في نهاية التسعينات و أنا لم أبلغ بعد سن الثماني عشر أدهشتني مجموعة من الأفلام كنت أشاهدها للمرة الأولى في حياتي أمثال “باب الحديد” ليوسف شاهين و “النوع الثالث” لستيفن سبيلبيرك و “غودفيلاس” لمارتين سكورسيزي.
كنت حينها قد فقدت أبي, و انقلبت حياتنا رأسا على عقب, اقتصاديا و اجتماعيا و حتى نفسيا.
انشغلت بمشاهدة مزيد من الأفلام من هاته النوعية, نوعية الأفلام التي لم تكن تعجب الكثيرين, “المومياء” لشادي عبد السلام, “طوق الحمام المفقود” لناصر خمير و اللائحة طويلة.
أتذكر هنا أول لحظة سينمائية عشتها و تمنيت تصويرها, كنت جالسا رفقة خالي بمؤخرة شاحنة صغيرة مفتوحة, و كانت وراءنا سيارة نقل الموتى, و بين السائق و جدي الذي يجلس قبالته كان التابوت حيث يرقد أبي يتمايل من حين لآخر .
ظللت أنظر إليه و أتأمله على طول الطريق قرابة الساعة في طريق ملتوية و وعرة حيث السيارتين تسيران ببطء و حذر ,فأصبحت لحظة التأمل أكثر إيلاما و عمقا في آن واحد.
في مخيلتي كنت أراه مشهدا من لقطة واحدة, الكاميرا خلفي بزاوية متعامدة مع رأسي في مقدمة الإطار و نعش ابي يظهر بين السائق و جدي في خلفية الإطار, أبدو أنا مضببا غير واضح ككل تلك الأسئلة التي كنت اسألها لنفسي و لأبي , بينما النعش يبدو واضحا كالحقيقة, حقيقة أن أبي قد مات.
و لأن الطريق كانت وعرة و غير معبدة, و كان الفصل خريفا فقد كانت تتصاعد الأتربة و تهب رياح من حين لآخر فيصبح كل شيء سديميا و غامضا و سينمائيا بامتياز.
بين قراري أن أصبح مخرجا و أول شريط قصير أنجزه, سبع سنوات سمان, كنت أحاول فيها أن أعيد تصوير أولى لحظاتي السينمائية, أنا و نعش أبي و تلك الطريق المتربة و المتعبة و الكئيبة.
لم يكن الأمر بالشيء الهين, حتى تم اختيار سيناريو طورته في ورشة تدريب احترافية لكتابة السيناريو للإنتاج من طرف مؤسسة, لأتلقى بعد مدة قصيرة استبعاد مشروعي الأول بدعوى عدم مراعاته لمجموعة من الضوابط التي لم و لن أفهمها يوما, كان الفيلم بسيطا جدا, مومس تسكنها صورة و سؤال طفولي محض, بل طفلة تريد أن تطير, أن تحلق و فقط.
لم أستسغ إقصائي و لكني فهمت حينها أنه علي أن أنجز فيلمي بإمكانياتي و أنه لربما لن أكون محظوظا طيلة حياتي.
بين الرغبة في أن أصبح مخرجا و أول شريط قصير لي هناك أيضا رحلة بحث عن الهوية, من أنا؟
لم أنشا في مدينة أو قرية ذات هوية, بل ولدت و كبرت بين قرى منجمية سعيدة و بئيسة و لكن بدون هوية.
و في كل مرة كنا ننتقل كان يطرح علي السؤال: ما أصلك؟
فأجيب: من ميدلت, من الأطلس المتوسط.
فيجيبني السائل: آه, الأطلس, رويشة…حادة أوعكي…
من هؤلاء؟ لم أكن أعرف أشياءا كثيرة, و إلى الآن أشعر بأنني أكبر جاهل.
بين الرغبة و الشريط الأول, بحثت و درست و نبشت في ذاكرة الجبال و الناس, بحثت عن هويتي فاعتززت بها, و شعرت بمسؤولية التعبير بلسانها ليس تفاضلا و لا كموقف سياسي, رغم أن اللغة أيضا موقف سياسي محض, و لكني كنت أبحث عني, كنت أحاول أن أنزع كل القشور و أتجرد من كل تلويناتي بحثا عن حقيقتي.
المهم, قررت أن أصنع شريطا قصيرا بتحفيز و مساعدة أصدقاء من مدينتي الأطلسية الباردة و الصغيرة “ميدلت”, رسمت لقطاته بشكل رديء, لم أكن أعرف حينها سلم اللقطات و لم أسمع أبدا بالسيميائيات, لكني كنت أشعر بكل لقطة فيه.
تحقق الفيلم و شاركت في أول ملتقى للسينما في حياتي كمخرج بسيدي قاسم سنة 2008, و حصدت الجائزة الأولى لمسابقة الفيديو التي ينظمها المهرجان.
حين تم عرض الفيلم كانت أغلب ملاحظات و انتقادات الجمهور و بعض المهتمين و المخرجين حول ماهية صناعة الفيلم بلكنة الأطلس المتوسط الأمازيغية بدل الدارجة المغربية الأقرب إلى عامة الناس من لهجتي المحلية, و عن ماهية اختياري للتجريب, على أساس أنه لا بد المرور من الحكي الدرامي الخطي و الكلاسيكي و ترك المجال للزمن و التجربة حتى أستطيع التجريب و المغامرة في أشكال و أنساق سينمائية أخرى.
لم أختر أن أنتمي وجدانيا و حسيا إلى جبال الأطلس حيث لا زال البرد يسرق أطفالا رضعا كل سنة من حضن أمهاتهم, و لم أختر أن اشتغل على التجريب في أفلامي.
أنا أتبع شيئا بداخلي لا أعرف ماهيته و لا أستطيع تعريفه, لكنها أشبه برغبة في النحيب.
بين تجربتي الأولى و الآن, عشر سنوات, لم أجد منتجا, و لا تمويلا إلى الآن و لكني أفلح كل مرة في سرقة لحظات سعادة من الحياة, أفلح في إيجاد كاميرا و أشخاص يثقون بي و يغامرون معي دون مقابل, حبا فقط, نصنع سوية صورا مبهمة تساءل جدواها بدورها, ننتشي بانتصاراتنا المزيفة على الحياة و القيود و الرأسمالية.
أحيانا أفكر في الإنسحاب, فالقضية أكبر من إيجاد تمويل لفيلم ذاتي قد لا يعجب عموم الجمهور, بل هي مسألة سياسية محضة, هي قصة بلد تائه بين مشاريع لفك العزلة و جلب الإستثمار من أجل توفير لقمة الخبز أولا, الصحة ثانيا, سكن لائق ثالثا…..و أخيرا الأنانيون مثلي.
البارحة, على شاطئ البحر انتبهت لقطع الزجاج التي تصقلها أمواج البحر فتصبح لطيفة و ناعمة, تنهدت بعمق و فكرت في سينمائية الموقف و شعريته, و تذكرت تلك اللحظة التي جعلتني أرغب في أن أصبح مخرجا.
نعش يتمايل في سيارة تسير على مهل بطريق غير معبد و مترب, يتصاعد الغبار و يصبح المشهد سديميا و مبهما, و من بعيد يسمع صوت كلب ينبح و يرتد صوته بين جبال باردة و كئيبة. هكذا أفهم السينما.
مراد خلو
جميل جدا صديقي واخي في نفس الوقت.
مراد احسست بما تعانيه كثيرا. ولاكن تشبث بأفكارك السينمائية وواصل معها هناك نتيجة ستصل اليها، لأننا في مجال لا يرحم انكنت عفوي ومتردد…، كن قويا كما اعرفك دائما انت مخرج وسيناريست اعترف بك دائما.