عرفت الدورة الثامنة عشرة لمهرجان مراكش السينمائي عرض العديد من الأفلام المتميزة فنيا وجماليا وقد كانت المواضيع المركزة على الإنسان حاضرة مع طغيان تيمة الأسرة وذلك داخل المسابقة الرسمية وخارجها وهذه قراءة في بعضها :
“وادي الأرواح” كلومبيا في سنوات القمع والتقتيل
يتناول المخرج الكولومبي نيكولاس رينكون خيلي في فيلمه “وادي الأرواح” أحداثا دامية وقعت في كولومبيا بداية الألفية الأخيرة سنة 2002 ، حيث سيعلم أب أن ابنيه الشابين قد تم قتلهما فيقرر البحث عن جثتيهما رغم أنه يعلم يقينا أن ذلك سيعرضه لخطر قد يقتل على إثره بدوره، وهكذا ونحن نتابع رحلة هذا الأب نكتشف مدى الفوضى السياسية وحالة اللا استقرار التي كانت تعيشها كولومبيا خلال هذه الفترة بحيث تسيطر الميليشيات على مناطق وتعيث فسادا وقتلا في المواطنين ، وقد استحق هذا الفيلم الجائزة الكبرى للمهرجان التي نالها لتميزه الفني وأسلوبه الغير مباشر في انتقاد الظلم والفساد.
“آخر زيارة” انتقاد لاذع للنظام الأبوي وللتقاليد البالية
يعالج فيلم آخر زيارة للمخرج السعودي عبد المحسن الضبعان قضية الصراع الذكوري بين الأجيال في السعودية وينتقد بشكل فني متميز التقاليد والعادات البالية والنظام الأبوي ، وذلك من خلال قصة علاقة مركبة ومعقدة بين أب بابنه وعبر رحلة جيئة وذهابا لزيارة بيت الجد الذدي يحتضر ، وقد شكل هذا الفيلم الأول لمخرجه مفاجأة سارة وغير متوقعة ضمن أفلام المسابقة الرسمية لمهرجان مراكش السينمائي الدولي واستحق جائزة لجنة التحكيم التي فاز بها عن جدارة واستحقاق.
“لين ولوسي” عن الصداقات والخيانات
نتابع في فيلم “لين ولوسي” للمخرج الإنجليزي ذو الأصول المغربية فيصل بوليفة علاقة صداقة حميمة بين لين التي تزوجت باكرا واستطاعت تأسيس حياة مستقرة صحبة زوجها وابنتها المشرفة على حياة المراهقة ولوسي التي تزوجت حديثا وأنجبت طفلا مازال في سنواته الأولى، لكنها وعكس صديقتيها تعيش حياة مليئة بالشجار مع زوجها الذي يصغرها سنا ببضع سنوات. ومع الوقت تتأزم العلاقة بين الزوجين ، وإثر شجار بينهما يموت الطفل في ظروف غامضة فيتم القبض على الأب لكن أغلب سكان الحي يلقون باللائمة على لوسي ويتهمونها بقتل ابنها ، وتاتي شهادة ابنة لين التي تدعي انها شاهدت لوسي تعنف طفلها لتؤكد الإشاعات لتبدأ لين في الابتعاد تدريجيا عن صديقتها وتقرر التخلي عنها وعدم مساندتها، وهكذا تدخل لوسي في حالة م الاكتئاب تنهيها بالانتحار ، ليتبين في الأخير أن إبنة لين كانت كاذبة وأن لوسي مظلومة.
التمثيل في هذا الفيلم كان متميزا واستحقت عنه الممثلتان الرئيسيتان اقتسام جائزة أحست تمثيل نسوي.
الفيلم من إنتاج المخرج البريطاني الشهير كين لوتش وتظهر بعض من لمساته وأسلوبه في الإخراج واهتمامه بالطبقات المسحوقة في هذا الفيلم.
“بابيتيث” الحب تحت ضغط اليأس من الحياة
نتابع في “بايبيتيث” حالة الشابة ميلا المريضة بالسرطان والتي تلتقي بالمتسكع والمدمن على المخدرات الشاب موزيس فتغرم به ويبعث فيها حب الحياة وعشقها، ليضطر أبواها لقبوله فردا في أسرتهم هو المرفوض من أمه والذي يعيش متسكعا في الشوارع إرضاء لابنتهم المصابة بالمرض العضال، لكن مشاكل تنتج عن ذلك.
ما يحسب للمخرجة أنها لم تحاول استدرار شفقة المشاهد حيال حالة شخصيتها الرئيسية لكنها عكس ذلك انتصرت للحظات عشق الحياة وركزت على ذلك الحب الغريب الذي نسج بسرعة بين الشابين المختلفين في كل شيء.
فيلم “بايبيتيث” بسيط في حكيه لكنه يستقي قوته من تلك اللحظات الإنسانية التي استطاعت المخرجة القبض عليها وجعلِنا كمشاهدين نتجاوب معها ونحسها.
وقد نال الممثل توبي ولاس جائزة أفضل ممثل عن أدائه المميز في هذا الفيلم.
“سولي” .. حينما نضطر لبيع إنسانيتنا
يلتقي كل من لينا وإيرمانو لأداء مهمة تتجلى في كونهما سيلدان طفلة ليتبناها عم إيرمانو وزوجته لكن الأحداث ستتطور في مسار لم يكن متوقعا حينما ستنشأ علاقة حب بين الشابين وحينما يتعلقان بالطفلة.
قد نكون شاهدنا قصة مماثلة لما نجده في فيلم “سولي” للمخرج الإيطالي كارلو سيروني، المعروض ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان مراكش السينمائي، لكن المختلف في هذا الفيلم أنه يُركِّز بشكل كبير على تلك العلاقة العاطفية التي تنشأ وبالتدريج من جهة بين الأم والأب الشابين وبين المولودة الجديد إلى درجة نتمنى فيها كمشاهدين أن تظل معهما وألا يأخذها الأبوان المتبنيان وفي نفس الوقت تطور قصة الحب بين الأم الشابة البولونية لينا التي جاء فقط لأداء مهمة الحمل والولادة ثم تسليم المولودة والمغادرة وبين الأب إيرمانو الذي وجد نفسه تحت ضغط الفاقة يقبل بأن يُلَقِّحَ الشابة لكي يمنح طفلة لعمه وزوجته العقيمين مقابل مبلغ مالي.
لايمكن لعين المشاهد المتتبع أن تخطأ ما أراد المخرج أن يمرره كخلفية لأحداث فيلمه إذ أننا نجد به مجتمعا إيطاليا يرزح تحت عبئ التفاوتات الطبقية واللا عدالة الاجتماعية وحيث الفقراء يتم استغلالهم بشكل بشع ليبعوا حتى إنسانيتهم التي لم يعودوا يملكون غيرها.
كان أداء كل من الممثلين الرئيسيين في الفيلم ساندرا ديرزيمالسكا وكلاوديو سيكالوسيو جيدا خصوصا هذا الأخير الذي استطاع بنظرات الحزن وبالصمت المعبر أن يوصل امتعاض الشخصية التي يؤديها ورفضها الصامت لما اضطرت لتفعله.
“ليلة مضطربة” فيلم عن التفكك الأسري
بدو أن موضوع الأسرة سيظل من بين أهم التيمات الأثيرة للسينما الآسيوية خلال السنوات القليلة الماضية إذ بعد الفيلمين المتميزن “بارازيت” (طفيلي) للمخرج الكوري بونج جون هو و”قضية أسرة” لمخرج الياباني هيراكازو كوري إدا هاهما المخرجتان الكوريتان الشابتان لي جي يونغ وكيم سول تسلطان الضوء على قضية التفكك الأسري من خلال طلاق الوالدين وكيف سيؤثر ذلك بشكل كبير وغير صحي على الأطفال.
إذ نتابع في فيلم “ليلة مضطربة” كيف تعيش الطفلة باتت سومين وأخيها الأكبر منها سنا لحظات إعلان والديهما لهما قرارهما بالانفصال لتظل كيفية تدبيره غير واضحة إذ ان الطفلين يتساءلان مع من سيظلان هل مع الأم أم مع الأب أم ان واحدا منهما سيظل مع الأم فيما الآخر سيذهب مع الأب وخلال هذه اللحظات يعرض الأبوان منزل الأسرة للبيع ويأتي الناس لمعاينة البيت ، ومنذ البداية نعلم أننا نشاهد كل هذه الأحداث من وجهة نظر سومين الصغيرة ، إذ يتتح الفيلم على قدوم مشترين مفترضين للشقة لمعاينتها فيما الأبوين يشرحان لهم مزاياها وتركز الكاميرا على الطفلة وهي تتابع مايجري باستغراب بائن فيما نسمع فقط الأصوات الآتية من خارج الإطار،وابتداء من هذا المشهد تحدد لنا المخرجتان وجهة النظر التي سنشاهد من خلالها أحداث الفيلم.
وتشرع الأحداث في التأزم شيئا فشيئا حتى نكاد نصل إلى نهاية الفيلم حيث تختفي الطفلة سومين لتخرج الأسرة بحثا عنها وفيما الأبوان يبحثان قريبا من المنزل يستطيع الأخ العثور على أخته لكن مايكاد الأبوان يقتربان حتى يختبأ الطفلان لينتهي الفيلم في هذه اللحظة حيث الطفلان أصبحا رافضين لوضعية الأسرة المتأزمة والحالية وحيث أصبح كل الاستقرار والتماسك الأسريين مهددي.
“بومباي روز” .. يتقاطع مع السينما البوليودية دون محاكاتها
يتميز فيلم الرسوم المتحركة “بومباي روز” للمخرجة الهندية جياتانجالي راو الذي عرض ضمن أفلام المسابقة الرسمية لمهرجان مراكش السينمائي كونه يتناول قضايا إنسانية واجتماعية بشكل فني متميز، اذ استطاعت المخرجة أن تقدم لنا كمشاهدين لوحات تشكيلية غنية بصريا جاعلة من الألوان التي تميز الثقافة الهندية وسيلة لإيصال معاني سامية. إضافة لأغاني هندية جميلة ومعبرة عن المسار الدرامي للفيلم رافقت كل الأحداث من بدايتها إلى نهايتها. ومن خلال التقاطع والإحالة على سينما بوليود الميلودرامية دون السوقوط في محاكاتها أو النسج على منوالها أعطت المخرجة عملا فنيا يمنك ان ينافس على إحدى جوائز مهرجان مراكش هذا العام، إذ نتابع شخصية الشاب سليم المسلم القادم هربا من كاشمير بعد مقتل والديه الذي يتماها مع أحد أبطال السينما البوليودية الذي ينتصر على الأشرار ويفوز بقلب حبيبته، لكن الواقع المرير الذي يعيشه هو عكس ما يدور في ذهنه تماما فهو مجرد بائع زهور متجول بالكاد يحصل على قوت يومه وحتى هذه المهنة ستنقطع سبل عيشه فيها بعد ذلك وهو أيضا يحب الشابة كمالا الهندوسية التي قدمت إلى بومباي صحبة جدها وأختها الصغيرة لتتعقد حياتهم بعد شلل الجد الذي يصلح الساعات، فتضطر للتفكير للهجرة للعمل حيث لا أفق مضمون.
من القضايا التي يعالجها فيلم “بومباي روز” قضية تشغيل الأطفال واستغلالهم ، وأيضا مسألة التعايش الديني الملغوم في الهند.
عموما تقدم لنا المخرجة متعة بصرية في فيلمها هذا الذي يستحق التنويه والإعجاب.
“الإرلندي” لمارتين..فيلم على مقاس روبيرت دينيرو
وشهد المهرجان عرض فيلم “الإرلندي” لمارتين سكورسيزي في عرض خاص، و الذي يمكن لنا الجزم أنه ليس أهم فيلم على الإطلاق للمخرج الكبير، لكن هذا لا ينفي عنه كونه فيلما مميزا من الناحية الفنية ويحمل بصمة مخرجه..
ومن بين أهم نقط قوة فيلم “الإيرلندي” هو ذلك “الكاستينغ” الموفق تماما إذ أن سكورسيزي كعادته اختار ممثليه بشكل جد موفق وأدارهم بشكل جيد، إذ اننا نجد في هذا الفيلم روبيرت دينيرو يسترجع حيويته وتألقه الذي كان قد فقدهما في أفلام بسيطة درج على المشاركة فيها بعد انفصاله عن سكورسيزي وبعد أن لم يعد يشتغل باستمرار مع قامات إخراجية مهمة أخرى، ويمكن لنا القول أنه فيلم صُنع على مقاس دينيرو، وحتى ذلك التطويل الذي تحدثنا عنه وكأنه كان من أجله ليصبح “الإيرلندي” فيلما سكورسيزيا لدينيرو، وكأنهما يريدان بذلك إحياء أمجادهما ونجاحاتهما السينمائية في هذا السياق لكن شتان بين ما صنعاه في الماضي أثناء حيوية الشباب وهذا الفيلم.
لكن يظل آل باتشينو مبهرا في أدائه لشخصية “هوفا” التي سبقه في أدائها جاك نيكولسون في فيلم يحمل نفس عنوان الشخصية التاريخية أنجز بداية سنوات التسعينيات، إذ لا يمكن لنا إلا أن نعجب بباتشينو وهو يتجاوز نفسه وموهبته في هذا الدور الذي وكأنه كتب له خِصِّيصا، ففي مشهد حيث “جيمي هوفا” قد خرج من السجن على الفور ووجد أن كل خيوط اللعبة قد أفلتت من بين يديه وأن النقابة التي صنعها وأعطته كل تلك الشهرة والسلطة والأمجاد التي وصل إليها لم تعد مِلكه ولا بين يديه يحاول أن يثبت في لحظة انهزام لم يستوعبه تماما بعد أمام شخصية رجل المافيا التي يؤديها جون بيتشي قائلا له “إنها نقابتي ألا تفهم” فيما الآخر يحاول أن يفهمه أن الأحداث قد تجاوزته وأن عليه الاستسلام، مشهد يجب أن يدرَّس في المعاهد لطلبة التمثيل لشخصية مهزومة لكنها مازالت لم تستوعب انهزامها ونزولها المأساوي للهاوية وما زالت تتصرف على أساس أنها قوية. ويبدو أن قوة آل باتشينو في أدائه ترجع لكونه ذلك الممثل القادم من المسرح والذي يرجع إليه بين الفينة والأخرى.
تدور أحداث الفيلم عن مرحلة ولت وانقضت وكانت نهايتها أواخر السبعينيات فيما شهدت أوجها خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي لسيطرة المافيا الإيطالية على دواليب الاقتصاد والسياسة وتحريكها لخيوطها في أمريكا ، وقد استطاع مارتين سكورسيزي أن يُلم بخصوصية هذه الفترة وبتناقضاتها ويدخل كعادته في خبايا ونفسيات شخوصه من خلال أداء مبهر لكل الممثلين.
عبد الكريم واكريم-مراكش