في قاع ازدحمت فيه الخطايا والجرائم، تجتمع شخصيات مسلسل “أولاد آدم” لتطرح قضايا، منها الأخلاقي ومنها الاجتماعي، في مجتمع تختلف ردات فعله تجاه ما يصدر عن النخب الاجتماعية الفوقية، وعن ما يصدر عن صنف آخر من الناس يُعدّون من الرعاع الذين يعيشون في قاع الهرم الاجتماعي.
تسفّل في الخُلق، وانهيار قيمي، ومنظومة تمييزية غير منصفة،تخلق أنماطاً شخصية مرضية أو ذات تصرفات انتقامية لا يمكن السيطرة على نتائجها لاحقاً، بل إن بعضها لا يمكن علاجه خصوصاً حين تكون العدالة القانونية ظاهرية وشكلية تطبق علىبعض الناس وتخف على آخرين لاعتبارات المعرفة والقرابة أو القوة وحجم التأثير،فتبدو العدالةكأنها مجرد شكليات وصور تمارس تحت ضغط النفاق الاجتماعي والتصنع الذي يأخذ المجتمع، كل المجتمع، نحو الهاوية.
يتصل المسلسل بعالم السياسة، فيقدم لمحة موجزة عن حال النخبة السياسية التي يمثلها مجرمون سابقون في حرب أهلية أهلكت وأنهكت المجتمع،فكان من نتاجها ظهورهذه النخبة الفاسدة التي أصبحت مسؤولة عن كل ما يخص المجتمع الأهلي المهلهل، الذي يهدده الانحدار من كل الزوايا ومن كل الاتجاهات.
الفضيحة بهذا العالم المتخم بالفساد الأخلاقي أهم بكثير من العدل والعدالة ورفع راية الصواب وتمثيل قيم الدولة التي تنظم العلاقة بين أفرادها على نحو متساو، فيضطر القضاء للانحياز باتجاه الحاجة الملحة للسلم الأهلي، لأن الحيتان قادرة على ابتلاع كل شيء، وعلى خلخلة استقرار مأزوم، ينتظر فتيلاً لإشعاله.
قهر ووحدة وعزلة وخوف من الاختلاط، في محيط لا يقبل إلا بالأقران والمتساوين مقاماً ومكانة، هذا العزل والتصنيف سيخلق مجتمعاً متآكلاً، يخاف بعضه من بعض، ولا يلتقي مع غيره إلا ضمن حدود ضيقة عبر مشاعر ذاتية مكللة بالشعور بالذنب الذي لا يستطيع تحمل تبعاته، إلا أنه يمارس عبره فوقيته الملائكية، ويتصرف بنفاق مكشوف، فهو لا يريد أن يدفع ثمن ما ارتكبتههو ومن يلوذ به خشية على صورته وبرستيجه.
من ضمن الشخصيات التي لمع بريقها هذا العام، مكسيم خليل الذي تربَّع على عرش التميز بأداء باهرلشخصية فريدة واستثنائية هي المعتل النفسي،وأداها ببراعة ملفتة للانتباه وجديرة بالثناء. “غسان” رجل مطعون من زوجة سابقة، حرمته مشاعر الأبوة كما يدعي ويمارس مزاجية انتقائية بالانتقام من كل النساء اللواتي في محيطه، سواء من ينتمينلعالم الشهرة والأضواء، أو الضعيفات المغلوبات على أمرهن، إنه لا يوفر أي امرأة من انتقامه، براغماتي مريض، سادي أناني، يتلذذ بتدمير كل من لا يدور في محيط منفعته.
هو رجل قادر على التمثيل، والإبهار وإقناع الآخرين، يبدو ممثلاً لرأي الشارع حيناً، ويدعي محاولة إصلاحه وإبراز عيوبه ونقائصه حيناً آخر، لكنه بالوقت ذاته يمارس التقية الاجتماعية ناهشاً أوصال الفضيلة بذريعة التراضي، يتذرع بالكيدية التي يمتلكها الآخرون تجاهه أو تجاه غيره، لكنه يستمتع بالسيطرة على من يقعون تحت براثنه، يبتزهم، يتملكهم، يجعلهم أتباعه بعد إخضاعهم.
قام كاتب القصة والسيناريو رامي كوسا، بكشف ما يدور بخلد شخصيته، عبر قيامها بتسجيل مقاطع مناجاة ذاتية تمثل اعترافات داخلية لماهيتها الحقيقية المركبّة، وباستخدام هذا الأسلوب الكلاسيكي، أضفى على الشخصية هالة من الوضوح والمصالحة مع الذات، على خلاف شخصيات أخرى تتدثر بثياب الوجاهة الاجتماعية والمناصب الكبيرة وهي تمارس الكذب والنفاق، حين لا تتحمل تبعات أفعالها.
في المسلسل نجد أيضاً شخصية “سعد” الشاب الأزعر،وقام بدوره قيس شيخ نجيب. “سعد” لقيط محروم من عطايا المجتمع، ناقم عليه، يسمح لنفسه بفعل أي شيء كي ينجو بنفسه فيعالم الغاب، فيجد مكاناً في محيط لا يعترف إلا بالقوي، هذا النمط من الشخصيات هو نتاج مباشرلمجتمع متآكل لا يؤدي وظيفته تجاه من يحتاجها، يظهره الكاتب كريماً شهماً أكثر من كونه مجرماً محتالاً، لأنه لم يحصل على فرصة تجعل منه شخصاً محترماً، الشخصية تعي تماماً وضعها الحرج ولذلك لا تريد أن تكرر نفسها مرة أخرى.
دائرة محكمة الإغلاق أبدعها كاتب النص، جعل فيها شخصياته الثنائية تبدو متناغمة مع بعضها، فتتم دائرة الانهيار، وفي أحيان بسيطة أخرى تمنع الانهيار الكامل.
تواجدت شخصيات حية وملفتة للانتباه، في مسلسل كل ما فيه ينبئ بانهيار مريع لمجتمع تخلت فيه مؤسسات الدولة عن تأدية دورهابشكل سليم وفاعل، فتظهر شخصية “هالة”التي جسدتها سوسن أبو عفار،وقد رعت أطفالاًنبذهم المجتمع، غير مألوفة في عالم من الوحل الطبقي، ترسم لحظات قصيرة من الفرح والسعادة لكن لا يمكن لها أن تنمو في تربة مالحة، لذلك كان مكتوباً لها الاجهاض مهما شع لمعانها وبريقها لأنه لا يوجد أساس سليم لبقائها، فترحل بطريقة دراماتيكية.
شخصية سركيس سائق التكسي وصاحب عربة القهوة الإنسان الراضي والبسيط، كلتا الشخصيتين تبدوان ترقيعاً لظرف بالغ التعقيد، ومتناقض الصفات، فهناك الراضي والمعين، وهناك الساخط والمفتت والمهدد.
بخصوص نجمات الدراما التلفزيونية اللبنانية ماغي بوغصن، دانييلا رحمة، ندى أبو فرحات، ورغم امتلاكهن أناقة ملفتة، ومهارات لغوية، إلا أنهن لازلن يفتقدن الحيوية بأداء الأدوار، وهي سمة تكاد تكون عامة عند الممثلات اللبنانيات، لكن تكسرها أحياناً بعض النجماتالمتألقات منهن.
اعتمد مخرج العمل، المتميز الليث حجو، على منحى ايقاع متوسط، رغم أن الأحداث الدرامية كانت متوالية أشبه بموجات بحر متلاطمة، ولعلّ ذلك يعود لطبيعة الدراما الرمضانية التي تعتمد أسلوب التراخي بطيء الايقاع بشكل عام، بهدف إتمام الحلقات الثلاثين كاملة لاعتبارات إنتاجية.
ومع أنالمشهد الذي ختم به مكسيم خليل دوره ضمن المسلسل كان قوياً درامياً، لكنه دلّ على خلل بصناعة الشخصية، ويبدو أن خاتمة المسلسل قد تم تعديلها لسبب تجاري لصالح جهة الإنتاج، مع الإشارة إلى أن منتج المسلسل هو زوج الممثلة الرئيسية ماغي بوغصن، وإلا فكيف لشخصية سايكوباتية أن تنهي نفسها بهذه الطريقة، بالرغم من أنها تعتقد أن الكون كله يدور حول ذاتها، وهي لا تهتم كثيراً أو قليلاً بآراء الآخرين عنها أو عن أفعالها!
وكذلك كانت الحلقة الأخيرة عموماً مراعية للتحصيل التجاري لجمهور المسلسل، وهذا من وجهة نظري لا يتناسب مع الجهد المبذول في صناعة جميلة لعقدة مركبّةوشخصيات متعبة شبّكت علاقاتها وجعلت من أحداث حياتها نسيجاً واحداً يعبر عن عنوان المسلسل، في حين أن النهاية كانت انتصاراً احتفالياً مبالغ في حصوله.
ختاماً لابد من الإشادة بالموسيقى التصويرية الجميلة والمعبرة التي قام بتأليفها إياد الريماوي، فقد كانت متشابكة مع الأحداث متصلة بها، تعبر عنها وعن منحنياتها ومنعطفاتها.
عبد الكريم أنيس