترف بذلك، فقد الاتجاه الصحيح للعودة، أو بالأحرى أنه تعمد الذهاب في اتجاه الموت. يختفي جلال، ربما لأنه وصل إلى وجهته، فتستمر المرأتان في البحث عن طريق العودة. تصلان إلى دومة، مرتع الثورة. إنه يوم الجمعة، نعرف تلميحا أنه يوم المظاهرات. يجب تأجيل العودة إلى الغد… يخرج الرجال للتظاهر. تخرج النساء لحفر القبور. سيكون هناك شهداء في المساء، يجب الاستعداد. وبينما تخرج أخت جلال للتظاهر، تخرج سناء للحفر مع نساء دومة. إنه مجرد أمر عادي تقريبا. أن تملأ التراب وأن ترميه خارج الحفرة. إنه مجرد أمر عادي ومرعب. مساءً، تنتظر النساء مع الأطفال عودة المتظاهرين تحت وقع الحرب. وصلت الحرب إلى دومة باكرا. هناك موتى وجرحى. وهناك انحياز لجهة شبه معلنة في مرحلة ما قبل الحرب.
“أشعر أني محتجزة في كابوس لا ينتهي” تقول سوسن أرشيد، هل ذلك الشعور هو ما يدفعها إلى الهروب؟ تبتعد عن دومة، ليس كثيرا، فقط بما يكفي لتجد جلال، جثة هامدة، ضحية لطلق ناري. مات البطل الذي بلا ظل. لكنه يستحق دفنا لائقا به. تسحبه سنا إلى دومة، تسحبه مساحة الشهداء حيث سيزف إلى قبره، بينما تفقد أخته ظلها.
تعود سناء إلى صغيرها بمساعدة أحد سكان دومة. تعود لتوقد النار، لتعد وجبة ساخنة لخليل. خليل الذي يتدرب على فقدانها بتقليد توقيع أمه على دفتر علاماته. تعود سناء إلى خليل بلا ظلها…
يبدو فيلم “يوم أضعتُ ظلي” مغرقا في الاستعارة. نشعر أحيانا أننا فهمنا، ولا نحتاج للمزيد من الشرح الزائد، ولكن فقط إذا ما حاولنا أن نخلق تأويلا لغياب الظل، نستطيع أن نتخفف من ثقل الاستعارة والاستطالة. وأحيانا تسمح لنا صور الفيلم بالتماهي مع ذاك التقابل بين انعكاس الحياة في بساطتها: ظل شجرة، ظل سناء، لعبة الظلال التي يصنعها خليل… وبين الواقع الرهيب للحرب الذي وإن لم نره مباشرة بعد فإنه قادم لا محالة.
يجعلنا فيلم “يوم أضعتُ ظلي” الذي عرض ب مهرجانات عالمية بتورنتو ولندن والجونة… نسائل رمزية الظل، هل هو قدرة على التسامح ليتسع ويسع الاختلاف والمختلف؟ هل تبدأ من مرحلة فقدانه رحلة اللاعودة؟ أم رحلة التخندق في الموقف الواحد، كأن فاقده يقول لنا إنه هنا في هذه الجهة من الحرب، حيث لا أمل، ولا غد إلا بالبحث عن بديل؟ البديل الذي يتحقق عبر المواجهة التي يمكن أن تعود منها حيا أو ميتا.
سؤدد كعدان التي منعت وطاقم فيلمها من حضور عرض فيلمها في العديد من الدول العربية، تمكنت عبر فيلمها الروائي الأول هذا من الحصول على جائزة أسد المستقبل في الدورة 75 من مهرجان البندقية السينمائي، إذ تمكنت بفضل طاقم من الممثلات والممثلين السوريين، من نقل صورة من صور ما قبل الحرب بسوريا. وهي الصورة التي نقلت لنا كثيرا من ظل الحرب القادمة الطويل والمخيف، بفضل أداء تمثيلي غير مبالغ فيه ولا يسعى إلى كسب تعاطف المشاهِد باستثارة مشاعره وإنما بحثه على التفكير وتبين الوضع السوري الآيل إلى الشتات. وقد برعت بشكل خاص بطلة الفيلم الممثلة المتميزة سوسن أرشيد في أداءٍ اتسم بالبساطة والبراعة في آن.
ثوب الحرب الواسعة التي تسع الأخضر واليابس، والصغير والكبير. ثوب الحرب الذي يلتهم ظل أبطالها. الظل الذي يعني مساحة التسامح مع المختلف. المختلف الذي يصبح بالضرورة عدوا في زمن الحرب.
فاطمة الزهراء الرغيوي