فنتازيا المسيح
بعد عشر ساعات من المتابعة الشيقة والمثيرة لمسلسل Missiah التي تتكون من عشر حلقات خرجتُ بخلاصة مهمة مؤداها؛ أن هذه القصة الغرائبية التي يمتزج فيها الواقع بالخيال، الحقيقة بالوهم والدين بالميتافيزيقا جاءت لتفككالعقيدة التقليدية المتعلقة بعودة أو ظهور المسيح، التي تعتبر عنصرا ثابتا في الأديان السماوية التوحيدية الثلاثة (اليهودية، النصرانية، الإسلام)، لتعوضها بتأويل مغاير لشخصية المسيحيتجاوز الإحداثيات الدينية “الخاصة والضيقة” إلى ما هو إنساني وكوني.
لا مشاحة فيما يتعلق بالجانب الفني والجمالي في هذه السلسلة التي يمكن أن نعتبرها من أرقى الأعمال الفيلمية المعاصرة، من حيث السرد والسنوغرافيا والحركة والأداء، وهذا في الحقيقة مجال له ذووه من النقاد والمتخصصين. ما يهمنا أكثر في هذه القراءة هو البعد الديني الذي يشكل مفصل هذا العمل بكونه يتناول مسألة إيمانية جوهرية. ترى كيف قرأ وأول مؤلف وكاتب السيناريو (مايكل بتروني) عقيدة الإيمان بعودة المسيح التي تحتل مكانة مرموقة في اللاهوت الإبراهيمي التوحيدي (اليهودي، النصراني، الإسلامي)؟ إلى أي حد تمكن المخرج من تقديم شخصية أنموذجيةتطابق ولو نسبيا المسيح المنتظر؛ هيئة وسلوكا وتفكيرا، علما بأن ذلك يقع في دائرة الغيب المستقبلي الذي يتجاوز واقع الناس وخيالهم؟ هل أفلح المخرج في تحقيق تساوق بين التصور اللاهوتي من جهة والتصور الشعبي من جهة أخرى أم أنه فشل في ذلك؟ إلى أي مدى تمكن صناع هذه السلسلة من تقديم أنموذج كوني للتسامح والحب ينطلق من عناصر دينية معينة نحو مختلف العقائد والفلسفات والثقافات والجغرافيات؟
القصة كاملة
يحكي مسلسل Missiah، الذي أطلقته الشركة الأمريكية Netflix المتخصصة في الإنتاج والبث الفيلمي الحي العام الجاري 2020، قصة شاب غريب (يمثله مهدي ذهبي) ذي شعر أسود مسدل على ظهره ولحية متوسطة، يطلق عليه اسم “المسيح”،وهو يسعى حثيثا إلى نشر رسالته التي تدعو إلى المحبة والسلام عبر مختلف أرجاء العالم. تبدأ خيوط القصة في سوريا حيث استطاع أن يؤثر في الناس ببلاغة خطابه الوعظي وجاذبية شخصيته الجذابة، وهو يعدهم بأن الخطر سوف يزول. قاد أتباعه في البداية إلى العاصمة السورية دمشق، حيث استدعى عاصفة رملية هائلةهبت طوال شهر كامل، لتحول دون قذائف مدافع داعش التي كانت مصوبة لتدمير المدينة. ما جعل أنصاره يتكاثرون في زمن قياسي، لاسيما أمام تحقق النبوءة التي وعدهم بها. ومن هناك سوف يواصل رحلته صحبة ألفي شخص إلى الحدود الإسرائيلية، حيث تم اعتقاله واستنطاقه من طرف مفتش تابع للجيش الإسرائيلي يدعى أفيرام داهان. ويظهر أنه “المسيح” يعرف كل شيء عن الحياة الشخصية لهذا المفتش، وهذا ما سوف يتكرر لاحقا مع أشخاص آخرين. قام المفتش أفيرام بسجنه في زنزانة سوف يفر منها في الليلة نفسها دون كشف المخرجطريقة الفرار، ما يجعل باب التأويل مفتوحا لدى المتلقي.
سوف تتسارع الأحداث ليظهر “المسيح” في الولايات المتحدة الأمريكية بشكل غير متوقع يكسر تسلسل الحكي، ويتجاوز حدود المكان والزمان. هنالك سوف ينقذ بشكل مثير كنيسة في قرية صغيرة بولاية تكساس من إعصار أتى على القرية كلها، ومن ثم سوف يقنع القس المحلي من أنه يحمل رسالة. وقد تلقفت وسائل التواصل الاجتماعي هذه النازلة، وراحت تنتشر صور “المسيح” ومشهد صموده في قلب العاصفة، كما أن قناة CNN سوف تدخل على الخط. ما أدى إلى انتشار قصته بشكل خاطف في كل مكان، وأصبح أتباعه يتزايدون يوما بعد يوم، بل ويتبعونه أينما حل وارتحل.
لم تكن عين المخابرات المركزية الأمريكية CIA غافلة عما يجري، بقدرما كانت تلاحق حركة “المسيح” خطوة بخطوة، عساها تكشف عما إذا كان هذا الشخص الكاريزمي حقا المسيح أو أنه مجرد مخادع يحمل مخططات جد مختلفة. منذ البداية شككت عميلة المخابرات إيفا جيلر في نوايا هذا الشخص، ولم تقتنع بأنه منقذ الإنسانية. ثم إن المحير أن كالة المخابرات لم تتمكن من العثور على أثر له في قواعد البيانات، ما كان يطرح دوما علامة استفهام حول ما إذا كان هذا الشخص محتالا أو إرهابيا ابتكر منهجية مغايرة لشن الحرب.
ثم إنشخصية “المسيح”ظلت تتلقى قبولا منقطع النظير مع مرور الأيام من مختلف الفئات الاجتماعية (رجال، نساء، أطفال، شيوخ، مرضى…)، بل وحتى الرئيس نفسه عقد معه لقاءين سريين لمعرفة حقيقته. في مقابل ذلك، كان هناك تيار معارض يسعى إلى القضاء على دعوة “المسيح” بشتى الطرق والوسائل. وفي آخر المطاف، بينما كان مئات الناس ينتظرون خطاب “المسيح” المنظم من طرف قناة CNN في إحدى قاعات المؤتمرات الضخمة وعلى المباشر، إذا به يغادر ويركب سيارة سوداء كانت تنتظره وفيها المفتش الإسرائيلي أفيرام داهان صحبة شخصين آخرين. انطلقت السيارة إلى المطار حيث تم تهريبه في طائرة خاصة إلى إسرائيل، وفجأة تختفي الطائرة من على شاشات الردار لتتحطم قبل الوصول. انتشر الخبر في وسائل الإعلام كالهشيم في النار، ما جعل أتباعه يصابون بخيبة أمل عارمة ليس لموته، بل لكونهليس المسيح، بل شخص ينحدر من جذور إيرانية، وسبق له أن مكث في إحدى مصحات الأمراض النفسية، وعرف كذلك بممارسة السحر، كما صرح أخوه لإحدى القنوات الفضائية.
لم تنته القصة عند هذه الخاتمة التى امتزج فيها الخداع بالمأساة بالغرابة، بل ظهر في المشهد طفل يرعى الغنم في إحدى البلدان العربية، وهو يلمح دخانا يصعد من الحقول البعيدة، فتوجه إلى هناك ليكتشف حطام طائرة وجثثا مرمية، وشخص “المسيح” الذي لا يبدو عليه أي أثر للحادثة.اقترب “المسيح” من جثة المفتش أفيرام، وبمجرد ما لمسها عاد إلى الحياة، ثم توجه إلى جثة أخرى وصنع معهانفس الشيء، لتعود إليها الروح من جديد، فشرع صاحبها في تقبيل يد “المسيح” وشكره في موقف يبعث على الحيرة والشداه، لاسيما على وجه المفتش أفيرام المعروف بقسوته على الفلسطينيين وبغضه لـ”لمسيح”، الذي حاول القضاء عليه بشتى الطرق، والآن صار هو المنقذ.
من البعد اللاهوتي إلى البعد الناسوتي
تطرح هذه السلسلة مقاربة مغايرة لعقيدة الإيمان بعودة المسيح تتجاوز الرؤى اللاهوتية المتداولة، التي تتلون بطابع الدين الذي ترتبط به. فشخصية “المسيح” لا تكشف في القصة بشكل صريح عن هويتها الدينية، إذ من الصعوبة بمكان معرفة ما إذا كانت تنتمي إلى اليهودية أو النصرانية أو الإسلام.
يحاول المخبرون والسياسيون باستمرار أن يربطوا هذه الشخصية بإيران، ولا نعرف لماذا إيران بالضبط؟ هل خشية أن يكون “المسيح” عميلا أو مخبرا يعمل من داخل الولايات المتحدة الأمريكية لصالح إيران؟ ثم لماذا تحضر إسرائيل بشكل مكثف ولافت في هذه القصة؟ وما هدف الإسرائيليين من اعتقال “المسيح” وتهريبه على متن الطائرة التي سوف تتحطم؟ هل يحيل هذا إلى التاريخ المبكر للنصرانية الذي شهد مقتل المسيح حسب الرواية الكتابية على يد الجنود الرومانيين بمساندة من بعض اليهود؟ وماذا عن ظهور “المسيح” المفاجيء في المسجد الأقصى وهو يخطب في الناس أمام كاميرات الإعلام، ثم اختفاؤه المفاجيء رغم الحصار الذي شددته قوات التدخل السريع الإسرائيلية على الحلقة التي كان يخطب فيها؟
لعل المسجد الأقصى يحيل على المشترك الديني بين الأديان التوحيدية الثلاثة التي تتقاسم أيضا عقيدة الإيمان بعودة المسيح. وهذا ما تركز عليه شخصية “المسيح” عبر مختلف أطوار القصة، لمّا تحتفي بقيمة الإنسان، وترسخ القيم الكونية الإيجابية من محبة وسلام.
إن النزعة الإنسانية تحضر بشكل أو بآخر في الخطاب الذي يعتمده “المسيح”، ليس في بعدها الفلسفي الغربي الذي جاء كرد فعل على الدين عامة والكنيسة خاصة، حيث يقدم الإنسان بكونه ندا للإله أو بدلا له، بل في تمثلها الكتابي والقرآني حيث الله كرم الإنسان، ومنحه نعمة العقل ليفكر قبل أن يقرر؛ فالإنسان هو ما هو عليه وهو ما سوف يكون. ثم إن الإنسان لا يستطيع الانفكاك من قدره، غير أنه في آخر المطاف هو الذي يصنع مصيره.
فضلا عن ذلك، فإن خطاب “المسيح” لا يخلو من الصبغة الصوفية التي تتقاطع فيها مختلف الأديان السماوية، ويحضر جوهرها لدى مختلف التيارات الدينية على اختلاف مدارسها ومقاصدها ومقارباتها. ويتمثل البعد الصوفي من خلال تأثير فلسفة ابن عربي الصوفية الواضح، التي تشدد على وحدة الأديان وتدعو إلى الحب الكوني دون تمييز على أساس الانتماء أو العقيدة.
ثم إن الناس على اختلاف عقائدهم وأصولهم وطبقاتهم الاجتماعية ومستوياتهم المعرفية يجدون في شخصية “المسيح” ضالتهم، أو ما يشبع فراغهم الروحي وحاجتهم إلى الحقيقة. لذلك، يهبّون إليه من كل فج عميق علّهم يحضون بإجابة عن أسئلتهم سواء المتعلقة بالحياة أو بالمستقبل أو بالمصير. فالمريض يطلب الشفاء، والفقير يطمح للغنى، والمتيم يحلم بالحبيب، وهكذا دواليك.
وأكثر من ذلك، فقد تخرج على يد “المسيح” الفتى المتسامح “جبريل” والفتى المتطرف “سالم” على حد سواء، إذ جمعتهما صداقة قديمة عندما كانا بصحبة “المسيح” في الصحراء وعلى الحدود الإسرائيلية، وبعد اختفائه غير المعلن وظهوره المفاجيء في تكساس، تفرق أتباعه إلى مجموعتين، أحدهما تم احتضانها من قبل جماعة إسلامية معتدلة، والأخرى سقطت في يد جماعة متطرفة. إن جبريل كان يستوحي من “المسيح” رسالة السلام التي تعززت أكثر عندما احتك بالجماعة المعتدلة، ولما بدأ يخطب في جمع غفير في إحدى مساجد فلسطين، إذا بسالمالذي سقط في أيدي المتطرفين يدخل المسجد وهو يحمل حزاما ناسفا، وعندما همّ بتفجير نفسه التقت عيناه بعيني صديقه جبريل الواقف على المنصة، فحاول أن يعدل عن فكرة التفجير، لكن المتطرفين نفذوا مخططهم المشؤوم عن بعد عن طريق الضغط على زر الحزام الناسف، فانفجر المسجد بكل من كان فيه من الأبرياء، الذين حجّوا إلى المكان للاستماع إلى رسالة السلام والمحبة.
عود على بدء..
رغم أن فكرة أو عقيدة عودة المسيح تشترك فيها كل الأديان الإبراهيمية التوحيدية، وتؤثر بشكل جوهري في التعاطي مع مختلف القضايا المركزية كالصراع والحوار والمصير وغيرها، إلا أن أتباع هذه الأديان لم ينجحوا في جعل هذا العنصر المشترك (وغيره من العناصر الأخرى)سببا للتعايش والتسامح والتقارب. ولعل فكرة مسلسل Missiah جاءت كرد فعل على هذا التشظي الذي يحدثه الإيمان برجوع المسيح، رغم أنه في الباطن يحيل على الوحدة والمصير المشترك. وهكذا تم تفكيك هذه العقيدة التقليدية كما هي في الأديان السماوية التوحيدية، ليس لتحطيمها كليا، بل لتكييفها مع السياق الجديد من خلال تركيز القيم المشتركة الكبرى التي تتجاوز الأديان والإيديولوجياوالجغرافيا.
د. التجاني بولعوالي-بلجيكا