إلى زرياب
“إيو” EO (2022) هو الفيلم الأخير الذي أنجزه المخرج البولندي يرجا سكوليموفسكي Jerzy Skolimowski. إيو هو إسم بطل الفيلم، الحمار الذي شخص دوره بالتناوب ستة حمير، هي مارييتا، طاكو، هولا، روكو، ميلا، وإيطوري. هذه الأسماء هي التي وردت في كلمة شكر المخرج حين توّجه مهرجان كان الأخير بجائزة التحكيم. و لكنها من عينة الأسماء التي لا نعثر عليها، للأسف، في لائحة الكاستينغ المسجلة في قاعدة البيانات عن الفيلم IMDb، إلى جانب أسامي مثل ساندرا دجيمالسكي Sandra Drzymalsky التي لعبت دور كساندرا، أهم شخصية آدمية في الفيلم، ولورينزو زورزولو Lorenzo Zurzolo ، الممثل الإيطالي الذي ظهر في شخصية معقدة تبدو كما لو سقطت من فيلم “تيوريما” Teorema (1968) لبيير باولو بازوليني، وطبعا هناك الوجه المألوف الذي دأب على ختم أفلام عديدة بطابع الانتماء لسينما دار الفن، معلمة البيانو نفسها، إيزابيل هيبير Isabelle Huppert، في دور كونتيسة إيطالية تتحاور فيه، ولو في همس خافت، مع شخصياتها في أفلام المخرج النمساوي مكاييل هانيكي.
في الفصل الأخير من رواية “خفة الكائن التي لا تحتمل”، والذي يحمل عنوان “ابتسامة كارنين” ويمكن اعتباره بكل المقاييس البيان الأول في الرواية المعاصرة في مناصرة حقوق الحيوان، كتب ميلان كونديرا أن في تسمية الحيوان تكمن الخطوة الأولى في الاعتراف بأن له روح كذلك. في “إيو” تمنح السينما هذه الحمير في شخصية بطل الفيلم ما تمنح كل مواضيعها، هذه الصورة التي تجعلها كيانات تتمتع بروح خاصة وهذه الروح التي تكمن في كل الكائنات والكيانات، وتخطئها العين في انشغالها اليومي.
ما يقرب من ساعة ونصف في مدة هذه الدراما المختلفة جدا، هو زمنية لرصد تجليات هذه الروح في كيانها الحيواني إيو. هذا الكائن الصامت في طبيعته، والصامد لإسقاطات الانسان التعسفية عليه.
إيو: في تبادل المواقع بين الانسان والحيوان
في المشهد التأسيسي للفيلم، نتعرف على إيو وهو يشخّص إلى جانب كساندرا دورا في عرض سيركي. كان هذا الدور يتطلب منه أن يموت في النهاية. وكما في النهايات الشكسبيرية، نشاهد كساندرا وهي تنادي اسمه في تحسّر ثم بحركة منها تعلن انتهاء العرض، لينهض إيو ويدلّي رقبته مثل رفيقته الآدمية لجمهور حيّى كليهما بوابل من التصفيق والصفير. في هذه اللحظة الفيلمية التأسيسة يؤثت المخرج أرضية دراما “إيو” في حيز يتداخل فيه المسرح بالسيرك والإثنان بالسينما معا، إنه حيز العرض، أو هذا المجال المثالي لتبادل المواقع بين موضوع المشاهدة وذات المشاهد. منذ اللقطة الأولى في الفيلم يستفزّ يرجا سكوليموفسكي المشاهد في الاستعداد لتغيير موقعه المائز والمتميز كإنسان يشاهد حيوانا في العرض السينمائي، والذي يشكل العرض السيركي مجرّد أليغورية مختزلة له.
إيو ممثل في السيرك. لكن هذه الوظيفة لا تغيّر من واقعه في شيء. فهو غير لا يحمل طابع الوحشية كالنمر البنغالي، أو الغرابة كالجمل ذو السنامين المنغولي، ففي عين ووعي الإنسان حوله، يفتقد إيو ميزة التنوع التي قد تضمن له بعض الراحة بعد أوقات الاستعراض البهلواني. ومثل أي ممثل غير محترف لا يعفيه إتقان دوره كمشخص، ولا استسحان الجمهور لأداءه من المهام التي تناط له يوميا خارج عوالم التشخيص والعرض. نشاهد إيو وهو يجرّ عربة تحمل خردة معدنية، وتحت السياط، يقتادها نحو محل تصريف خاص بهذه النفايات، يبدو من منظره كغابة حديدة. في هذا المشهد المرعب الذي يستنسخ بإخلاص المناظر القيامية المألوفة في ديستوبيا الخيال العلمي، نعثر على توقيع تأليفي لا يتيه عنه من هو مستأنس بأفلام يرجا سكوليموفسكي. فهو نفسه المكان الذين كان يتجول بقربه أندريتش ليتسزيتش بطل فيلمه الاول، الرائعة السينمائية التي خلقت تناغما اسلوبيا فريدا بين الموجتين الجديدتين الفرنسية والبولندية، فيلم “علامات التعريف: لا شيء” Identification Marks: None (1965). إنّه المكان الذي يشكل نمطا لفضاءات المخرج التي تعطي الانطباع بهذا الاكتساح العنيف للفضاء الصناعي على حساب الفضاء الطبيعي. “فالخردة المعدنية هي طبيعتنا الجديدة” كما علّق المخرج في ذات حوار.
في هذا المشهد يعاين كذلك أي سينفيلي هذه الخاصية الأسلوبية التي تميّز بها يرجا سكوليموفسكي في صهر الفن التشكيلي المعاصر بمدرسة التعبيرية الألمانية في السينما، وتكمن في هذه القماشة التي يضفيها على تصميماته، والتي تعتمد التشكيل السوريالي الذي يستثمر كثيرا في فضاء الهامش والنفايات. يعاود “إيو”، كما سنرى لاحقا، الاستثمار في الكثير من التنويعات السينماتوغرافية والأسلوبية المسجّلة في سينما يارجا سكوليموفسكي. وكما هو الحال في العديد من أفلامه، تأخذ هذه التنويعات، شكل موتيفات متكررة تحمل معها في كل عمل بعدا تعبيريا متجددا، ونصيب وافر من المفاجأة.
خلّص مؤيدو حقوق الحيوان إيو من السيرك. لكن أي خلاص بالنسبة لحيوان كالحمار هو مجرّد سراح مؤقت. فإيو سيودع لاحقا في حظيرة حيث ينتظره نفس الواقع الاستغلالي الذي كان عليه في السيرك، فقط هذه المرة بدون كساندرا التي كانت زياراتها له وهو في حظيرة السيرك، ولمساتها الحنونة وهي تمسح بعنقه، تخفّف بعضا من عذابه السيزيفي. يستحضر إيو في ذاكرته صورة كساندرا مبديا مشاعر الحنين والشوق لرفيقته الآدمية. إحساس إيو الجواني يأخذ في الفيلم شكل تصميم يطغى عليه اللون الأحمر. هذا الاختيار التّلويني، مألوف هو الآخر في سينما المخرج خصوصا للتسطير على أحاسيس ومشاعر شخصيات ممزقة ومهزوزة داخليا. وأن يقترن هذا اللون بكل مشهد في الفيلم، مصدره البصري نابع عن بؤرة الحمار، أي مصدر خارج عن أفق الثقافة الإنساني كما في أفلام الخرج السابقة، يعني أن هناك تمزق جواني، ووجع تعانيه الطبيعة قد يشاهده الإنسان ولكن لا يراه. فقد نشاهد ما يحس إيو، كما في لقطة بكاءه وهو يتابع الخيول الطليقة في عدوها، لكن ما يشعره هو التحدي الأول في كل ما نشاهد.
صورة كساندرا تقبع في ذاكرة إيو. كساندرا تحضر في الفيلم كذلك كصورة ذاكرة. ولعلّ يارجا سكوليموفسكي يطرح مستوى آخرا لتحدي مشاهد الفيلم، خصوصا مشاهده المشفّر بأدوات النقد والدراسة، يكمن في تنزيل الجهاز المفاهيمي الدولوزي الخاص بالذاكرة والصورة السينمائية الذي احتكره موضوع الانسان إلى ذات الحيوان كذلك. فهذه الصورة تخلص بنا إلى ترميم فهم جديد خاص بإيو كحيوان في مقدوره هو الآخر الاحساس بمشاعر الفرحة والألم، والانفعال مع الاشياء والناس حوله، بما في ذلك هذا الدفق الانفعالي المتداخل مع الزمن والذي ظل حصرا على الانسان وهو الذاكرة. إيو، بالتالي مخلوق يتمتع بالوعي والاحساس، فهو هذا المخلوق الحساس sentient creature، هذه الصفة التي خلعها المفكّر بيتر سينغر Peter Singer في كتابه “تحرير الحيوان” Animal Liberation (1975)، على هذا الأخير ليلفت انتباهنا إلى حقيقة أن هذه الأحاسيس، كما هي قيمة متأصلة في الإنسان، هي متأصلة في الحيوان كذلك، بالتالي فهذا الأخير مؤهل لنفس الحقوق التي يتمتع بها الأول.
كساندرا هي الأخرى مخلوق حساس في منظور إيو، ومن داخل شبكة معرفته وقيمه الخاصة به كمواطن في المملكة الحيوانية. ففي واقع الاستغلال اللامشروط، فقط كساندرا كانت تعتني بإيو. وفي بعض الأحيان تمتد هذه العناية إلى شكل احتجاج على تعنيفه، لتواجه هي الأخرى نفس مصيره، ونشاهدها وهي تهان بأبشع الطرق. هذا التماهي بين كساندرا وإيو سيظل القنطرة الوحيدة التي تصل ما هو إنساني بما هو حيواني في الفيلم، والتي تمتد كحيز دلالي وترميزي يتفعل فيه الضمير الأخلاقي الذي يخول تبادل المواقع بين الأول والثاني، وعلى مستوى مشاهدة هي الأخرى يطمح منها المخرج تحولا من التفاعل المطبّع مع الشخصية الأدمية في السينما، إلى تفاعل طبيعي مع الشخصية الحيوانية فيها.
حصل بين كساندرا وإيو ما يمسى في لغة السيميائيّين بتعاقد الثقة trust agreement. رفقتهما في السيرك كانت عبارة عن ترويض مزدوج. في الوقت الذي كان هو يتقمص أدوارا بشرية في المجال التخيلي الاستعراضي، كانت هي تتلبّس بطبيعته الحيوانية في المجال الواقعي. هذا التعاقد لا يخلو من تعقيد. تماهي كساندرا بإيو يشترط نوعا من التنازل عن بعض خاصياتها الآدمية وأهمها مقاومة الوضع السلبي الذي تتواجد فيه. فهي تعرّضت لنفس التعنيف الذي تعرض له إيو ومن طرف نفس الفاعل، وابدت نوعا من الفتور في رد فعلها يمكن أن نجد فيه الشكل النموذجي للتماهي والتعاطف مع إيو، وكذلك نوعا ما من جلد الذات. فتغيير الموقف يشترط مبدئيا التنازل عن ميزة ما، خصوصا إن كان لهذه الميزة علاقة سلبية بالوضع الذي يتطلب هذا التغيير. لكن في الوقت الذي تبدو فيه كأنها اكتسبت أكثر ما يطبع إيو كحمار في شكل استسلامها اللا إرادي والفاتر لمستغليها الآدمي، بداية في شخص مستخدم السيرك ونهاية بعشيقها، يبدو أن إيو اكتسب منها ما تتركز فيه إنسانية الانسان وتأخذ أسمى تشكّلاتها، أي هذه الرغبة الملحة والملحاحة في الانعتاق والحرية. رغبة تقترن، كما في حالة الإنسان، بمقاومة وضع سلبي يتواجد فيه هو الأخر كحيوان.
هذه الرغبة في الحرية هي الفكرة الثابتة idée fixe التي تحكم مسار إيو في تجواله عبر أمكنة متعددة، تتنوع بين العمران والطبيعة، وتتجاوز في حيزها حدود الفضاء البولندي لتمتد في جغرافية أوروبية أخرى. في هذا التجوال يواجه إيو سلسلة من المصائر، تتلاحق فيها المصائب و تتصاعد كل مرة في درجة قسوتها ووحشيتها، وبقاسم مشترك بينها هو كونها ناتجة عن مصدر واحد هو الانسان. من حظيرة لأخرى، ومن سهل لآخر، وعبر كل الطرقات وأحيانا في شوارع المدن الصغيرة التي يمر بها، يواجه إيو نفس المصير الذي تتوزعه اللامبلاة والاستغلال، وأحيانا تتجاذبه وضعيات مستقطبة بين الإطراء المتزايد والسخط الشديد.
كصورة لهذا التجاذب نشاهد إيو في حفل تدشين كنيسة وهو موشّح بإكليل من الجزر حول رقبته. بعدها نشاهده متّسخا ومهانا في حظيرة قصر بالمقارنة مع خيل الاستعراض الفروسي التي تشاركه نفس الفضاء ولكن ليس نفس العناية. وحين يصادف إيو وهو يمرّ بقرية مباراة محلية في كرة القدم، وفي اللحظة التي سدد فيها لاعب ضربة جزاء وضيّعها ليخسر فريقه المباراة. عبر مؤثر كولتشوف Kuleshov effect، في هذه اللقطة التي تمنح درسا سينمائيا مثاليا لمن يجهل هذه الاستراتيجية اللغوية السينمائية، مررت لنا عناصر المشهد المكونة من الكرة وعين إيو وحارس المرمى، الجهة المناسبة لتعاطفه. لكن في الوقت الذي يرتقي الفريق المنتصر بالحمار لدرجة الشعار المشحون برموز التفاؤل وجلب الحظ السعيد ليصير حيوان الفريق mascot، ينزل في عين الفريق المنهزم لشكل قرينة النحس ونذر الشؤم.
هذا الإسقاط الترميزي السلبي يعرّض إيو لتعنيف جسدي يفضّل المخرج عدم إظهاره على مستوى الصورة، وهو ما يكثف من وقعه على مستوى الإدراك الذهني للمشاهد. يلجأ يرجا سكوليموفسكي لبلاغة الحجب في حل هذه المعادلة المستعصية في السينما بين السبب والنتيجة كلّما يتعلق الأمر في تعنيف حيوان على مستوى الشّاشة. فأي عنف من هذا القبيل ينحاز عن السّياق الدرامي والتخيلي ويستمد وقعا واقعيا من تفاعل المشاهد مع المشهد. حجب صورة تعنيف إيو جعل هذا التعنيف أكثر سادية لأنه يتحقق في ذهنية المشاهد، المسرح المثالي للتماهي معه كشخصية.
في اللقطة الموالية لمشهد تعنيف إيو، نشاهد حيوانا آليا يتحرك، يمشي، يسقط، ينهض، ثم ينظر حوله، ويكمل مشيه المبرمج حاسوبيا. مشهد قد يستشرف، من منطق النتيجة، مستقبل عالم خال من الحيوان يسدّ فيه الإنسان حاجته لهذا المخلوق الطبيعي بالكيفية التي اصبح يسدّ بها كل خصاصاته، أي عبر الآلة. من منطق السبب، يغنى المشهد بالقرائن التي تقترح قراءته كاستعراة اختزالية تعكس السند المرجعي الذي يشرعن بشكل تطبيعي هذا الاستغلال والتعنيف السادي الذي يكون الحيوان ضحيته الأولى. فالحيوان الآلي في المشهد يحيل في السياق مباشرة على فكرة الحيوان كآلة حيّة machinae animatae، والتي رسّخها رائد العقلانية البشرية، الفيلسوف ديكارت نفسه. حسب هذه القناعة تسقط عن الحيوان صفة الذكاء، ما يُلغي عنه بالتالي أي إحساس أو شعور ناتج عن التعنيف كالمعاناة والألم، ويلغي بالتالي عن الإنسان أي شعور بالذّنب.
“إيو” فيلم طريق. وعنصر الطريق يشكل موتيفا بصريا آخرا مألوفا في سينما يرجا سكوليموفسكي. هذا الفيلم يغنى هو الآخر بكل المؤشرات التي تحيل على الترحال والسفر مثل سكك الحديد والطّرق السيّارة والمحطات ووسائل النقل من سيارات وشاحنات إلخ. إيو هو النموذج الحيواني لشخصيات المخرج التي تبدوا دائما في حالة سفر وبدون هدف مقصود. لكن على عكس الشخصيات الآدمية يظهر إيو في ترحاله بدون هذه العلامات التي تعبّر عن الاستقرار المؤقت كالحقائب أو الأشياء التي تشكّل في رمزيتها وعاء للذاكرة كالصور الفوتوغرافية أو الرسائل. ليس هناك أي مؤشر يحدد إيو كعنصر ثقافي. سفر إيو، من داخل شرطه الحيواني الطبيعي، يتحقّق في مجال آخر يتجاوز الثقافة بتمثلاتها في البعد الأنثروبولوجي، إنه سفر في الطبيعة قلبا وقالبا. أي هذا السفر الذي يتحقق على خلفية ما هو سلبي في الثقافة الإنسانية.
فضاء حركة إيو، الذي يمتد في الخارطة الأوروبية بين بولندا وإيطاليا، مجال ترميزي بامتياز لجغرافية الخطر الذي يحذق ليس فقط بالحيوان بل بالانسان كذلك. هذا الخطر الذي أخذ شكله في سلوكات فردية واجتماعية كالتعصب الشوفيني واستغلال البشر ونشاط السوق السوداء والتهريب، أي كل الأعراض الوصفية لتبعات سياسات العولمة والاقتصاد النيوليبرالي الذي استبد بهذا الفضاء وشلّ كل عضو مقاومة فيه. “إيو” مرآة تعكس الأمراض الجديدة في هذا العالم الجديد الذي يحكمه منطق الجشع والاستغلال بدون قيود. ولكن في نفس الآن يقدم صورة دينامية لمقاومة هذا الوضع، والتي تكمن هي الأخرى في حلّ اجمعت عليه سينما دار الفن الأروبية بكل موجاتها الجديدة، من البريطانية إلى البولندية ونسخهما المحلية كالسينما البلجيكية في إجراء الأخوين دردين، وهو فكرة التضامن والمؤازة.
تضامن إيو مع الحيوان يتحدد على خلفية الشرط السلبي لتسلّط الإنسان. هذا التسلط الذي يأخذ في سياق الحيوان كذلك أكثر أوجهه عنفا في عملية الإقصاء الجسدي للآخر. يحضر هنا المشهد الذي يتواجد فيه إيو داخل مأوى للكلاب الضالة. في هذا المشهد تأخذ فكرة التضامن أقوى صورها تعبيرية وترميزا. نشاهد إيو مرة أخرى يجرّ عربة تحمل جثث كلاب يقتلها شخص ما الواحدة تلو الأخرى بعملية الصّعق الكهربائي. مرة أخرى ينحاز المخرج لبلاغة الحجب، في معادلة السبب والنتيجة، لكي لا نشاهد منظر الكلاب المقتولة، ونسمع فقط صوت الصعق كقرينة إيحائية لموتها. نشاهد بعد ذلك إيو وهو يتبادل النظرات مع الكلاب الأخرى المحجوزة داخل الأقفاص، والتي ينتظرها نفس المصير. عبر مؤثر كولتشيف نخلص لمغزى هذا الحوار، الخارج عن مستوى اللغوية الإنسانية، لنشاهد إيو وهو يفاجئ المستخدم بركلة في صدره تسقطه وتشلّه عن الحركة. تبقى فقط نظرة هذا الشخص الدليل الوحيد لبقاءه على الحياة، نظرة ينعدم محتواها الموضوعي. هذه الجمدة تشكّل في مستواها المجازي الحيز المثالي للتأمل والمراجعة بغرض تصحيح السلوك العدواني للإنسان ضد الآخر، خصوصا هذا الآخر المستضعف بشرطه الحيواني وعدم قدرته عن الكلام. الآخر المثالي الذي يعكس درجة إنسانيتنا كما أشار ميلان كونديرا في نفس السياق.
إيو: سينما تحمل هم البيئة
سياق الإنسانية في شرط تعاطفنا مع الحيوان هو المحرك الأول لإنجاز “أيو”. كما جاء في تصريح يرجا سكوليموفسكي، كانت الفكرة من وراء فيلم “إيو” هي خلق هذا النوع من الاحتجاج على واقع سلبي له علاقة بالحيوان والطبيعة. “.. فالسبب الوحيد الذي كان يحركنا عاطفيا هو مصير الطبيعة الحيوانات”.
تشكل الطبيعة في الفيلم هذا المجال الذي يتقاسمه إيو كحيوان مع الإنسان، أي هذا المجال الذي تتحقق فيه، بلغة البيئيين، نوع من الألفة بين الإثنين، ويتغذى فيه التأثير المتبادل بينهما ليثمر هذا التواصل المبني على التّعاطف والرّحمة والثّقة والحب. يحمل فيلم “إيو” رسالة تحسيسية تجاه هذ ا النوع من العلاقة البديلة بين الانسان والحيوان وامتدادها على المستوى البيئي الطبيعي. كاميرا يرجا سكوليموفسكي في “إيو”، خرجت أخيرا من هذا الفضاء المغلق الذي كان يسود في أفلامه السابقة كالممرات الضيقة والدهاليز والغرف الصغيرة ذات السقوف المنحدرة والمصاعد، بكل ما تحمله هذه الفضاءات من ترميزات تعكس حالات الاضطراب النفسي والجروح النرجسية التي تعيشها شخصياته. تركت هذه الكاميرا شوارع وارسو ولندن التي يسكنها الخطر المحذق بهذه الشخصيات في كل زاوية إلى الفضاء الخارجي الرحب للطبيعة بغاباتها وسهولها.
تمسح أعين المشاهد هذا الفضاء من وجهة نظر إيو الحيوانية ليفقد ميزته كحيز مقترن بمفهوم مطبّع ولا مفكر فيه مفهوم “المحيط البيئي”، أي هذا المجال المتمركز كفضاء حول الإنسان بالدرجة الأولى. ما نشاهد بمعية “إيو” هو البيئة في خاصيتها الطبيعية، أي كحيّز مناسب يسترجع فيه الانسان هويته الأصلية كمواطن حيوي biotic citizen يتواجد إلى جانب الأنواع الأخرى التي “تشعر وتحس”، عوض هويته كمواطن من الدرجة الأولى أو هذا الغازي الأبدي للطبيعة بكائناتها ومكنوناتها. “إيو” يقترح الرجوع إلى وضع المواطنة المتبادلة والذي تلح عليه مقاربات الإيكولوجيا العميقة كما في الكتابات القيّمة في هذا الجانب للباحث ج. بريد كاليكوت J. Braid Callicott (1). إنه وضع تتنازل فيه قيم التسيّد والاستئساد لقيم التجاور والمشاركة.
“إيو” فيلم يرنو للبساطة عبر أسلوب يطيّع الاختيارات التقنية لما يخدم موضوعه بالدرجة الأولى. والنتيجة كانت هذا الانسجام والتناغم الذي يسهّل تمرير رسالته الهادفة لتحسيس المشاهد بالخطر المحذق به حين يتمادى في جشعه وسلوكه الاستغلالي للكائنات والكيانات حوله. وهو ما يجعله فيلما مؤهلا لاكتساب طابع الفيلم الإيكولوجي بامتياز حسب تعريف الباحثة الأمريكية باولا ويلوكيت ماريكوندي Paula Willoquet-Maricondi التي تعد إصداراتها حجرا أساسا في هذه الدراسات التي تصهر الهم البيئي في نظرية السينما والوسائط (2).
كعينة أخرى لما يصطلح عليه بالإيكوسينما Ecocinema، يهدف فيلم “إيو” إلى الرفع من مستوى الوعي ولفت الانتباه للقضايا الراهنة المتعلقة بسلوك الانسان وممارساته التي تؤثر على الحالة الصحية للكوكب الذي نعيش فيه. وهو كذلك، وإلى حد جد بعيد، نجح يرجا سكوليموفسكي في خلق هذه الصورة السينمائية التي لم تعد فيها الطبيعة ولا الحيوانات التي تعيش فيها مجرد استعارة لعوالم جوانية خاصة بالانسان، أو مجرد خلفية مسرحية للتطور الدرامي لشخصيات فيلمية. لم تكن الطبيعة في الفيلم مجرّد مسرح لأحداث بطلها الإنسان، بل كانت الحدث نفسه.
ليس الحيوان مأنسنا في فيلم “إيو” على طريقة أفلام ديزني. فهذا الفيلم ليس نسخة سينمائية أخرى تعتمد تقنية الإنطاق المماثل Deepfake voice لنسمعه يتكلّم بصوت إيدي مورفي أو جورج كلوني، دون التنقيص من هذه التجارب، ولا مجرد صورة يعلّق عليها صوت الانسان بتشفيراته المعرفية كما في تسجيلات ناشيونال جيوغرافيك ببعدها الزوولوجي الذي يجمع بين التلقين والتّرفيه. بقي إيو محتفظا بشرطه الحيواني، وبلغته الخاصة وببلاغة هذه اللغة في مستوياتها التواصلية كذلك. نقلت السينما هذا الشرط مستخدمة طاقتها وقدرتها التعبيرية الخام والأولى، والتي هي الكلام من خلال الصمت. في شرط إيو كحيوان ما يوقظ أخيرا إنسانيتنا تجاه موضوع الطبيعة، والتي بقيت كذلك رهينة الخطاب الكلامي عن البيئة وحقوق الحيوان وحقوق بعض الإنسان كذلك، هذا الخطاب الذي عادة ما يقتل الظواهر في تصنيفها العلمي الأكاديمي ويبقيها مجرد نشاط سجالي لا يتفعّل واقعيا. فبعد جائحة كوفيد واجه الإنسان حقيقة ظلت غائبة في عقلانيته منذ القرون الوسطى، الفترة التي بدأ فيها الإنسان يكتب عن الحيوان وكأنه ينطق عنه، وهي أن وجودنا في هذا الكوكب رهين بالجوار مع كائناته، وأن الاستغلال الذي برره التعالي الإنساني وسوغه في كل الخطابات التي أنتجها هذا الإنسان، أدى إلى كوارث آخرها هذا الوباء الذي أتى على الآلاف، ولا زال يحصد المئات في هذا الكوكب.
يستدعي “إيو” بإلحاح ما يمكن أن نسميه بالمشاهدة الإيكولوجية. مشاهدة تحرّك في المشاهد شعورا وتدفعه لاتخاذ موقف. فهو متن فيلمي يقترح هذا الانحياز من القراءة التي تعتمد نظريات الشاشة في السينما screen theory إلى هته التي تعتمد نظريات الانفعال الوجداني affect theory. فيلم يتطلب حضور أندري بازان André Bazin ولكن يستدعي بإلحاح نظرية البصريات الملموسة للمنظّرة لورا ماركس Laura Marks التي تدرس وقع الصورة في المشاهد على المستوى الانفعالي الجسدي. أو لنقل إنه من هذه الأفلام التي لا نشاهدها بنية البحث عن غريتا غاربو Greta Garbo في الشاشة، ولكن نشاهد هذه الشاشة من منظار غريتا تونباريغGreta Thunberg .
ظرفية المشاهدة تملي إستراتيجية وأبعاد هذه الأخيرة، خصوصا حين نشاهد فيلم “إيو” وجائحة كوفيك لم تعلن بعد موتها. هناك من يشاهد الفيلم وهو لا يزال يضع كمامة الوقاية على وجهه. بعض مشاهد الفيلم تستحضر بقوة سياق الجائحة، مثل المشهد الذي نتابع فيه إيو من خلف وهو يركض داخل نفق، ومع كل خطوة يهب من سقف النفق سرب من الخفافيش تطير في الاتجاه المعاكس، اتجاه الكاميرا، نحو هذا المشاهد الذي أصبح هذا الطير عنده صورة اختزالية للحجر والتباعد الصحي، إن لم يكن الموت وفقدان الأحبة. يعيد المشهد تذكيرنا بأن آخر مرة اقتربت فيها الخفافيش من الإنسان تسبّبت في وباء كاسح جعله في وضع شبيه بوضع إيو حين كان يمشي هو الآخر لمدة سنتين في نفق مظلم ظن أن لا نهاية له.
حرص يرجا سكوليموفسكي على نظرتنا لإيو كحيوان، هذه النظرة هي المحدّد الأول لشرط إنسانيتنا. فأي أمل للنجاة يستدعي منا تقصي خطوات إيو. والتي تعني المشي نحو التصالح مع ما هو للطبيعة فينا وما هو “طبيعة” حولنا دون إقحام نظرتنا وطرق تمثلنا. لحظة خروج إيو من النفق، نشاهد منظرا للطبيعة يطغى عليه اللون الأحمر. بلاغة الفيلم تقترح علينا اقتحام المشهد الطبيعي عبر نظرة إيو. في هذا المشهد تصبح الطبيعة حيزا للصراع بين وجهات نظر متضاربة ومتنافرة، وجهة نظر إيو المنسجمة معها، ووجهة نظرنا المحكومة بنوايا التسخير والاستغلال. فمضمون الصورة مهما بدا مألوفا للعين البشرية، هو مضمون ينتمي لحقل مشاهدة إيو الحيوان أو إيو الكيان البيئي.
من بلتزار إلى إيو وتعالقات أخرى
ككيان بيئي يتجرد إيو إلى حد كبير من هذه القراءات ذات البعد الفلسفي الوجودي والمتعالي التي يمكن أن تنسحب عليه، وبكل تبرير منطقي يستدعيها ويشرعنها بحكم ارتباطه بسند سينمائي قوي هو فيلم “بالمصادفة يا بلتزار” Au hasard Balthazar (1966) لرائد السينما الفرنسي روبير بروسون. حضور هذه المرجعية في كل مناسبة للحديث عن الفيلم، جعل قيمة هذا الأخير مختزلة في كونه إعادة صياغة remake لكلاسيك سينمائي، دون تجاوز ذلك للنظر في أبعاد هذه الصياغة الجديدة من تحديث actualization، وبكل ما تحمله هذه العملية الابداعية من رؤية نقدية جديدة، وبما تتحمّله من تحدّيات ليس فقط على مستوى صياغة حكي جديد، بل كذلك على المستوى البناء الشكلي والأسلوبي لهذه الصياغة. ففي كل رميك فيلمي هناك رهان وراهنية يمليان على الفيلم قراءته الخاصة مقارنة مع مرجعه الأصلي.
منح روبير بروسون عبر “بالمصادفة يا بلتزار” أقوى الاستعارات المسيحية Christological metaphors التي عرفتها السينما. في هذا الفيلم، كان بلتزار نموذجا نمطيا للكيان الرمزي الذي يعكس هذه الحلقة التي تربط الألم بالخلاص، والتي طبعت كتيمة أعمال المخرج الفرنسي المعروف بحساسيته الكاثوليكية القوية، ما جعله يحمل داخل الوسط السينمائي لقب شفيع السينما The patron Saint of cinema. شكل حمار بروسون بلتزار وجها تجسيميا anthropomorphic للمسيح الذي قدّم نفسه كبش فداء لإنقاذ البشرية، الوجه الذي ينسجم في طبيعته كحيوان مع صورة الحمل التي أظفاها الحواري بولس على المسيح. داخل هامش هذه الصورة الدينية تمثل بلتزار مهمة الخطاب المباشر littera الذي ينطوي على مضمون اخلاقي moralis مصدره إلهي بالدرجة الأولى. كان بلتزار مجرد صدى أرضي ومجازي لصوت المتعالي والمقدس.
عكس نموذجه الفرنسي، لا نجد في إيو أيقونة المخلّص المسيحي وإنما صورة اختزالية ومركبة تتقاطع فيها ملامح الناشط الحقوقي الذي يعي القضايا حوله في كليّتها المركبة حيث تتقاطع مشاكل البيئة مع حقوق الحيوان ومسؤولية الإنسان تجاه الإقليات المستضعفة بغض النظر عن جنسها وجنسيتها. وكفاعل دينامي في هذا السياق، لم يكن إيو كبلتزار، مجرد صدى للمتعالي أو كيانا روحانيا، بل كان هذا الكائن الذي يملك صوته الخاص في روحه الخاصة. مقابل روحانية Spiritualism نموذجه الفرنسي، كان إيو موضوعا روحانيا أو أروحيا animistic subject، أي هذا الكائن الطبيعي الذي يعبر عن نفسه من خارج منطق الانسان المرتبط بالعقلانية وتداخلها مع القدرة على الكلام.
تستوعب شخصية إيو خاصيات الموضوع الروحاني كما تتحدّد في الاصطلاح المتداول في النقد البيئي Ecocriticism، والمرتبط بالثقافات التي تعطي للكائنات الحية والجامدة، المحيطة بالإنسان، حقها في الكلام كما الثّقافات ذات الحساسية الشامانية. في بعد هذه الأروحية Animism، لم يكن إيو كبلتزار مجرد محفز ميتافزيقي، أو واجهة روحانية شفّافة تعكس حالة وجودية للانسان، بل كان طرفا فعّالا في قضايا واقعية وآنية كقضية المحيط الاجتماعي ورعاية الحيوان ومسؤولية الانسان الأخلاقية تجاه الإثنين.
في رهانه الشّكلي، شدّ يرجا سكوليموفسكي عن بلاغة السينما المتعالية التي اقترنت بالمخرج الفرنسي، في استثماره في صيغة سينماتوغرافية ترنو للمباشرة في جل اللّحظات الفيلمية لتخدم طرح الفيلم في مناصرته لحقوق الحيوان وما ترتبط به هذه القضية في المجال الإيكولوجي. بالتالي نجده يراهن على تنويعات شكلية واسلوبية ترصو بالمشاهد نحو هدف تغيير النظرة بالدرجة الأولى تجاه هذه القضايا.
في هذا البعد الشّكلي والتّشكيلي في الفيلم، نجد الكاميرا تتبنى وجهة نظر الحمار بالدرجة الأولى كما أشرنا أعلاه، والتي تبدو من خلال قماشة الصّورة المغبّشة، وفي التّصماميم التي يطغى فيها اللون الأحمر. يشكّل هذا التّلوين إحدى المحفزات البصرية التي تحضر كثيرا في سينما يرجا سكوليموفسكي، إن لم نعتبره لمسة المخرج الخاصة في هذه الصياغة السينماتوغرافية التي تربطه إلى جانب التصاميم السوريالية كما أشرنا أعلاه، بتيار التّعبيرية الألمانية. عبر هذا العنصر التّلويني يدخل فيلم “إيو” في حوارية مع أفلام أخرى للمخرج مثل فيلم “النجاح هو أحسن طريقة للانتقام” Success Is The Best Revenge (1984)، وكذلك فيلمه ما قبل الأخير “أحد عشر دقيقة” 11 Minutes (2015). في “إيو” كما في هذه الأفلام يضفي اللون الأحمر على الصورة هذا الطابع التخديري psychedelic، ويمرّر شعور القلق والضجر، ورهاب الاحتجاز claustrophobia الذي تعيشه شخصياتها المنكسرة. لكن مع “إيو” يكسب هذا التلوين بعده الإحالي الذي يحمله في رمزيته الكونية، ليكون معبّرا عن هاجس شر قادم وخطر محدق. مع “إيو” يشكّل اللون الأحمر هذا الباب الذي تدخل منه سينما المخرج البولندي لمجال ما يصطلح عليه بالدراسات الثقافية الخضراء Green Cultural Studies، المجال المثالي الذي يمتح منه الفيلم خطابه الوصفي الأكثر انسجاما مع طرحه.
إيو: في ترويض النظرة
“إيو” هو فيلم يرجا سكوليموفسكي الذي يطمح لمشاهدة تستمر بعد العرض وتتحقق كموقف وحراك على مستوى الواقع أكثر منها تفاعلا مع معطيات الشّاشة. زوايا التقاط الصور في الفيلم هي الأخرى تخدم رؤية مخرج يريد أن يربك المشاهد ليهز قاناعاته تجاه موضوعه. تطغى في الفيلم هذه التصاميم المائلة التي تقلب وضعية موضوعات الصورة من أعلى إلى أسفل. على المستوى البصري يعاود المخرج استخدام تقنية ترجيع الصورة rewinded effect، كما في مشهد رجوع الماء إلى نبعه في حائط السد، وانفتاح وانغلاق الدوامات في مصبه في النهر، والتي تذكرنا بصورة السيل المائي الذي يتصلق الحائط إلى أعلى في فيلم “11 دقيقة”. كما في هذا الأخير حيث لجأ المخرج لهذه التقنية كتسطير مجازي للحظة اسعاف والحفاظ على الحياة، تقترح في “إيو” قراءات تنصب هي الأخرى في هذه المهمة الإسعافية في سياق جديد وجد مناسب كسياق الفيلم المرتبط بالحيوان والطبيعة والمجال البيئي الإنساني. يخدم التقطيع والتركيب في الفيلم مهمة خلق الانفعال على مستوى التلقي. وهذا الانفعال يرجو نتيجة واحدة هي تغيير وجهة نظرنا تجاه ما نشاهده من عناصر طبيعية بداية بإيو ونهاية بالمحيط الطبيعي حوله.
إلى جانب هذه التلوينات التعبيرية على مستوى الصورة يستدعي المخرج من فيلموغرافيته هذه التوليفات الشّادة المبنية على نسق فيديوهات الروك الموسيقية التي كانت رائجة في الثمانينات والتسعينات والمألوفة في أفلامه التي كان مسرح أحداثها في لندن. إحالات يرجا سكوليموفسكي للموسيقى تحضر بكثرة في أفلامه. في “إيو” لا تخفى بصمة مجموعة الروك الشهيرة بينك فلويد Pink Floyd المعروفة هي الأخرى بنشاطها الحقوقي وموضوعاتها في مناصرة قضايا البيئة والأقليات بما فيها الحيوان. في هذا السياق نستحضر ألبوم “الحيوانات” Animals الذي أنتجته المجموعة سنة 1977 والذي كان تدويرا صوتيا تركيبيا لمرجع أدبي قوي، يتقاطع هو الآخر مع فيلم “إيو”، هو رواية “مزرعة الحيوان” لجورج أورويل. لن يتيه أي مشاهد للفيلم مستأنس بموسيقى بينك فوليد في العثور على “أنيمالز” في مشهد مداخن المصانع التي مر بها إيو، أي الصورة نفسها التي حملها غلاف قرص هذا الألبوم. كما لن تغيب الإحالة القوية على التلوينات التركيبية الصوتية للمجموعة، ببعدها الديستوبي القيامي في نهاية الفيلم، حيث يحجب المخرج صورة إيو وهو في طريق حتفه وسط قطيع من البقر، ويترك للصوت مهمة خلق وتكثيف أثر هذه النهاية على المستوى الذهني للمشاهد.
في سياق نهاية “إيو” كذلك، نتسحضر ما كتبه ميلان كونديرا بشأن الإنسان كطفيلي البقر. فمشهد إيو وهو يسير نحو حتفه وسط قطيع من البقر يختزل ليس فقط مصير الكائن الطبيعي في علاقته بالكائن البشري، بل مصير إنسانية محكومة بحتمية الاستغلال من اجل البقاء. هذه النظرة من أعلى للانسان في علاقته مع الحيوان وبيئته الطبيعية، تملي نفسها مرة أخرى في ظرفية تلح على مراجعة الذات، ومعاودة النظر في سلوك الجشع اللا مشروط الذي يحكم هذه العلاقة. إنه الدرس الذي يمنحنا الفيلم ببطله إيو الحيوان الذي يعي الطبيعة في تمثل يختلف قطعا عن تمثل الإنسان، الذي لا يرى فيها إلا حيزا آخرا خاصا به وله الاحقية المطلقة في تدبيره. تأتي الطبيعة في هذه الصورة كنموذج للعالم الذي نعيش فيه، والذي قد نتقاسمه مع الآخر دون دراية منّا لكيفية تمثل هذا الآخر له. يسطّر عنصر التلوين الأحمر في الفيلم على واقع الفصام الذي يحكم رؤيتنا وإدراكنا لعالمنا الإنساني والطبيعي والبيئي حولنا. وإن كان يحمل نفس الملامح، فعالم التعساء، كما كتب الفيلسوف الألماني فيتغنشتيان، ليس بالضرورة هو نفسه العالم الذي يعيش فيه السعداء.
وجهة نظر إيو لا تمنحنا مشاهدة عالم جديد بقدر ما تسمح لنا برؤية جانب محجوب من عالمنا نفسه. هذا الجانب المفتوح على احتمالات لانهائية من الخطر. الخطر الذي أعطتنا جائحة كوفيد مجرد فكرة عنه.
عبد اللطيف عدنان-هيوستن
- Braid Callicott, Animal Liberation and Environmental Ethics: Back Together Again. 1992 .
- Paula Willoquet-Maricondi, Fraimng the World: Explorations in Ecocriticism and Film. 2010.