غيب الموت، صبيحة اليوم 07 يناير 2019، المخرجة اللبنانية جوسلين صعب، عن سن 71 سنة. الفنانة الإستثنائية بمواقفها وأفلامها، خاصة منها الوثائقية التي تجاوزت 30 فيلما، إضافة لأفلام روائية، من بينها “غزل البنات” و”دنيا”.
في بدايات مسارها، لم تكن تنوي جوسلين أن تحمل الكاميرا أو الإشتغال في السينما، حيث اتجهت بداية لدراسة الإقتصاد، لتشتغل بعدها في الصحافة والفوتوغرافيا وإذاعة لبنان، ولتركب مخاطر زيارة الأماكن الساخنة، حيث تواجدت في أكثر من جبهة حرب، بدءاً من اليمن وصولاً إلى ليبيا ومصر. كل هذا قبل أن تقودها خطواتها إلى مدينة الجن والنور باريس، لتنطلق علاقتها مع الصورة السينمائية.
في حوار طويل أجرته معها ايلينا ايلمس (ترجمة سليمان توفيق) لصالح موقع قنطرة تحكي صعب عن مسارها المتفرد بالمفارقات والتحولات، حيث تقول: “لقد أنهيت دراستي في الاقتصاد عام 1970، وبدأت العمل في التلفزيون. كنت مراسلة حربية في مصر وجنوب لبنان، ثم ذهبت عام 1971 إلى ليبيا، قدمت تقارير عن حرب أكتوبر1973 . عملت أيضا عام 1975 لصالح التلفزيون الفرنسي. كنت مراسلة حربية.
قرار إنجاز فيلمي الأول عن بلدي اتخذته عام 1975 بعد الإستيلاء على حافلة تقل فلسطينيين كانوا عائدين من حفل ، تم قتل جميع الركاب. كان اسم الفيلم “لبنان في حالة اضطراب.” ومنذ ذلك الحين لم أتوقف عن عمل الأفلام. لكن أفلامي الوثائقية اصبحت بعد عامين أكثر شخصية، لم تعد أفلام وثائقية بالمعنى الكلاسيكي، في نهاية المطاف تحولت الى عمل أفلام روائية.”.
ركزت جوسلين، في اغلب أفلامها، على موضوعات الحرب، لا عجب في ذلك، لأن الحرب الأهلية اللبنانية التي عاشتها و مآسيها جعلت منها مخرجة بوعي خاص، وعي تشكل وسط الإقتتال الطائفي الذي عاشته وعاشه الشعب اللبناني، هذا دون أن تكون طائفية، ولا أن تكون سياسية منحازة لجهة من الجهات، ففي كل الأفلام التي صورت خلالها المواجهات الدامية في الساحات الحربية، سواء منها اللبنانية أو تلك التي كانت مشتعلة في بلدان أخرى مختلفة، وصورت من خلالها مآسي الناس ومعاناتهم اليومية، جاءت كلها تنويعات عن الحرب وهموم البشر المكتوي بنيران الواقع الذي لايرحم.
عندما سئلت عن أسباب التركيز على الحرب أجابت “.. هذا التركيز الدائم على الحرب مرده هو أن القول في هذا الموضوع قليل. فعلى الرغم من الكلام الكثير عنها، إلا أن مقارباتها شحيحة، ومتماثلة. فعلياً، لم تُستنزف الحرب كموضوع لأنها ما زالت مستمرة.”.
ورغم العيش في فضاءات سياسية بامتياز، وتناولها لقضايا الحرب باستمرار، إلا أنها لم تصطف يوما أو تتخندق سياسيا، وإن صنفت، في كثير من الأحيان، بكونها يسارية الهوى والإنتماء: ” يُقال إني “يسارية”، لكني لم أنتسب على طوال حياتي إلى حزب أو تنظيم، ولم أستند إلى كلام أي طرف كي أفهم ما يحصل في البلاد. أحمل الكاميرا، وأرى بطريقة أبعد.”.
مسار لفت إليها الانظار، وجعلها محط الصحفيين والنقاد، بل أن الصحافية الفرنسية ماتيلد روكسيل، كتبت عنها كتاب بعنوان “الذاكرة الجامحة” (Mémoires indomptée). وقدمت خلاصة عامة عنها، مفادها أن هذه المخرجة ” واحدة من الشخصيات الأكثر ذكاء وشجاعة وحريّة من بين أولئك الذين عرفتهم، طريقة تفكيرها المتحرّرة كلّفتها كثيراً في أوقات كانت القضية فيها عبارة عن مسألة حياة أو موت”.
نعم كانت جوسلين فنانة شجاعة، مقارنة مع عشرات المخرجين الزملاء الذي فضلوا الإشتغال داخل فضاءات الأستوديوهات الآمنة، وتصوير قصص واقعية دون أن تكون لها علاقات مباشرة بالواقع. مثلما كانت فنانة مثقفة، تحس وأنت تشاهد أفلامها أنك تقرأ كتبا عن الحرب والسلم والواقع الذي لايرحم، لبلدان كتب عليها أن تعيش عبر التاريخ وسط الحروب والدمار.
عبد الإله الجوهري