“جمعة مباركة” فيلم روائي قصير لأسماء المدير، عندما شاهدته -قبل سنوات- أحسست بأن صاحبته تبحث عن شيء مختلف في الكتابة البصرية السينمائية، أي أنها بصدد تكريس تجربة سينمائية نوعية مختلفة سواء من حيث الأسلوب أو الرؤية، تجربة لا علاقة لها البتة بأفلامها الروائية القصيرة الأخرى، أساسا منها “ألوان الصمت” و”دوار السوليما”. وعندما كنت ألتقيها هنا وهناك وأتحدث معها عن تجربتها العامة ومسارها الصارم الباحث عن أنجع الطرق لتحقيق شيء جديد ملهم، كنت أشير إلى ذلك وأتمنى أن تبدع فيلما روائيا يستلهم الأسلوب الخاص لتلك التجربة المختلفة الغير مسبوقة في تاريخ الفن السابع بالمغرب -تجربة “جمعة مباركة”-، وهو ما تحقق فعليا مع “كذب أبيض”، الفيلم الذي خلق الحدث في الدورة 76 بمهرجان كان، وفوزه بجائزة الإخراج ضمن فقرة “نظرة ما” إضافة لحصوله على جائزة “العين الذهبية”لأحسن فيلم وثائقي مناصفة مع فيلم “بنات ألفة” للمخرجة التونسية كوثر بنهنية.
“كذب أبيض” فيلم متفرد شكلا ومضمونا، مؤسس على مقاربة فنية ملهمة أعادت بناء الماضي الخاص لعائلة مغربية – آل المدير- بكل وقائعها وعلاقات أفرادها المتباينة الملتبسة المتوتر في بعض الأحيان، والصافية كماء المطر الزلال أحيانا أخرى، وطموح الإبنة المتمردة – أسماء- في أن تبحث وتتعقب بعضا من صورها المغيبة عن دفتر ذكريات الأسرة والمدرسة، ودعوتها للصمت وضرورة الإحجام عن كل كلام غير مباح أو طرح الأسئلة “القاتلة” الغارقة في لوعة ذكريات وأشياء محرمة، الأسئلة التي تقود الفرد نحو مقصلة القمع والتغييب وراء القضبان…
واقع أسرة آل المدير لا ينأى أو يتميز في شيء عن الماضي العام لمجتمع مغربي عانى بشكل رهيب من ويلات سنوات الرصاص والتقتيل الجماعي في يوم أسود بمدينة الدارالبيضاء، أو ما يسمى في الذاكرة الجمعية المغربية وتاريخ المغرب بإنتفاضة 20 يونيو من سنة 1981، أو الذاكرة المخزنية، ووزير داخليتها الذي لم يرف له جفن، وهو يسمي بكل وقاحة ضحايا هذا اليوم المؤلم ب”شهداء الكوميرا”، ضحايا مواطنون خرجوا ذات يوم قائظ للمطالبة بالحق في العيش الكريم فكان مصيرهم القمع والتقتيل.
وجه تفرد هذا الشريط المختلف لا يكمن فقط في مقاربة مرحلة تاريخية مؤلمة ولا في تحريك نوستالجيا الماضي لأسرة، بل يتأسس أساسا على كون المخرجة لم تتوسل الطرق التقليدية في السرد، وتقديم الأحداث وتصوير الشخصيات والفضاءات، أو توظيف نفس النغمة التي وظفت سابقا في مقارعة واقع مغرب جديد، المغرب الذي أضحى اليوم بحاجة حقيقة لقراءة واقعه وتاريخه قراءة واعية، وتقديم، بوعي خلاق، فصول تاريخه العامر بالتفاصيل الغامضة الغامرة التي تقدم أدلة دالة على أنه بلد يعيش على ايقاعات الألم والكثير من الأمل واللحظات المقتطعة من دفتر التحديات الكبرى، وفي نفس الآن الصمت المخيف، صمت آلاف الناس على ما عاشوه من ظلم وسرقة لأحلامهم ورغباتهم في العيش الكريم، ومحاولة بناء غد أفضل بكثير مما عاشه أباؤهم وأجدادهم.
لنبدأ من البداية ونحاولة رصد البنية المبنية إبداعيا بشكل سليم داخل شريط يقف منتصبا على الحدود الفاصلة بين الوثائقي والروائي، أي بين الأرشيف الخاص والشهادات العامة، والمخيلة الخصبة المتكئة على تراث سينمائي عالمي. ورغم تعدد الأصوات المتباينة، وتقاطعات وجهات النظر ومنطق الحكي، فإن صوت الساردة/ المخرجة يظل طاغيا موجها للأحداث، نعيش معها مرارة البحث عن صورة لها، مجرد صورة لطفولة منسية، وجدة صارمة ترفض رفضا قاطعا دخول الصور لفضاء البيت المتواضع لأسرة تعيش على الكفاف والعفاف والغنى عن كثير من القيل والقال، اللهم صورة ملك البلاد أنذاك-الحسن الثاني-، الذي يحضر، وتحضر معه هيبته، أي هيبة ملك لم تستطيع المخرجة، ومعها أفراد عائلتها، وضعه في خانة محددة مضبوطة من خانات القول عن الظلم والعدل.
هناك في حي بيضاوي شعبي تتناسل الحكايات وتحضر المواجهات وتكثر الممنوعات، والجدة هي الجدة، رغم تقدمها في السن، سلطتها توازي سلطة صاحب الصورة الوحيدة المعلقة على الجدار، لا إختلاف بينهما، غير اختلاف الداخل والخارج، واختلاف الماضي والحاضر، وترديد لازمة “للحيطان آذان”، آذان لم تعد اليوم سائدة، كما كانت سنوات الرصاص، لكن، مع ذلك، تظل حاضرة مع الجدة “المتسلطة”، الجدة التي فقدت السمع رغم محاولة الحفيدة، في مشهد بديع، تركيب آلات سمع لإمرأة ليست بحاجة لسمع، لأن عيونها كافية للرصد وتتبع الهمسات واللمسات وقمع الرغبات، رغبات الأسرة التي أصبحت متحررة، ورغبة حفيدة في أن تكون مخرجة.
الجدة: ” أنتي صحفية…”…
أسماء: “لا، انا مخرجة”…
الجدة: “أنتي صحفية”…
أسماء: “لا، انا مخرجة”…
حوار الصم البكم بين امرأة تنتمي للماضي، سيدة عجوز تعتبر السينما إفك من عمل الشيطان. وإمرأة من حاضر تسعى إلى رفع الصوت والرأس، شابة تردد دون خوف أوأدنى وجل: “أنا مخرجة”، يعني إنسانة بكيان امرأة مستقل، فنانة تعيش حياتها وفنها بكامل إرادتها.
جدلية الداخل والخارج، وصراع الماضي والحاضر، وتقاطع الظلمة والنور، والمواجهة بين الغيلان المنقضية وقتها، والنفوس البريئة الخالدة في الزمان والمكان، تهيمن بشكل مطلق لنجد أنفسنا وكأننا متفرجين غارقين في مشاهدة فيلم تعبيري ألماني، إنتاج سنوات العشرينات من القرن الماضي، فيلم تتمحور فصول حكاياته الواقعية، عن عذابات ناس عانوا من ظلم الزمن، وعبث القدر، وتسلط الغيلان والقتل القاتل الذي لا يرحم…
فاطمة البريئة سقطت برصاص مجهول، وعائلة تحمل لوعة الفراق وعدم الخوض في فصول الجريمة. وجثث ست مائة شهيد مدفونة في مقابر جماعية مرمية عند نواصي وحواشي مدينة الدارالبيضاء. وسجناء ماتوا خنقا في زنزانة ضيقة دون أن يعرفوا سبب موتهم. وسجين يحكي بمرارة فصول حدث كأنه مقتطع من التراث الدرامي الإغريقي، أو حكاية من حكايات مصاص دماء حيث البقاء في الظلمة وغيابات الجب لسنوات طويلة، دون أن يفهم سبب السجن والقسوة وسلب كرامة الإنسان من طرف “إنسان”.
“كذب ابيض”، فيلم جد قاس حد دفع المتفرج للبكاء، وجد عذب حد العشق ومحبة السينما ووله الصورة المصنوعة بإحساس صادق مفرط في الصدق، وابتعاد حقيقي عن التحذلق الفني. في هذا العمل المصنوع بدقة عالية لانجد ضجيجا ولا شعارات ولا تضخيما للأحداث، نجد بدلا من ذلك، الحكي السليم المبتكر، وتعاقب الكيات -ج. كية-، وإطفاء أعقاب السجائر بكل سادية في الأجساد المعتقلة المرتجفة المرمية عند دائرة هامش الهامش وضفاف النسيان، وتداخل/ تناسج الوثائقية بالروائية بشكل خلاق. فيلم، كما كتب عنه الناقد المصري أمير العمري مباشرة بعد عرضه: “عمل سينمائي مبتكر يمتلئ بكثير من الخيال الساحر، ليس من الممكن أن يصنف فيلما وثائقيا أو دراميا روائيا، ولعل أفضل تصنيف له هو أنه فيلم “تشكيلي” يستخدم اللوحات والصور والنماذج الخشبية والحجرية الصغيرة والدمى والعرائس في بناء جدلي مركب بديع، ينتقل بين الخاص والعام، وبين الذاتي والموضوعي، وبين الذاكرة والتاريخ”.
نماذج خشبية وصور مبتكرة وعرائس ودمى “مشوهة”، ولوحات مبعثرة كانت كافية للتعبير بكل وضوح، وقول ما لا يمكن قوله، ومنح فرصة أخرى للأب كي يبدع ويعيد تركيب ماضيه وماضي أسرته ويطهر النفس من الأدران، ويمنح للإبنة – أسماء- مناسبة لإخراج مكنونات الذات السينمائية، والثورة بكل أناقة فنية في وجه التقاليد المرعية للحكي السينمائي التقليدي الذي تعودنا على معاينته حد الملل. وإعطاء بعد ذلك وخلال ذلك لعبد الله وسعيد – هما من أبناء الحي-، لحظات للتنفيس عن كرب النفس، واستعادة فصول موت غير معلن لعشرات الأبرياء، أبرياء لم تبقى منهم غير صورة واحدة شحيحة، ونصب تذكاري بأسماء محفورة على عجل في جدار وحيد يتيم وسط الخلاء، جدار/ نصب تذكاري لا يعلم بأمره إلا القلة من الناس، وأغان شجية لناس الغيوان الصادحة بروح الألم والغبن المستوطن في النفوس، وصور مؤطرة بعين حاذقة لكاميرا تصوير اشتغلت على الكادرات الضيقة ضيق الأمكنة والنفوس الغارقة في الأسى، ومحاولة نقل ما لايرى بالعين المجردة، وتكريس ألوان لعتمة الوقت وقبح بعض البشر، والتأكيد على أن مغرب اليوم غير مغرب الأمس، مغرب تستطيع فيه شابة وحيدة عزلاء، شابة مغربية قادمة بكل ثبات من عمق الأحياء الشعبية، أن تصعد أدراج السجادة الحمراء في أحد أهم وأرقى المهرجانات الدولية وأكثرها مصداقية، وتنتزع الجوائز عن جدارة واستحقاق….
عبد الإله الجوهري-كان