“أرى شخصيا أن قصة الواقع، بعد ظهور السينما والتلفزة، وظهور البحث السوسيولوجي لم يعد لها ما يبررها. قصة الواقع لم يعد لها ما يبررها. قصة الواقع لم يبق لها أي دور، فلا يمكن للكاتب أن يصور الواقع أكثر مما تصور السينما، ولا يمكن أن يصوره مثلما يصوره السوسيولوجي.”
عبد الله العروي: “الأفق الروائي”
…………………………
يمكن القول، إن ما كتبه عبد الله العروي حول السينما يكاد يكون هزيلا بالمقارنة مع ما خصصه لباقي الأجناس الأدبية الأخرى. هذه ملاحظة أولية لا بد من التنصيص عليها، والملاحظة الثانية تكمن في أن ما قاله العروي حول السينما غالبا ما أورده في مجموعة من المقاطع من مذكراته (خواطر الصباح) بأجزائها الثلاثة الأولى، وهي بذلك لا تصل إلى مستوى الصرامة المنهجية والاكتناز في العبارة التي تميز كتابات العروي عموما. إلا أنه مع ذلك لا بأس من الحديث عن السينما بصفتها فنا قائم الذات، لها تقاطعات مع باقي الأجناس الأخرى.
في البدء يشير عبد الله العروي إلى التفاعل الحاصل بين الأجناس والتقنيات. فإذا كانت السينما في ظهورها قد عوضت عن واقعية ومجتمعية الرواية، إلا أنها لم تستطع التعبير عن الشعور، فبقي هذا التكامل والتداعي بين الأشكال، يقول في هذا السياق “الحياة طرية كما هي بكل عفويتها، ولكن أظن أن الشيء الذي لا يمكن أن تعبر عنه السينما أو السوسيولوجيا هو الشعور. لا يمكن للسينما أن تعبر عنه لأنها تعبر بطبيعة الحال عن الظاهر، العمل والحركة، ولذلك فإن رواية الحركة ورواية المغامرات ورواية الوعي قد انتهت ورواية الشعور هي التي تظل نموذجا. وهنا تكون رواية الشعور هي قضية وسائل التعبير. من هنا أهمية التعبير. هناك ما يمكن أن يسمى بالحبكة، كمادة، بالأشخاص كمادة، وأكثر من ذلك، اللغة.” من هذا المنطلق يتضح مدى التداخل بين الأجناس، بل يظهر أن كل جنس متمم للجنس الآخر ومكمل له. فبظهور السينما واهتمامها بالواقع بمعية السوسيولوجيا انتقلت الرواية من الاهتمام بالمدلول إلى الاهتمام بالدال إذ صارت هاته الأخيرة تهتم باللغة والتقنيات الروائية والأسلوب عوض الاهتمام بالواقع، بالرغم من أن السينما أيضا لها تقنياتها المستعملة إلا أن رصد الواقع يبقى عملا سينمائيا بامتياز بالمقارنة مع الرواية.
إنها مسألة الشكل والمضمون وقد اتخذت صبغة معاكسة لدى المبدع في الآونة الأخيرة، إذ صار الاهتمام منصبا على الشكل عوض المضمون. وهذا ما يشير إليه عبد الله العروي بسوسيولوجيا الشكل بدل سوسيولوجيا المضمون.
يرى الناقد محمد الركاب أن “الثقافة هي التي تخلق وتكون السينمائي وليس العكس. السينمائي لا ينتج ثقافة من لا شيء. هو بالأحرى أو مطلوب منه، أن يعكس جذور هذه الثقافة، ليساهم في تدعيم هذه الجذور. وفهم هذا لا يتطلب فكرا خارقا.
لا وجود للسينمائي في غياب الأنشطة الأخرى. صحيح أن للسينما وضعية خاصة ضمن الأنشطة الثقافية الأخرى، ذلك أن السينما فن جماهيري، أي أن مجال تأثيره أكثر وأقوى من سبقية الفنون الأخرى (شعر، قصة، مسرح …) بالأخص في مجتمع تنعدم فيه القراءة والذوق والإرادة والاستيعاب.” تبدو هذه المقارنة جيدة بين هاته الأجناس، إذ أدرج محمد الركاب في هذا الإطار السينما ضمن إطار الفنون الجماهيرية التي تغذي خيال ملايين المشاهدين عبر العالم –حسب عبارة عبد الله العروي– بمعية القصة والمسرح، ويمكن أن نضيف إليها الرواية أيضا. أضف إلى ذلك أن جميع هاته الفنون حسب محمد الركاب معنية برصد الواقع ولو بنسب متفاوتة، وجعله المنطلق في أي عمل إبداعي.
يشير العروي إلى الظرفية التاريخية وارتباطها بعمل المبدع بصفة عامة، سواء الأعمال السينمائية أو الروائية أو غيرها، يقول: “يتحدثون عن أهمية بلزاك، لكن هذا وضع آخر، لأن بلزاك كتب قبل وجود السينما وقبل الأحزاب السياسية العصرية، وقبل السوسيولوجيا، وكان بلزاك طبعا، هو الذي يوجه ويفتح مجالا جديدا عكس ما نحن عليه الآن. لكن في نهاية الأمر، عندما أراد زولا مثلا أن يفعل الشيء نفسه اتضح له أن المهمة شاقة، فاضطر أن يختار طريقة أخرى، واتجه اتجاها آخر، طبيعيا، لا علاقة له بالواقع. أما الواقعية فقد كانت لها ضرورة وموجب عندما لم تكن هناك أية وسيلة أخرى للتعبير عن الواقع، لم تكن هناك أحزاب ولا سينما.” إذن فظهور الرواية الواقعية كان له سياق تاريخي، واهتمامها بالشكل بعد ذلك وابتعادها عن رصد الواقع وعكسه مرتبط أيضا بسياق ما ألا وهو ظهور السينما. يوضح عبد الله العروي المنافسة الشرسة بين الأشكال ويقارن بين الروائي الأوربي قبل وبعد ظهور السينما، إذ يقول: “فالكاتب الأوروبي عندما يقارن نفسه عما كان عليه الحال في القرن 19 –ملايين القراء تنتظر فصلا من رواية ديكنز، مثلا، أو فصلا من رواية الحرب والسلام لتولستوي أو فصلا من رواية أوجين سُو(Eugène Sue) في فرنسا أو فصلا من رواية بلزاك– يحق له، حاليا، أن يندب حظه لأنه لم يعد في ذلك المستوى بسبب مزاحمة السينما أولا ثم التلفزة ثانيا.”
إن ظهور السينما قد شكل حدثا بارزا في تاريخ البشرية، وظهور السينما الناطقة التي زاوجت بين الصورة والصوت شكلت ثورة أخرى على السينما نفسها، وارتدادا على الواقعية في حد ذاتها أيضا، فصارت هي كذلك تهتم باللغة والتقنيات. يرى الناقد السينمائي مصطفى المسناوي أنه “إذا كان انطباع الواقع هذا (أو الإيهام بالواقع) يتحقق في السينما أكثر من أي فن آخر، فليس لأن الفيلم صورة متحركة، ولا لأن الأشياء تتجسم فيه بحضور أقوى من حضورها في الفنون الأخرى فحسب، ولكن أساسا، لأن السينما تتوصل إلى “وضع العديد من مؤشرات الواقع ضمن صور ينظر إليها دائما، رغم اغتنائها، على أنها صور”، أو بعبارة أخرى: لأن السينما “تدخل واقعية الحركة إلى لا واقعية الصورة، فتحقق، بذلك الخيالي إلى مدى لم يسبق أن بلغ قط إليه.”
تظهر وتستمر إلا عبر هذا الإيهام بالواقع. إلا عبر هذا الانطباع الذي يتولد لدى المتفرج بأنه حاضر أمام مشهد واقعي رغم خياليته/ خيالي رغم واقعيته.”
عموما يمكن القول إن السينما تتقاسم مع باقي الأجناس الأخرى مجموعة من السمات الأساسية والجوهرية، وإن كانت تزيد عنها فيما يخص الصورة. يقول محمد الصغير: “لا يستقيم الحديث عن السينما كإبداع فني دون استحضار للآليات المعرفية والإبستمولوجية لاستكناه ماهية هذا الحقل الفني الذي يتغيا في ثيماته التقاط أحداث تاريخية واقعية أو محايثة للواقع وذلك بطرح إشكاليات من قبيل علاقة الفن السابع بالواقع وارتباطه بالحدث وبالذاكرة، والتساؤل عن حدود التماس والتقاطع بين الواقعي والمتخيل fictionnel في التعاطي مع الحدث فضلا عن مدى أهمية الفيلم وتلميحاته في اعتماده كوثيقة تاريخية يمكن الارتكاز عليها كسند للمؤرخ علما أن البون بين التاريخ كعلم والسينما كفن يظل شاسعا على الرغم من القواسم المشتركة بينهما باعتبار أن الشريط عند مشاهدته يصبح جزءا من التاريخ.”
زهير دادي