يخلق المخرجون السينمائيون من أوربا الشرقية التميز بأفلام تنبع من صميم ثقافتهم، التي يشكل فيها الدين المسيحي مكونا أساسيا، وعنصرا مؤثرا في الحياة الاجتماعية، رغم كل ما يقال عن النهج العلماني لهذه البلدان، ويزداد حضور التدين ولو ظاهريا، كلما توجهنا نحو القرى والبلدات الصغيرة، حيث تظهر المؤسسات الدينية ذات فاعلية في بناء العلاقات الاجتماعية ونسج خيوطها، بل وتتكثف رمزيتها على مستوى الهيكلة العمرانية وتنظيم المجال، هذا ما يقدمه فيلم ” طائفة corpus christi ” للمخرج البولوني Jan Komasa، وهو من إنتاجات سنة 2019، والذي كان مرشحا لجائزة أحسن فيلم أجنبي في جوائز الأوسكار لسنة 2020.
يسرد الفيلم حكاية الشاب دانييل المهووس بالانخراط في سلك الرهبان، لكنه وجد نفسه في بناية إصلاحية للأحداث بسبب سلوكه الإجرامي، وبعد حصوله على سراح مشروط، ومحاولة الانتقال للعمل في مشروع لنشر الخشب، يوقعه حلمه في انتحال صفة قس مرسم، وهو ما غير مساره و غير نظرة سكان إحدى القرى لرجال الدين. سلط المخرج الضوء في عتبة الفيلم من خلال مجموعة من اللقطات الداخلية على فضاءات الإصلاحية بالتوقف عند بعض الأنشطة ( النجارة)، وحجم المكائد والصراعات والتحالفات داخل مجموعة الأحداث، ومهد لنا Jan Komasa لتسريح دانييل بوصول “بونس”، ولو أن سن الأشخاص الذين ظهروا في الفيلم داخل الإصلاحية يصعب تصنيفهم ضمن الأحداث بسهولة، من خلال ملامح وجوههم التي ظهرت في لقطات مقربة في المطعم وقاعة الصلاة.
زار دانييل في طريقه إلى المنشرة قرية صغيرة تتوسطها كنيسة يشرف عليها قس مدمن على الخمر، وغير مواظب على صلواته، وهو مبرر سردي سهل لنا تقبل ورطة دانييل في الإشراف على الصلوات بالكنيسة عوض عنه، حين وجد نفسه قسا مرسما رغم أن مستواه الدراسي لا يسمح له بذلك، إلا أن قربه من القس في الإصلاحية، وحبه للعمل الخيري، وفر له فرص النجاح في مهمة التعويض ولو بالاعتماد على “النقل” من الهاتف أثناء الاستماع للاعترافات، وارتجال الخطب، لقد قادت الصدفة دانييل ليصبح قسا خارج قواعد الكنيسة بتواطؤ مع القس الرسمي التابع للأبرشية، وزوجته وعمدة المنطقة وضابطها، وهو ما يحيل على عدم طهرانية المؤسسة الدينية المسيحية، وتفشي الفساد في دواليبها، وهناك إشارات كثيرة في الفيلم تؤكد ذلك بما فيها حوار حول ضعف الإيمان، وسطحيته لدى غالبية مرتادي الكنيسة.
اشتغل المخرج على عامل أخر لتطوير السرد حين كشف لنا عن صور تتم زيارتها وسط القرية تعود لضحايا حادث سير مأساوي عكر صفاء وهدوء تلك القرية قبل سنة من وصول دانييل إليها، هذه الحادثة ستظهر الجانب الإنساني في شخصية القس المزيف الذي بذل جهدا في إقناع سكان القرية ليعتبروا سائق العربة الثانية في الحادثة ضحية بدوره ويقبلوا بدفنه في قريتهم، وحاول مصالحة زوجته مع أهل القرية بعد نبذها، وهو ما تحقق حين عادت إلى الكنيسة لحضور القداس، كما برز جانب الخير في شخصية دانييل حين انتقد الغنى الفاحش للعمدة المالك للمنشرة، وإرغامه له على الجلوس على ركبتيه في الوحل، وإسماعه خطبة لاذعة حول حب الشهرة والمال. ينتهي الفيلم بتحقيق دانييل لانتصار غير منتظر على “بونس” الذي يظهر أكثر قوة وضخامة منه، ويخرج من الإصلاحية إلى المجهول.
يكشف المخرج من خلال هذا الفيلم أن المؤسسة الكنسية غير محمية من الزلات ومن الاختراق، ما دام أن المشرفين عليها أشخاص لهم نزوات ورغبات يصعب عليهم مقاومتها في لحظات الضعف التي قد يمر منها أي كان في محطات معينة من حياته، وقد أظهر ذلك في حالة القس طوماس المتورط في المثلية الجنسية، و حالة القس الرسمي في القرية المدمن على الكحول لدرجة فقدان الوعي والحاجة إلى العلاج خارج القرية، وحالة دانييل الذي لم يقاوم انجذابه لابنة القس وسقوطه في ” الحرام” بممارسة الجنس معها داخل البناية الرسمية لوالدها، و ضعف مراقبة الأساقفة للكنائس التابعة لهم. وقد توسل المخرج لجوانب سينمائية كثيرة لتحقيق هذا المبتغى حين أبرز لنا نظرات الشبق في عينياي دانييل، وكذلك قلقه حين كشف سره من طرف صديقه في الاصلاحية، عبر لقطات مقربة، تجعلنا نغوص في الجانب النفسي له، كما أظهرت لنا الكاميرا مكونات القرية وخصوصية معمارها وحقولها وغاباتها، في لقطات عامة وأخرى مقربة.
محمد زروال