قراءة أنثروبولوجية في فيلم ولولة الروح للمخرج عبد الإله الجواهري
من” لقب الشيخة التحقيري” إلى لقب الحاجة التقديري” رحلة لجوء إلى وطن الاحتماء والخلاص
عندما توفيت رائدة العيطة، كنت كتبت في تأبينها آنذاك وقلت، أنها أصبحت أيقونة ونغمة وتراثا وطنيا، مؤلفا وجامعا ،تقشعر لسماعها الأفئدة ،وتتداعى لها كما في نوبات تثاؤب، الأبدان، كما لو أنها تستسلم لعدوى وباء من الشعور الجميل يخترقنا ويدب في عروقنا، ويدخلنا في رغبة لا تقاوم في الالتحام والغناء والميلان والرقص، وحتى التحليق والطيران، عندما تلتفت الحشود، وتكتشف فجأة أن ادرعها المرفوعة المتماوجة المتلاطمة ، قد انتزعت منها في غفلة، وحولتها النغمة الرهيبة إلى أجنحة تساعدها على التحليق والطيران، مثل الطيور المنتشية بالسمو ،والملائكة والأرواح الخالدة العائدة إلى اعشاشها واحضانها وعنانها وجنانها في السموات السبع، فهنا لن يعود بمقدورك، أن تقف بجسدك أو صوتك على الحياد، حتى ولو بالدندنة الخفيتة المكتومة في اعماق النفس وذلك وحياتك من أضعف الإيمان. ويحس المتخلف عن المشاركة، كما لو أنه تقاعس في الاستجابة لنداء، لترديد النشيد الوطني، أو أنه خدل قومه ووطنه ونفسه في معركة مصيرية، حسمت في غيابه، احتشد وانتصر وغنى فيها الجميع أغاني الانتصار، وحرم هو نفسه من حلاوة هذه النشوة النادرة الحدوث.
من القمر الخجول إلى النجمة الساطعة رحلة لتحرير الجسد الأسير عقب معركة ثقافية
هذه الصورة الجميلة المحفزة الموحدة الجامعة الماتعة، لم تكن من قبل كذلك، بخلاف ما ذهب اليه الكثير من الباحثين الذين قرأوا في نسخ محينه غير أصيلة تتمازج فيها وتتصالح وتتعايش أجناس تعبيرية من مختلف المشارب والمقاصد والرسائل، تجمع الروحي بالجسدي والسماعي بالإيقاعي والمديح مع الغناء والطقوسي بالملحمي والفرجوي، والرقص بالهيت والجذبة. يقتضي المنطق والبديهة، فرز الأصيل منها عن الدخيل للنفوذ إلى لغتها التعبيرية الحقيقية في حين أن الشيخات كن ضحيات وليس لاعبات ولا بطلات، والبناء على حالة خربوشة الاستثنائية، لا يصلح للتعميم، والدليل على أن الشيخة كانت ضحية حتى على المستوى الرسمي، وبين النخب المثقفة الحداثية والوطنية، هو أن التلفزة الوطنية العمومية، عند بداية البث بالأبيض والأسود، عرضت أغاني عيطة بمشاركة الجوق الوطني، يستحيل على جيل اليوم من الإعلاميين إعادة عرضها عبر أية قناة رسمية وغير رسمية بل حتى عبر الهاتف الخاص للمشاهدة المنفردة، لما تمثله من وخز ضمير و إهانة واستغلال لجسد المرأة الضحية، وهناك نماذجا منها باليوتيوب، من قبيل اغنية” با لحسن بشويا أنا عزبة من راسي والقاع مشا فالعراسي.. “!! وهي تمثل الصورة الحقيقية “للمغنية الشيخة “التي كانت تنشط بين الذكور وغالبا في الهوامش والخلاء والظلام، ومن حق المبدعين والسينمائيين بسبب حساسيتهم التعبيرية والفنية -دون المؤرخين المتمسكين بقدسية الحقيقة-ترميم صورتها ومسح دموعها ودمائها وتضميد آلامها وجراحها، مثلما في افلامهم الكلاسيكية، عندما يحولون الضحية المحبطة إلى بطلة ونجمة على كل الشاشات والأستوديوهات، تسلط عليها الأضواء من كل الزوايا والجهات، لتخرج من وضع “مغنية شيخة” بمخبأ بالظلام إلى “مطربة حاجة” بين الأنوار. وليسوا وحدهم من يفعلون ذلك، وإنما كذلك المثقفون والإعلاميون ،وخير ما يمثلهم ويستحق التكريم ولو بذكر اسمه بالجينيريك ،المرحوم خالد مشبال، عندما اكتشف مطربة ترقد مريضة ، فاقدة القوة والبصر والصوت في بيت مظلم، دون معيل، رميت فيه وتركت مثل فوطة مرحاض، بعد استعمال ،مسحت عليها البهائم روثها ووسخها وخبثها وانانيتها، وراحوا بحثا عن ضحية موالية أخرى، بعد أن افقدوها شرفها ونسبها واهلها وهويتها وحاضنتها الشعبية، ومثل تدخل الاعلامي الشهير ما يشبه ثورة ثقافية تفجرت على يده ضد نمط من الممارسات البديئة على ادمية وكرامة المرأة، وانخرط فيها الجميع بحس غيرة وطنية غير مسبوقة، فهم لم ينقذوها وحسب، وإنما اعادوها وادخلوها إلى ساحة النجومية الحقيقية، لتجد المزاج الشعبي قد نضج واستقطب جيلا جديدا من المولعين والمتابعين الحقيقين، ومن المتتلمذين، من غير الفصيلة ذات الحواس المربوطة المكبوتة والمسعورة المفترسة للجيف واللحوم الأدمية.والخروج من مخبأ لقب الشيخة القدحي إلى وطن اللجوء والاحتماء الذي يمثله لقب الحاجة التقديري، كان من نتائج هذا المجهود الذي ينخرط فيه الفيلم بوضوح، ويؤكد أن العمر الافتراضي للجمال والفن، ليس مرتبطا بجسد ولا بحياة أو اعمار أشخاص ولا بحدود مجال، وإنما بولع ينتقل بين الأقوام والأجيال.
اللغة السينمائية والأنتروبولوجية القيمة التعبيرية
إن اللغة وايتها لغة تعبيرية أو إبداعية، قبل أن تكون اصواتا أو حروفا وتراكيب كلمات أو جمل ،أو نقاطا توضع على الحروف أو اقلاما أو ادوات تصوير وتعبير أو ممثلين مقتدرين، توضع بين يدي مخرج سينمائي، هي قبل ذلك، مستمدة ومؤطرة ومحكومة بخلفية تقاليد في التعابير الأنتروبولوجية، مثل توظيفات حركات الجسد، والرموز والأرقام والملابس والألوان والرسوم والأوشام ،والأشكال الهندسية، وتوظيفات المعادن، إما لتحديد قيمة وسلطة الأشخاص(حلي،تيجان، ذهب، نقرة فضة نحاس…)أو أدوات طهي وتثمين مجالس أو مراقد ومزارات، أو حتى ادوات تعنيف أو ترضية أو اسلحة حروب :مثلا ظهور السلاح المعدني مثل البنادق والسيوف في الهيت يعني أن الرسالة موجهة نظريا للعدو من خارج الملة بسبب تحريم استعمالها فيما بين المسلمين ،بينما العصي لكبح العصيان والتمرد الداخلي، لا تترتب عن القتل بواسطتها دية ،لأنها تدخل في باب القتل غير العمد (حديث).والضرب بالحزام تربوي ومنه جاء لفظ الحزم ،يحمل خلفية أخلاقية، ويستحضر حزام عفة، لذلك إذا اخفينا عن الأب الحزام أو عن الأم صندالة الحمام، فانهما سيتراجعان عن التعنيف، لتخلف الرمزية الثقافية في باقي الأدوات، كالعصي مثلا وقد يبدو الأمر مثيرا إذا عرف الناس أن عبارة” لعنك الله “في اللغة العربية “ونعلك الله في اللهجة المغربية” صحيحة لأن التعبير الجسدي المألوف الذي يصاحب النطق بالعبارتين ،يكون برمي نعل اي حذاء على الوجه المستهدف لطرده.
هذه فقط عينة من القواعد الثقافية، تفيدنا في معرفة لماذا استعمل المبدع هذه الآلة أو هذه العبارة دون تلك، وفي تقديري أن المغرب بحكم تنوعه وغناه، مجالا وجمالا وإنسانا، يوفر للقارئ والمخرج فرصا ثمينة، للحركة عبر نقاط وزوايا نظر ثقافية مختلفة، ما يترتب عنه وفرة وجودة في الأحكام والأذواق والأطباق والأنغام والفنون…وما قلناه متوفر في الفيلم مثلما هو في الواقع سنكشف بعض جوانبه.
العيطة والتوظيف الأنتروبولوجي للتلفزيون والسينما
هناك على ما يبدو، تساؤلا وجيها ومثيرا اثرته مع نفسي أمامكم، وقد يكون نال منه القنط لما تأخرت عليه في الجواب. كيف لتلفزيون عمومي وقتها كان يبث بالأبيض والأسود، يندرج ضمن المؤسسات العمومية والرسمية وحتى السيادية للدولة، ويخضع لمراقبتها تحت إشراف ثلة من المثقفين الوطنيين والحداثيين، يسمح باستعمال موارده البشرية واللوجيستيكية والفنية لعرض اغنية “با لحسن بشويا” وفي خدمة المغنية، جوقا وطنيا رسميا، ووراءها كورال يردد ويؤكد ويتبث ما تقوله، وقد كان المجتمع وقتها محافظا أكثر من اليوم، في الوقت الذي يستحيل عليه اليوم إعادة عرضها؟!
لا أجد لهذا التساؤل سوى جوابا وحيدا، وهو التوظيف الأنتروبولوجي للتلفزيون نفسه، الذي تغير مع مرور الوقت فالتلفزيون عند ظهوره اول مرة بالمغرب وُضع ببيت الضيوف، ونظر اليه الناس باعتباره نافذة خارجية، وكتصرف جسدي، يؤكد ذلك بادرت ربات البيوت، بتغطيته بستار من الثوب المطرز، وبوضع مزهرية فوقه، مثل باقي النوافذ الخارجية، والتي لم يكن من حق المرأة الإطلالة عبرها. وكانت وحدها أبواب بيوت الضيوف من تملك نوافذ وأبواب خارجية، معزولة صوتيا وثقافيا وحتى لغويا عن باقي غرف المنزل، وكان مكانا للانتشاء والتسلية بين الذكور وللاسترخاء بالجسد عبر كل الأوضاع، لشرب الشاي وتدوير الكؤوس وفق خدمية تشبه الخمر، واللهجة المتداولة داخله ليست جريئة مثل لغة الخلاء، لكنها لم تكن ايضا خجولة ولا موقرة مثل عبارات داخل الدار.ووفق هذا التقدير كان التلفزيون، موجها انطلاقا من رؤية الأستوديو، بنية أن يشاهده فقط الذكور ،متكيفا مع قيمهم واذواقهم وأوضاع وظروف مشاهداتهم، حيث كان التلفزيون حق ذكوري حصري، مثل ارتياد أماكن الفرجة والتسلية والانتشاء ،والأعراس وخيم الشيخات…قبل أن يتقدم التلفزيون مع مرور الوقت، ويزحف إلى خارج بيت الضيوف كغول ، ليحدث تغييرا في ثقافتنا المعمارية، وينتزع مكانا يقيم فيه بيتا ينسبه لنفسه وليتكيف مع وضعه الجديد كوسيلة فرجة وتثقيف جماعية ،انفتح على الأباء والنساء والأطفال على حد سواء، بتقديم برامج اخبار وطبخ ورسوم ومسلسلات…وقد ترتب على ذلك أن ازاح الأب عن مركز الكون العائلي وعن سلطة التحكم في حياة العائلة، عندما كان يتخذ مركزا يتحلق حوله الأفراد ، يسمعونه ويمتثلون له ،هو من يحدد وقت الدخول والخروج والأكل والنوم والصديق والزوج والمهنة وحق المبادرة في إختيار موضوع الحوار ووجهته ، لتجب مسايرته لأنه من العيب مقاطعته، وهي نفس المهام والحظوة التي سحبها منه التلفزيون ،وجعل كامل الأسرة بما فيهم الأب متحلقين حوله ،يصدقون ويسايرون ما يعرضه عليهم، لأن مراجع اخباره اقوى من مراجع المشاهد، الذي صار عليه تكييف افكاره ومواعيده ونماذجه مع صورة التلفزيون ليصير التلفزيون الوجه الأبوي الرسمي للدولة، التي صارت تمارس عليه رقابتها و حتى على الأفلام السينمائية التي يعرضها، قبل أن تنفجر في حجرها الفضائيات كالجمرة الخبيثة، ليظهر من يجادلها في حقيقة معلوماتها واخبارها، أحيانا بالتشكيك أو التكذيب وحتى التشميت، ثم تظهر الهواتف الذكية لتنتشل المشاهد من وضع المتلقي السلبي ،المحاصر في مكان تابث، مع مشاهدين مجبر على الخضوع لرغبة وذوق الماسك بجهاز التحكم في المشاهدة، إلى وضع المتفاعل الذي يملك حق التعليق والرد والاختيار.
الإسم واللقب التوظيفين التعبيري والثقافي
الإسم ممارسة تعبيرية وديمقراطية شعبية مباشرة شاملة وعامة، لا يمكن أن يصل لها أي دستور في العالم على الإطلاق، لأنه ومهما تكن طرق الدول والمجموعات لاستفتاء الشعوب في رأي استشاري ما، سيبقى هناك مواطنا أو فردا لم يُستطلع رأيه، إما بسب سنه او مرضه أو اهليته أو جنسيته أو مكان تواجده، بينما لا نجد إنسانا في العالم حرم من ممارسة حقه في الحصول على اسم أو لقب يبرز هويته اللغوية او ولاءه العقائدي أو تماهيه بمثله الثقافية، ويعبر عن وجهة نظر قومه بشكل من الأشكال، بالفيلم هناك ايحاءات سياسية صريحة تعبر عن وجهة نظر المخرج في بعض الشخصيات العامة إدريس(البصري )أو المناضلين ،سعيدة(المنبهي ) عبدالفتاح (الفكهاني )…لكنني سأركز في البداية على ما يمثله الانتقال من اللقب التحقيري القدحي للفظ مغنية” شيخة ” الذي يبدو أن المخرج تعمد حذفه، واقتصر على لفظ زهور لنفس الاعتبار، مع أن اسم زهور هو الآخر مستعارا، وليس اسم الممثلة وهذا ما يقربه من وظيفة التخفي، إلى اللقب التوقيري (الحاجة)الذي عادة ما يمثل للشيخة محطة نهاية مسار، والظاهر أن زهور والشيخ قد دخلا مرحلة التقاعد، لأن كل كلامهما وغناءهما مجرد حنين إلى الأيام الخوالي، وهما باثا يملكان فقط الخبرة لمساعدة المقبلين والباحثين(عبد الفتاح ).
ويمثل أيضا لقب الحاجة، نوعا من التخلص والهروب من العار ومحو ذنوب الماضي، وإخفاء الهوية المهنية، بعد إخفاء الهوية الأصلية، وأيضا نوعا من التعبير عن الندم والثوبة إلى الله الثواب الغفور الذي تشمل رحمته وثوبته وغفرانه الجميع، والحج أحد مداخلها، بما يمثله من أهمية في المخيال الجمعي، لكونه من أركان الدين وفرصة للتطهير والاغتسال من الذنوب والترقية المجتمعية، وهو وطن لجوء واحتماء، لامرأة ترى نفسها ضحية ازدراء وتحقير بسبب ماض، كانت فيه لقمة هشة وسائغة ،تكورها وتشكلها الظروف وعوامل الجرف والتعرية والتقريع المجتمعية ،ولم تكن يوما لاعبة، تمتلك حق الوصول إلى عمل يوفر لها إعالة، تغنيها عن اذى المتربصين والمستغلين .وهي بقدر ما كانت مجبرة على ترديد اغاني الخمريات والغراميات، بالقدر ما كانت اضعافا ، تصيح عيوطا أي إستغاثات وتضرعات ، وترديد لأسماء كل الأضرحة الصالحين وغير الصالحين (ما يعكس اميتها وهشاشتها )طمعا في يد تمتد لها من هذا المكان او ذاك لتنقدها .
النسب والهوية بين الإخفاء التستري والإخصاء الثقافي وقطع النسل العملي
من بين الدراسات التي نشرتها بكتابي “قصعة العذارى في الأعراس كسكس بالدمالج” والتي كانت عن الأسماء والنسب ،تبين لي فيها أن المغنون، مثل باقي المنبوذين، من ابناء الزنى والمجرمين، كانوا ينسبون إلى أمهاتهم، (ولد فلانة )لأن المجتمع الأبوي الذكوري، كان يرفض نسبتهم اليه، كنوع من عقوبة إسقاط الأبوة والتراجع عنها بسبب الغناء، وإعادتها إلى المرأة الأم التي كان قد جردها منها من قبل واحتكرها ثقافيا، في طقس العقيقة، حيث عند التسمية وبالتوازي مع الشروع في ذبح الكبش وتمرير السكين، كان الجزار ينادي وسط الحضور وأمام انظار الأم، ما اسم أم المولود، كتعبير جسدي عن قطع النسب الطبيعي لفصل الولد عن أمه، والحاقه ثقافيا منذ اللحظة بنسب أبيه، فلان ابن فلان، ليبقى مجرد وديعة لأجل بظهر الأم، حيث الظهر بلغة التعبير الجسدي يرمز إلى ماضي المرأة وليس الى مستقبلها ولحسن الحظ زالت العادة ،وانتقل الابن كإشارة استرجاع جسدية وودية تجاه الأم ،من ظهرها إلى حضن الوالدين معا وصار الأب يفتخر بابنه المطرب الذي أصبح مقربا يحظى بتقديرالمجتمع.
أما الشيخات فكن يحملن أسماء مستعارة مثلما بالفيلم، لا تحيل لا على نسبها لا للأب ولا للأم ولا على أصلها ولا على هويتها الإثنية الضيقة، ولا تقربه من اسمها الحقيقي، ومن شدة انفة وخوف على صورة أهلها، وإن كانوا من تخلوا عنها لفقر أو لسبب من الأسباب، لا تشير اغاني العطية لأماكن تواجدها إلا نادرا ولو كانت خيمة أو قيطونا متنقلا بين الأمكنة.وبسبب الغناء كانت تفقد شرفها، واسمها وهويتها ونسبها وعنوانها، كوجه وكمكان، وحاضنتها الشعبية. ويمثل ذلك نوعا من الإخصاء الثقافي وقطع النسل، إذ معظمهن كن يفقدن الحق في الزواج وتبني الأولاد، إلا إذا كان بين شيخ وشيخة كما في الفيلم، والذي يبدو أنه تم بعد فوات سن الإنجاب لعدم وجود اولاد ولتعبير زهور عن رغبة شديدة وبحرقة، عن تبني اسم يذكرها بمنانة.
وليس فقط المنبوذون من ينسبون إلى أمهاتهم وإنما حتى النكبات وسنوات القحط والجوائح والجراد، فالمرأة إذا حققت انتصارا جرد منها ونسب إلى جنس الذكور امرأة-رجل، وإذا تكبد الرجل هزيمة برئ منها الرجال ونسبت ولفقت للنساء، رجل امرأة….
ومن قبيل تلفيق الجنايات في الفيلم للفئات الهشة باعتبارها الحيط الواطئ الغير محمي ثقافيا قبل أمنيا (لأن ثقافة العامة مهيئة لتصديق ذلك) تلفيق جناية قتل الفتاة بنت الفاسي التي يبدو أنها سياسية لخربوش وتهمة موته للشيخ الروحاني، ولو على سبيل المزاح اثناء تناول الخمر، ونحن نعرف صدق وبلاغة لغة اللاشعور.
ومن قبيل ما نسب للنبلاء من معصومية عن الأخطاء والخيبات، تكليف عبد الوارث لقنص الحمام نيابة عن المسؤول الأمني الفاشل، لخلق عنده نوعا من الشعور بالانتصار التوهيمي بإنجاز ( يحققه الغير وينسب له)المهمشين، يشبه احتفال القبيلة بفحولة وإنجاز خادم مأجور ناب عن العريس، وهناك علاقة بين صيد السمك، وقنص الحمام وكلاب الصيد ورد في تلميحات بالفيلم، وبين مطاردة النساء لافتضاض بكارتهن، أليس الاحتفاء بإطلاق النار في الأعراس محاكاة صوتية لفتق البكارة وتفجير الدم ونثره في أجواء القبيلة، أوخراج الإيزار كدليل شرف وفحولة، ليعرض قصد الإشهاد عليه بلفيف عشيرة المطبلين والمزغردين؟ اليس في العملتين تشابه: شكل قضيبي (جل الأسلحة) يستهدف مخلوقا ناعما رمزا للوداعة والسلام، امرأة حمامة سمكة بلا سلاح، ليصيبها في شرفها وحياتها ودمها
الوسم والوشم والرسم والرشم وضع النقاط على الوجوه أو الحروف، تزييني أم تمييزي؟
–عندما ضحت القواميس العربية باللفظ الصحيح من أجل الأنثروبولوجيا
يبدو أن المخرج عند توظيفه للوشم لم يقصد تجميل أو تزيين جسد زهور، وما يوحي بذلك عدم اغراقها مثل باقي الشيخات بالمكياج والالوان والمعادن والحلي الممتدة حتى للأسنان بعمق الفم وهو لمح بذلك إلى نظرة الناس لها، فالوشم قبل أن يكون زينة كان فعلا تمييزيا لرشم المنبوذين والسجناء، لذلك يمكن للمخرج استخدامه في هذا الاتجاه أو ذاك والاستنتاجات تكون من السياق.
من الناحية اللغوية عند دراستي للتوظيفات الأنتروبولوجية للنقاط، تبين لي أن وضع النقطة على الحرف مثل وضع القبعة أو الوشم على الجسد هو فعل تميزي كما في حال الوسم والوشم والرسم والرشم، قد يكون ايجابيا كما قد يكون سلبيا، تبعا لتفاعلات أعضاء الجسد والسياق ، فهو يخرج الكلمة من الوضع العادي المألوف الى المميز،وربما لذلك سميت معجمة اي غير مألوفة، من قبيل مثلا مع التدخل الإيجابي للسان عذب لذيذ ذوق ذهب عظيم مذهل ثري أو بتدخل الحواس الغريزية عذراء أنثى ذكر خنثى لثمة…أو النفور مذنب مذلول خاذل غدار…أو دخول النقطة على الراء لنقلها من الحركة السوية ،الجري والركد والسريان والهروب إلى الانزلاق والتزحلق والزيغان والزيف والزلف والزرف…
وخصوصا عندما ينقل الحاء من الحرية والحب الحياة إلى خيانة وخذلان وخيبة وخبث…. والمثير حقا أن يعتمد هذا التمييز ويرسم خاطئا لغويا لكن صحيحا انتروبولوجيا، ككلمة النخاسة التي يقول القاموس أنها من نغز الدابة وكذلك الغراز التي اصبحت خرازا، فبالاستنتاج يمكن القول أن ذلك كان لزيادة الدونية والتمييزية في حق العبيد وممتهني الحرف اليدوية. (كذلك الحرفة الانحراف والمهنة والمهين…)
وبالاستنتاج أيضا فإن الوسم لما يصير وشما والرسم لما يكون رشما، مثلما قد يكون زينة، سيكون حجزا ورهنا لجسد المرأة وتملكها، ألا نقول في لهجتنا رشم الفتاة ونعني وضع عليها اليد وحجزها لذمته مثل، مقعد بمطعم مكتوب عليه محجوز للغير؟!!
-من ناحية النظرة الثقافية
تكاد تجمع الحضارات على اعتبار الوشم رشما ووصما تمييزيا في الأصل، يميز المنبوذين والمساجين، لذلك لم يسمح للملوك والأمراء حتى في أعرق الدول الأوربية باللجوء إليه، هناك اخبار عن قيام أميرة بريطانية بذلك، لكن سمح لها فقط بوشمه صغيرة خلف القدم، ودول كثيرا تمنعه، تركيا تسمح بالقابل للمسح.
وتبقى اليابان التي تضم المع نجوم فن الوشم واغرب التجارب والسوابق القضائية المثيرة، في مواجهة المناضلين من أجل إقرار الوشم كفن ثامن، مثلا عندما اسقطت المحكمة في مناسبتين قرارين لعمدة طوكيو، الأول منع سائحة تحمل وشما من دخول مسبح عمومي، اعتبرت ذلك فعلا تمييزيا على أساس الشكل والثاني اشتراط ممارسته على الأطباء، لما اعتبرت أنه فنا وليس مهنة، لا علاقة له بالطبيب، وتترتب عليه حقوق تأليف، ما اسال الكثير من السجال الثقافي والقانوني، عندما يصير مؤلف الوشم متحكما في حركات الجسد وحق اظهاره (حالتي بيكهام وجوني هاليداي مثلا)ويملك حتى حق التعويض او إتلاف النسخة اذا تبين أنها مزورة أو مقلدة أو تغيرت بسبب بدانة أو نحافة!!.
ويبقى الوشم الذي شهد توسعا رهيبا في الدول خصوصا الغربية فنا ظهرت فيه مدارس ونظريات، لكن تمييزا يؤثر على فرص الشغل والتشغيل رغم ادعاء العكس وذلك ما اظهرته، عينات من تصريحات المشغلين وحاملي الأوشام في بعض القطاعات، في دول مثل كندا وأستراليا وحتى أمريكا. (يمكن قراءة المزيد في كتابي المشار اليه)
الفضاء والزمن وضوء القمر الخجول وطن احتماء وإجبار وليس خيار
ينتظرون حتى يحل الليل ويظهر القمر، وذلك هو زمنهم ثم يتسللون مستترين، إلى الخلاء وذلك هو فضاؤهم، ليتحلقوا على شكل دوائر بشرية، ليحجب كل واحد منهم، رؤية الآخرين لوجوههم، ويبرزون فقط ظهورهم الصماء، ليخفون هويتهم واشكالهم وتعابير وعناوين وجوههم، أحيانا يستعملون طاقيات الإخفاء لكي لا يلحقهم أذى الآخرين، الذين سينظرون إليهم بازدراء كمنبوذين، ولأنهم لا يوقدون الأضواء التي تفضحهم، ويكتفون بضوء القمر الخافت، ولفضل القمر عليهم وهو يسترهم سميناهم المقامرين لكن فضاء الخلاء وسترة الليل تحت نور القمر، لسيت مخابئهم وملاجئهم لوحدهم.
فأيضا الشيخات المطرودات من حق الحياة بكرامة، يأتين الى هنا لينصبن خيامهن وقياطينهن المتواضعة الهشة، السريعة التفكيك، لتمكين الهروب مع اول تهديد، ولو كان مجرد اغصان شجرة تتحرك في الظلام، يتوهمن أنها مالك الأرض الذي أتى ليطردهن،
والمخرج أعطانا مؤشرات على هذا التوصيف حيث البيت ملجأ ومخبأ على الهامش به بعض من هذه الهشاشة ،فهو مغلق صوتيا وضوئيا وثقافيا، معزولا مثل الخلاء والمنفى، عن الأهل الذين لا يدخلون إليه ،والزهرة اخبرتنا أنها هربت من بيت العائلة، لا ندري ما إذا كانت قاصرة أم لا، وتعمدت عدم الإشارة لتحديد مكان الهروب ولأصلها طبعا، غير أن الفضاء مستباح بلا حرمة لا أمنيا ولا ثقافيا، يدخله المخبرون بأقدامهم المدنسة متى شاءوا لمعاقرة الخمر ،وهو حائط واطئ هش وقصير ،سهلا لتلفق اليه التهم، كاتهام الضابط للشيخ بقتل خربوش.
اما ملكية الزمن وأدوات ضبطه والتحكم فيه، فهنا الزمن روتيني من فصل واحد معلق على انتظار رحمة الله (أيام الله واحدة) بلا قيمة مثل ساعة الشيخة وحقيبة مكياجها وملابسها، فوضع ساعتها باليد اليمنى عكس الذكور واميتها لا تسمح لها باستخدامها، إلا كحلي لتثمين الجسد، مثلما الحقيبة التي لا تحتوي سوى على أدوات زينة، مختلفة عن شكارة الذكور الذين أقروا لأنفسهم حقا حصريا، للتحصيل والإنفاق والإعالة وجردوا حتى ملابس النساء، من الجيوب لربطهن بالرجال، وللتأكيد بالرمزية الواضحة على أنهن لسنا اهلا لكسب او التصرف في المال.
في باديتنا إذا صاحت الدجاجة مقلدة صوت الديك تذبح فورا، لأنها تطاولت على مملكة الذكور المسؤولة عن ضبط الوقت بكل ابعاده ورموزه.
التوظيف الأنثروبولوجي والإبداعي للرقم 100 بين نيازك السماء وبركات الأرض
يتكرر طوال الفيلم مشهد الشيخ، وهو يعد النجوم، ويترجى بمنتهى الثقة واليقين رحمة الله الواسعة الشاملة، التي ستنزل من السماء، ولو بعد طول انتظار، مثل نيزك مضيئ وثمين أو زخة غيث مفاجأة، أو خبزة مدورة مستورة مباركة ما رأتها وتنبأت بها أعين ولاعجتنها ايادي (بقولنا الدارج)، يرمز إلى شكلها الهندسي المدور صفرين بعد رقم صحيح، غير معتل، الوصول اليه يعني تجاوز فترة الاعتلال إلى الاكتمال.
وإذا كانت العيطة كما يفيد معناها القاموسي والتعبيري الجسدي، تفيد النداء والاستغاثة والولولة، من بعيد بصوت مرتفع مع تطويل العنق ليسمع ويرى القريب والبعيد، فيستجيب، والذي اوله الله واسع الجلال، والأضرحة واولياء الأرض الصالحين المتوسطين، المتكررة اسماؤهم كنوع من الإصرار في التوسل بسبب ضيق الحال، فإن الاستجابة والخلاص يأتي كمكافأة اعتبارية ورمزية من قبل المخرج بالوصول اخيرا، عند نهاية الفيلم السعيدة إلى رقم الاكتمال 100.
وهذا ما يعيدني إلى ما كتبته بخصوص توظيف الأشكال الهندسية والأرقام في المخايل الجمعي، وخصوصا عند القراءة في حوادث الخصومات بين النساء، حيث تجد المرأة نفسها في مواجهة أكبر أزمة وقلق تعبيري في لغة الجسد، عندما تكتشف أن اللغة الذكورية، لا تترك لها في جسدها أي عضو يرمز إلى القوة الإيجابية أو الشرف أو الرقم الصحيح ،فتجبر على الاستقواء بالاستعارة بالعضو المركزي التحكمي في الجسد الذكوري ، عندما ترسم بأصبعها أو بدراعها الشرفي محاكاة رمزية لشكله الهندسي القضيبي، لتهين وتغتصب به رمزيا مخاصمتها، وعندما تريد أن تنعتها بالسلبية لا تجد الوفرة سوى في جسدها الأنثوي، فترسم لها بيدها اصفارا ودوائر تحاكي العضو الأنثوي للتعبير عن دونيتها(هذا ما تساوينه هذه قيمتك أي امرأة، من هذا الصفر- الدائرة تدخلين ومنه تخرجين أي امرأة مغتصبة رمزيا دون قيمة قبل وبعد الخصومة )ولذلك قلت أن الأرقام شكلت ووظفت ثقافيا على مقاس مجتمع ذكوري وأن الصفر الذي تستعمله هنا النساء الأميات قبل أن يكون قيمة رقمية كان قيمة ثقافية ملتصقا بالنظرة الدونية والسلبية لجسد المرأة ، والمجتمع الذكوري لا يرى لها قيمة إلا وراء رجل ذكر والذي من رموزه الرقم الصحيح ودراع الشرف كما ذكر، ورقم الاكتمال في الفيلم كان دائرتا صفر انثويتان والرقم واحد ذي الشكل القضيبي، من اعطاهما قيمة، وكانتا له مكافأة قد تكون غريزية كما قد تكون بشارة خصب .
ليست وحدها الديانات كما يقال خطأ ما يكافئ الذكر دون الأنثى بالهدية أو المكافأة الغريزية مثل ملائكة الجنان، وإنما حتى المبدعين في نهاية القصص والروايات والأفلام الكلاسيكية، وكذلك البطل في حكاية الجدة التي تنتهي بمكافأة السلطان له بتزويجه بنته على عمله البطولي.
وكذلك الألعاب الأولمبية مثلا، التي تقام تحت شعار أشكال هندسية دائرية انثوية، يحصل فيها البطل، على ميدالية دائرية ترمز لزوجة من فئة الملوك، أو فضية من طبقة النبلاء، ونحاسية من طبقة الجنود، فيما تقصى سليلات العبيد التي لا تستحق أن تكون مكافأة لبطل في المجتمع العبودي، وفي جل طقوسنا الثقافية نحرص أن تكون الصدقات على شكل دائري، مثل التين الذي لا تكون له قيمة ثقافية إلا إذا كان دائريا، والنقود -التي هي مكافأة عن عمل أو فعل احساني – قبل التصدق بها في ثقافتنا، تحول من الورق إلى القطع المعدنية الدائرية وكذلك الخبز لا يمكن التصدق ب كوميرة (خبز على شكل قضيب).
واذا كان الصفرين في رقم مائة يمثلان مكافأة مضاعفة محاكية في الشكل للخبزتين المباركتين المستورتين، التي حصل عليهما الشيخ، فإن الرقم واحد الصحيح، ذو الشكل الهندسي القضيبي، الذي يتقدمهما من يمنحهما القيمة الرقمية والثقافية، حيث بدونه هما مثل البيض الذي تحمله النساء للفقيه أو الشريف ليخصبه رمزيا، فالرمز القضيبي هو من يخصب ويحسم في قيمة الأرقام والمواريث والأملاك والأشياء، وما يمنح حق الولاية والإمامة والريادة والقيادة…. ، وتمثل العلاقة بين المفتاح القضيبي المتحرك والقفل الدائري الثابت للسيارة أو المنزل أو غيرهما ، التجسيد الرمزي لهذه اللعبة الذكورية الماكرة، فما يتوفر ويتجمع للمفتاح القضيبي من حقوق ،كحق الحركة والمبادرة بالحل والقفل في الوقت الذي يشاء، هو ما تحرم منه الأنثى وبديلها الرمزي ، القفل الدائري المثبت في المكان، المتوقف والمنتظر لحضور رغبة الآخر ،و يتكرر ذلك ليؤكد أن الأمر ليس اعتباطا، وانما تراكما مدبرا، مع إعطاء عقرب الساعة او الميزان القضيبي سلطة ضبط الأوقات وتحديد قيمة واوزان الأشياء.
وحتى وانت ترفع اصبعك لتسجل الإعجاب أو تقلبه إلى أسفل، فإنك بالتعبير الجسدي تميز بين الرجل وغير الرجل، وتنعت المرأة بالدونية والسلبية، عندما ترسم الصفر باليد مثلما رأينا في حوادث الخصومات بين النساء،
ويبقى التوظيف الثقافي الإيجابي لأنثوية المرأة، هو قدرتها على منح الحياة، فالزغردة كما قلنا والجرس النحاسي بامتلاكهما فما ولسانا يتحركان، محاكاة للشكل الأنثوي تحريك اللسان للزغردة أو لسان الجرس، تعبير عن الرضى والتخصيب والإشباع والإقناع والإمتاع وتحقق الولادة، برفرفة اللسان رمزيا وطبيعيا، فرحا بكتكوت جميل بالجوار خرج إلى الحياة. كما يرمز الشكل الكروي والبيضاوي (مثل كرة الضريح والبيضة) إلى الرحم الإيجابي الحامل لإمكانيات الحياة الطبيعية والرمزية المتداولة المتوقفة على التخصيب.
من المضمون السينمائي للفيلم إلى المحتوى الثقافي للسياسة
يظهر أن المخرج عند نهاية الفيلم عندما جمع ضابط المخابرات المستقيل من عمل لم يرضاه يوما لنفسه ،وخربوش المشرد المستقيل المحروم من كل مظاهر وملذات الحياة، الذي يدور روتينه بين النوم يومين على سكة قطار لم يركبه يوما، والصحو يومان فقط لشرب الخمر حتى يكونا هو والحياة، لا يريا بعضهما بعض، قد عاد ليجمع أجزاء السؤال ويوحده ويضع حافته أمام الضابط المستقيل، الذي صار خربوش اخا له من الرضاع يتجرعا نفس مرارة الكأس و السؤال ،وكان لافتا ومثيرا، وربما بريئا، لكنه مستفز للضابط ،أمرا صادرا من الأسفل جاء على لسان خربوش، يخترق اعراف وقواعد هرمية تصريف قرارات الإدارة والسلط، وهو يدعوه لتحرير مسجونه، يقصد ظاهريا اخد دوره في نيل نصيبه من الخمر وبالتلميح الرمزي إعادة صياغة سؤال الحرية، لكن انطلاقا من وضعية انسان محبط ونادم مغسول الدماغ اي فاقد الوعي مثله، هو الذي كان يتطلع إلى مسار دراسي لتنمية العقل عبر الحوار الفلسفي، والاستمتاع بالوثبات والقفزات الرشيقة والأنيقة للسؤال والجواب، وجد نفسه عميل مخابرات يندس وسط الصفوف ليتعقب أو يختطف الرفاق والأحرار، وظيفة لا تتطلب بروفايلا مميزا غير جمجمة مسطحة جريئة، يستحسن أن تكون فارغة، لتوفر على الدولة كلفة غسلها، وانفا يحسن الشمشمة مثل حيوان قنص ،وذاك ما جاء تصريحا وتلميحا على لسان العميد وهو يتقبل أوراق تعيينه واعتماده ويستهزئ من تكوينه الفلسفي ومن عبد الوارث والعيساوي لما شبها كلاب الصيد بالكلاب الآدمية.
كما أثار الفيلم أمرا ثقافيا مهما، فهو مثلما انتقد عنف الدولة، وكرم الضحايا باستحضار أسمائهم ومواقفهم، أشار إلى كمية وكيفية الشحن الإيديولوجي والثوري، الذي كان ضحيته التلاميذ، وهذا يعني أن الضحايا لم يكونوا فقط افرادا، وإنما أيضا الدولة والمساحة المنبرية التي وفرتها للأستاذ، ليستغلها على نحو غير رشيد، وحيث أن الدولة قد اعتذرت وجبرت الخواطر والأضرار والآلام، ولو أن الأمر لم يكن محط إجماع، تحتاج السينما المغربية، في القريب إلى فيلم أخر جرئ في صيغة نقد ذاتي لثقافة جيلنا عندما كنا ضحية التوظيف المفرط للإيديولوجيا ،حد المساس بمكانة العقل وحقوق الأفراد والتضحية بحرية الإبداع وقيمه الفنية والمهنية، لدرجة ان أعمال شاعر المرأة نزار قباني، كانت تقرأ سرا وخفية وفق ما باح به احد زعماء النضال ،و قيمة الأفلام لم تكن تقاس بحجم الإبهار ولا الاستثمار الفني والتعبيري، وإنما بأصل ونوعية التربة التي صورت فوقها وخصوصا خصائصها وعناصرها ورائحتها الايديولوجية.
بين اللاعبين والراقصين والهياتين والمنجذبين والممثلين
شهد المغرب منذ فترة الاستعمار وما بعدها، مع دخول التلفزيون، وشيوع العمل المأجور، الذي وفر للشباب والنساء، فرصا و سبلا للعيش الكريم، والتخلص من سلطة المعيل أبا كان أم اخا أو زوجا، وتحقيق الاستقلال المالي والثقافي مع الخروج من هيمنة الأسرة الممتدة، وواكب ذلك، انقلابا موازيا، في وسائل ولغات التعبير، وفي أدوار اللاعبين المؤثرين، حيث حل الشاب فلان مكان الشيخ فلان في معظم مجالات الحياة، وامتلكت المرأة حق التحرك والمبادرة والمشاركة في الإنتاج، وحتى امتلاك جيب بملابسها، وحقيبة نقود وساعة وهاتف، يجسد الاعتراف لها الفعلي والرمزي، بحق الإعالة والتصرف في الوقت والمال والتواصل مع من تشاء دون أن يكون ذلك ارتجال(شغل الرجال)ورافق ذلك وعززته مظاهر تصالح كثيرة بين الجسدين الأنثوي والذكوري، وبين الروحي والجسدي، والجماعي والفردي والسماعي والإيقاعي، وفضاءات الداخل والخارج، وتحقق تمازجا وتصاهرا ثقافيا غير مسبوق، بين الأجناس التعبيرية ذات المشارب والمقاصد والرسائل واللغات والوسائل المتناقضة، وترتب على ذلك افتقاد النسخ الأصلية ،وصعوبة في فرز الأصيل عن الدخيل ،وحصول أخطاء في القراءات والاستنتاجات، من مظاهرها التباس في المفاهيم واللغات والمصطلحات، وكلنا ضحايا ذلك، من قبيل تسمية الهيت والجذبة بالرقص (وجدي كان يشارك فيه يرفض أن ينعت أنه رقاص)،أو اعتبار الفروسية والهيت طقوسا بينما هي خالية من أية مضامين روحية، حيث الهيات لا يرفع ابدأ رأسه إلى السماء أو يستعين بالأضرحة والأرواح، لتوسل العون أو الاستغاثة عكس العيساوي، أو تصنيف الهيت حسب الكلام مع أن الكلام دخيل عليه من الغناء مثل الرقص الفردي والكمنجة، وكان علينا أن نصنفه ،حسب سرعة الإيقاع أو أدوات اللعب ورسائلها ،هل هي اسلحة أم عصي ،أم مجرد اكثاف ملتحمة في حركات كر وفر، ولأهمية الفرز في تحسين القراءات، اقدم الملاحظات التالية:
من مشاهد الفيلم نستنتج أن المخرج منح قيمة كبيرة لبلاغة القول وتلميحاته وحكمه، ما أعطى العيطة والجسد مضمونا اخلاقيا وروحيا، وربما ذلك مبرر العنوان، فتوظيفات الجسد كانت متحفظة وخجولة وتستعمل من اطرافه، فقط الأدرع المتموجة مثل أجنحة كما في الطقس العيساوي، وليس مثل العيطة التي تحرض وتبرز أماكن الإثارة في الجسد التي تجد نفسها بالفيلم مقيدة. وهي رؤية تنظر بتقدير للجسد الأنثوي كما هو مطلوب اليوم.
لكن العيطة في الأصل كانت تستثمر في تثمين أماكن الإثارة في الجسد، بالمغالاة في الألوان وتوظيف المعادن (ذهب فضة نقرة..) فالمضمة المذهبة مثلا فرز وإبراز للخصر وتثمين لضمه ومعانقته وعقله، وايضا عرضه لتملكه، بدليل وجود مفتاح قضيبي مذهب، يوضع رهن إشارة حائزه، ليفتح ويقفل الجسد كأي مالك منفرد. وامتداد النقرة أو الفضة للأسنان تثمين للابتسامة والضحكة والقبلة والصيحة بأقصى الصوت (العيطة ) كما أن الآلات الوترية والكمنجة هي لتحريض الجسد ومحاكاة حركاته، ولذلك لا نجدها في الطقوس الروحية أو التصوفية، حيث تحل أدوات النفخ (غيطة ناي نفار …) والطبول، وفي الطقس العيساوي وحده الغياط من يأتي راكبا على الحصان كأول إشارة ودية نحو الروح، لأن أداة النفخ تستحضر ،النفخ في الصور يوم الحشر والبعث بعد الحساب، ويكون السقوط الموت الثقافي على ايقاع النفخ والبعث حيا مع سماع لرياح (من الروح) نفخت فيه من روحي، وكذلك البخ على وجه المريد، بعد تمديده على الأرض وقتله رمزيا، بالبخار الساخن الطازج في جوف العيساوي ،استحضارا للروح التي نفخت فيه في الطقس وينقل اليه بعضا من بركتها.
في الهيت الجسد الجماعي هو البطل الذي يدخل واقفا ويخرج واقفا، وفي الأصل أداة التعبير دونما غناء، يوظف من أعضائه الاكتاف والأرجل التي تتبثه على الأرض ويبحث بها عن رأس العدو الافتراضي، عبر صفوف متراصة منتظمة ملتصقة الأكتاف، عبر حركات كر وفر ومناورة الخصم بدفع الرجل وسحبها بسرعة وبرشاقة، تتحكم فيها تعابير الوجه الصارمة على ملامح المقدم، ويكون الجسد حاضرا متابعا وفطنا لا يتوسل إلى السماء أو الأضرحة.
بخلاف العيساوي، حيث الجسد من يمثل الشر والطرف الضعيف الذي يجر إلى جحيم العذاب منهار الأكتاف قصد الحساب والتطهير، فاقد الوعي ومعطل الحواس متوسلا المغفرة والثواب. في الهيت إذا نضج الإيقاع وبات الكل مهيئ بإشارة من عين المقدم يخبط الجميع مرة واحدة على رأس العدو ضربة قاسمة فاصلة قاتلة. حافز إقامة الهيت الدفاع عن الأرض وشرفها ودمها وكثيرا ما كان يقام تلقائيا وفوريا ووقته المثالي إشهار دم العروسة، وهو لذلك ذكوري
بينما العيساوي ممارسة عقيدة تحتاج لمناسبة دينية تختارها الروح وليس الجسد (بخلاف حتى العيطة) ومفتوحا على الموالين لطريقته، نساء ورجالا، ويستعمل العيساوي الأدرع كأجنحة متمايلة يمينا ويسارا كتعبير عن رغبة الروح في التخلص من ثقل الجسد على الأرض، لتصعد إلى السماء وتعود خيرة لتملئه بعد أن يكون قد أصلح وتطهر. وكذلك تعبيرا عن محاكاة بالدراعين، لعملية اغتسال بغيث نازل من السماء.
ويختلف الهيت عن عبيدات الرمى في كون الأول سابقا عن الثاني لأنه محاكاة لمشاركة في ملحمة معركة فيه التحامات وتشنج جسدي يغيب فيه الكلام وتحضر الإشارة الجسدية العسكرية مثل كل المعارك، بينما الثاني محاكاة للاحتفاء بانتصار الرماة أو الفرسان والقنص الذي يلحق به وهو مجرد كناية عن معركة بالبنادق ولذلك في عبيدات الرمى يكون الجسد غير منضبط، متشنج وغير مجد ومرح ظريف ولطيف ملاعب وممازح وبهلواني ومصحوب بكلام تسلية فيه فن قول ونكت، تحفزه وتحركه الضحكات والقهقهات وملامح الرضا على وجوه الرماة أو الفرسان، لا مناورات العدو كما في الهيت.
بقلم عبد الفتاح بجقار