الرئيسيةالسينما العالمية“تينيت” .. تشكيلات نولان الفنيَّة

“تينيت” .. تشكيلات نولان الفنيَّة

فيلم Tenet

“كريستوفر نولان” صانع أفلام متميز جدًّا، اعتاد الناس منه على ثوابت تمركَّز عليها في صناعته الفيلميَّة. لعلَّ أهم هذه الثوابت هي الاعتماد على أفكار علميَّة في صياغة دراما فيلميَّة قويَّة. هذه الصفة يحاول الكثير من المخرجين وصانعِيْ الأفلام الاعتماد عليها لكنَّها ليست سهلة أبدًا، بل كثيرًا ما تؤدي إلى بناء بالغ الضعف مُغرق في التناقض، وأحيانًا تصنع فيلمًا يصلح لتفريغ طاقة السخرية عند المشاهدين.

في تجربته الجديدة ” Tenet ” يعود “نولان” إلى نوع أفلامه الذي اعتاده جمهوره، بعد تجربة الفيلم التاريخي الحربي في “دونكيرك”. وقدَّم عودة قويَّة تحمل كلّ بصماته من خلال تجربة فنيَّة ثريَّة ومُتقنة على مختلف النواحي. ويمكن إبراز أسس الصناعة الفيلميَّة لنولان في مركزيَّات هي: الاعتماد على ظهير العِلم لصُنع دراما خيال علميّ، ومركزيَّة الفكرة في الفيلم على الظهيرَيْنِ الدراميّ والتمثيليّ، والإتقان التامّ في دمج المُؤثرات البصريَّة الحاسوبيَّة مع عناصر الواقع حتى يظنَّ المُشاهد أنَّه بناء واحد، وجعل الموسيقى الفيلميَّة جُزءًا لا يتجزَّأ من العمل فكرةً وبناءً. وفي النهاية إنتاج فيلم يتأرجح بين التعقيد والتعقيد البالغ.

فيلم “تينيت” من الممكن أنْ يشاهده المُشاهد ويخرج منه ولمْ يفهم الفكرة -كما بقية أفلام نولان-، لكنَّ الجديد أنَّ المُشاهد قد يخرج منه ولمْ يفهم الأحداث حتى، ولمْ يربطها بعضها بعضًا. لأنَّ المخرج قد بنى دراما الفيلم كلَّه في تشابك عميق مع الفكرة التي يقدِّمها، فلا يصير الفيلم أحداثًا ذات فكرة، بل فكرة تظهر لنا في شكل أحداث متعاقبة. ولكلِّ كميَّة التعقيد التي نواجهها لا بُدّ أنْ نقف على سياق القصَّة لنتحصَّل على بناء يمكن فهمه. دون التعرُّض للأفكار العلميَّة التي بُنيت عليها الأحداث، ودون إفساد الأحداث لمَنْ لمْ يشاهده.

تينيت
تينيت

عميل سرِّيّ -لا يكشف الفيلم عن اسمه- (جون ديفيد واشنطن) ينغمر منذ مشاهد البداية في عمليَّة لا نعرف هدفها، موقعها دار الأوبرا في “أوكرانيا”. ومع سريان أحداث الاشتباك يُطلَق على هذا العميل رصاصات، لكنَّ شخصًا غامضًا مُلثَّمًا، ذا حقيبة يتدلَّى منها خيط أحمر ينقذه في آخر لحظة. يهرب هذا البطل قبل انفجار المكان كلّه، لكنْ في أثناء هروبه يتمّ اختطافه من قبل أشخاص يحاولون استنطاقه عن شيء يريدونه، ويستطيع إنهاء الموقف بطريقة معينة. لنعرّف أنَّه مُكلَّف من قبل جهة -في الغالب الاستخبارات الأمريكيَّة- لإيقاف حرب عالميَّة كبرى ستقضي على البشريَّة.

يبحث هذا العميل عن مصدر الرصاصات التي أطلقت عليه في دار الأوبرا ليكتشف أنَّها من الهند. وبمحاولة استجواب أكبر تاجر سلاح هنديّ وامرأته عن هذه الرصاصات، يدلُّنا مجرى الأحداث إلى تاجر السلاح والغاز الملياردير الروسيّ “أندريه سايتور” (كينيث براناه). هذا الرجل وراءه الكثير من الأسرار التي ستُكشف طوال أحداث الفيلم، يحاول العميل السرِّيّ الوصول إليه من خلال امرأته الخبيرة في اللوحات الفنيَّة “كاثرين” (إليزابيث ديبيكي).

وفي الوقت الذي يظنَّ فيه البطل وصديقه “نيل” (روبرت باتينسون) أنَّه قد توصَّل إلى شيء وبدأ يجمع خيوط اللعبة في يده يكتشف أنَّ الأمر أكبر ممَّا توقَّع، وكُلَّما تمضي الأحداث يظنُّ البطل أنَّه قد وصل إلى حقيقة كلّ ما يحدث حوله ثمَّ يكتشف أنَّه كان غافلاً عن أشياء أخرى تغيِّر مجرى اللعبة كلَّها، حتى لحظة النهاية.

ولنركِّز الآن على الجزء الفنيّ من الفيلم أو الفيلم فنيًّا لا فكريًّا. لقد اعتمد “نولان” في بناء فيلمه على لعبة التعقيدات المتتالية، وطبقات الخديعة المتوالية. والأعقد أنَّها تتركَّب على بعضها البعض؛ أيْ أنَّها ذات بناء تراكميّ. وبالتعبير الأدقّ بناء فيلم “تينيت” ليس بناء أُفقيًّا كما البناء الدراميّ الاعتياديّ، بل هو بناء رأسيّ هَرَميّ بعضه يحمل بعضًا حتى إذا اختزلت جزءًا أو حذفته انهار كلّ البناء.

البطل في الفيلم له وجهان بنائيًّا؛ الوجه الأول هو كونه شخصيَّةً مركزيَّةً في الأحداث -أيْ بطل الفيلم- الذي يلعب دورًا محوريًّا في تغيُّر الأحداث وتوجيهها. أمَّا الوجه الآخر فهو دور المُكتشِف أو الكاشف، الذي يخدمنا نحن المشاهدين، ويقوم فيه البطل باكتشاف الفكرة وتحليل ما يحدث، وتسريب ما يحتاجه المُشاهد لفهم الأحداث ومتابعة الفيلم. وبعملية اكتشافه هذه يقوم بجزء من دور المُشاهد، أو فلنقُلْ إنَّه المشاهد الفاعل.

ولأنَّ الفكرة عند “نولان” أصل البناء الفيلميّ لذلك نجد أنَّ الفيلم مُقسَّم إلى كُتل من الأحداث، يحدُّ هذه الكتل -أيْ يضع لها حدودًا- ما وصلنا إلى معرفته من الفكرة. لذا نستطيع أنْ نقسم بناء الأحداث إلى طبقات معرفيَّة. وتمتد هذه الطبقات المعرفيَّة إلى آخر لحظات الفيلم فالبناء الفيلميّ مستمرّ في فيلم نولان لا ينقطع نمُوُّه في مرحلة بعينها -ككثير من الأفلام المُعتادة-.

ولأنَّ الفيلم يعتمد -فيما يعتمد- على فكرة انعدام التراتبيَّة بين الماضي والحاضر -يقصد به عدم وجود توالٍ حتميٌّ بين الماضي، الذي يؤدي إلى الحاضر، الذي بدوره يؤدي إلى المستقبل- فقرَّر “نولان” أنْ يبدأ بفصل دار الأوبرا الذي سنعلم فيما بعد أنَّه لمْ يكن بداية الأحداث -فالأحداث حسب الوجهة الفكريَّة والعلميَّة التي تبنَّاها الفيلم ليس لها بداية محددة ونهاية محددة كما نعتاد-. ومن خلال هذا الفصل من الأحداث قد حدَّد لحظة حكي ورواية؛ وكأنَّها لحظة انبثاق فيلميّ يستند عليها صانع الفيلم لاكتشاف ما سيحدث فيما بعدها، واستحضار ما حدث قبلها.

لكنَّ منطق العمل به عوار ونقص كبيران في ارتكازه؛ ففي الحين الذي وضَّح على لسان شخصياته فكرة “مُغالطة الجدّ” -أيْ أنَّنا لا يمكننا العودة زمنًا لتغيير الماضي لإحداث تغيير في الحاضر أو المستقبل؛ لأنَّ ذلك سيجعل الماضي غير موجود أصلاً، وبالتالي الحاضر الذي عُدنا لنغيَّره غير موجود بدوره- في هذا الحين نجد أنَّ بناء الفيلم يعتمد على العودة نفسها إلى لحظة معينة لإنقاذ شخص من شخصيَّات الفيلم وتغيير الأحداث.

وقد حاول المخرج التحايُل على هذا التناقض في البناء بتبرير أنَّه سيعود لعالَم موازٍ لعالمه ليُغيِّر الأمر وينقذ الشخصيَّة. وهذا تبرير سخيف؛ فالعوالم المتعددة (الافتراض العلميّ الذي استحضره الفيلم) تقوم أصلاً على عدم الترابط السببيّ بينها، لذا لا يؤثِّر ما يحدث في نموذج إحدى العوالم في عالَم آخر. كما لا تختلف “مغالطة الجدّ” عن “مغالطة الحدث” التي وقع فيها الفيلم. لكنْ بالعموم هو فيلم خياليّ أولاً وأخيرًا وكذلك “العوالم المُتعددة” افتراض علميّ وليستْ علمًا حقيقيًّا، فلنترك بعض الحريَّة في الفنّ وللفنّ.

وإذا استغرب المُشاهد الكثير من الأحداث أو الأفكار التي استندتْ إليها فقد ردّ عليه الفيلم منذ المشاهد الأولى بترسيخ مبدأ مُخيف في حقيقة الأمر بقوله “نحن نعيش في عالَم غامض”. أيْ ليس له قوانين معروفة ومُحكَمَة كما نظنّ، بل إنَّ الأساس الذي استهدفه الفيلم هو ضرب معرفتنا المُحكَمَة لما يبدو لنا أنَّنا نعرفه. والترسيخ لمستقبل غامض حقًّا؛ عقيدته لمْ تتكوَّنْ بعد، فالعقيدة ستتكون في المستقبل -كما جاء على لسان “بريا” نصًّا في الفيلم-. قد يشعرك هذا الفيلم بالخطورة لما يدور في الخفاء من حولك.

لكنَّ الفيلم -وبغضّ النظر عن أصوله العلميَّة والفكريَّة، وبغضّ النظر عن الرغبة الابتكاريَّة عند “نولان”- قد حافَظَ على كثير من الركائز والتقليديات التي لا تخرج عن خطّ السياسة الأمريكيَّة في أفلامها من التكريس لفكرة الحرب الباردة، ومن محورة العداء والشرّ في “العدو الروسيّ” الذي يحاول بكلّ جهوده تدمير العالَم، وفي الجانب الآخر نجد الجنديّ الأمريكيّ المُخلص الذي يدافع عن العالم مهما كلَّف الأمر ليُزيل هذا الخطر عن العالم، ويوفَّر له الاستقرار. كما أنَّه لمْ يخرج أصلاً من الرؤية الديستوبيَّة والاستشراف لخراب العالَم القادم واستحضار حالة الخطر المُحدِق مجهول المصدر، وفكرة العالَم ذي المصير المجهول.

لا بُدَّ هنا أنْ نلحظ أنَّ اسم الفيلم ” Tenet ” له معنى ودلالة. المعنى هو العكس الزمنيّ والحدثيّ الذي يدور في ظلّه أحداث الفيلم. فحرف ” n ” وسط تمركُز بين حرفَيْن مُتكرَّرين قبله وبعده بالعكس؛ وهذه بدقة فكرة الفيلم أصلاً عن العكس الزمنيّ والكمَّاشة الزمنيَّة. ولذلك الأسلم أنْ نذكره “تينيت” لنُكرِّرَ المُفارقة نفسها بالحروف العربيَّة باتكاز حرف ” ن ” في الوسط بين حرفَيْن مكترِّرَيْنِ أيضًا. والدلالة هي أنَّ معنى الكلمة “عقيدة” له ترميز كبير فيما يحمله الفيلم من فكرة، وما يقدِّمه من تغيير لعقيدة العالَم التي ستتشكَّل فيما بعد.

أمَّا على صعيد الإخراج فقد تفوَّق “نولان” كعادته. ومن الممكن القول إنَّه اعتمد على “تشكيلات فنيَّة” في صناعة الفيلم. أيْ أنَّه لمْ يَرضَ بالأداء المُوحَّد والمُنفرد بل حاكى فكرة الحرب العالميَّة -التي يُقدِّمها الفيلم- ليقدم بدوره تشكيلات فنيَّة كالتشكيلات العسكريَّة في الحروب. ولعلَّ فصل البداية مثال على ذلك؛ فقد اعتمد على تشكيلات ضخمة من استخدامات الكاميرا الثابتة والمتحرَّكة، وعلى تشكيلات من حركيَّة الكاميرا المتنوعة. وعلى تشكيلات عديدة من حركات المُمثلين، والجموع -مجاميع التمثيل-. ولعلَّنا نلاحظ أنَّه قد اعتمد على أبطال كلّهم صغار السنّ وشباب تحت الأربعين من العُمر -باستثناء كينيث براناه بالقطع-.

ويبرز تشكيله الأهمّ في المزج البارع -بل شديد البراعة في حقيقة الأمر- بين الشقّ الحقيقيّ من الصورة السينمائيَّة والشقّ المصنوع حاسوبيًّا. ولعلَّ هذا التشكيل الفنيّ كان ذا التدخُّل الأبرز في التميُّز الشديد للصورة السينمائيَّة في الفيلم.

غير اعتماده على نماذج من الإخراج الرمزيّ في مشهد ما بعد فصل دار الأوبرا؛ حيث نجد البطل مُقيَّدًا على كرسيّ في منطقة خطوط قطارات مُتجاورة. ونلحظ في جانبَيْ المشهد قطارَيْن كلّ واحد منهما يسير في اتجاه مغاير للآخر مع تمازج لونيّ بينهما؛ ممَّا يُعدُّ استهلالةً وإشارةً لموضوع عكس الزمن الذي سيدور حوله الفيلم، والاختلاط بين الماضي والحاضر.

واعتمد على ترسانة صوتيَّة متنوعة للغاية؛ ليقدم ثراء صوتيًّا مُفعمًا بالحركة. كما اعتمد في الموسيقى على حُزَم مُتجاورة من الآلات الطبيعيَّة وإدخال التأثيرات الحاسوبيَّة عليها؛ ليخرج بمزاج مُتفرِّد ومُمتدّ طوال الفيلم. كما أنَّه صنع أنماطًا موسيقيَّة مُواكبة لطبيعة المشهد؛ فمثلاً نجد موسيقى ثابتة تبدأ كلَّما بدأ مشهد قتاليّ، وموسيقى للمشهد الفكريّ أو مشاهد كشف الفكرة، وهكذا. ثمَّ دَمَجَ تلك الأنماط الموسيقيَّة مع طبقات توزيعيَّة أخرى كثيفة ومُتعددة؛ لتُحاكي البناء الفيلميّ نفسه، وطبقاته المعرفيَّة.

في النهاية نجد أمامنا تجربة سينمائيَّة جديدة في عالم “كورونا”، ولعلَّها تلائمه بما تحمله من روح عموميَّة تشيع فيها، وبما تنذر به لقادم الأيام. تجربة سينمائيَّة مغايرة لمُعتاد ما نشاهد، وخطيرة الدلالات في الوقت نفسه. بل إنَّ ما أثير بين جنبات الحوار وما أشارتْ له الأحداث يحتاج إلى تفصيل وتحليل وحده. ولا يصلح لنا -نحن المشاهدين- أنْ نعتقد أنَّ ما نشاهده كُتب عبثًا، أو أنَّها مجرد أفلام لتسليتنا؛ فكمْ من نبوءة فيلميَّة وجدناها في واقعنا المَعيش.

عبد المنعم أديب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *