عبد المنعم أديب
ستأتيك فرصة في فيلم ” Judy ” أن ترى نقيضَيْنِ يتمازجان سويًّا في قلب إنسان واحد. الأمر مُعقد جدًّا؛ فالمنطق يقول لنا في مبدأ يُسمَّى “عدم التناقض”: إن النقيضين لا يجتمعانِ معًا في الوقت والمكان نفسيهما أبدًا. لكنَّك سترى في شخص “جودي” حياة ولا حياة في الشخص نفسه وفي الحالة نفسها. فها هي “جودي” التي سئمت من حياتها القاسية الباردة قررت أن تغني لنا عذاباتها في ألحانٍ فاتنة؛ حتى يلتقي “العذاب” مع “العذوبة”، ونكتشف أنهما من نقيضان لكنْ من الحروف نفسها.
فيلم “جودي” أنتجتْه لنا شبكة “بي بي سي”، شهر “أكتوبر” 2019م. الفيلم من تأليف “توم إيدج” وهو مبنيّ على مسرحية. ومن إخراج “روبرت جولد”. من بطولة الممثلة البارعة “رينيه زيللوجر” و”جيسي باكلي”، “فين وايتروك”، “مايكل جابون” وغيرهم. الفيلم من تصنيف “سير ذاتيَّة”، “دراما”. الفيلم حصد الجوائز على حصان رهانه “بطلة الفيلم”، وهي مرشحة أيضًا لـ”أوسكار”. وهو فيلم غنائيّ ولكنْ ليس بمعنى أنَّ الغناء مُصاحب الفيلم كلَّه، لكنْ تعني كلمة “فيلم غنائيّ” هنا أنَّ به أغاني كثيرة، وأنَّ لها تأثيرًا تعبيريًّا مصاحبًا للأداء التمثيليّ.
الفيلم يتناول حياة الممثلة والمغنية الأمريكيَّة “جودي جارلاند” صاحبة الدور الشهير “دورثي” في أحد أكبر الأفلام السينمائيَّة “الساحر أوز” المُنتج عام 1939م. والتي ظلَّت تعمل منذ نعومة أظفارها إلى أن ماتت عن عُمر السابعة والأربعين، عام 1969م.
قد يتوقع القارئ من الفقرة السابقة أنَّه سيجد شخصًا مصابًا بإحساس العظمة، أو مُعتدًّا بنفسه كما نرى كثيرًا من السير الذاتيَّة للممثلين والمغنيين. لكننا في الفيلم نرى “جودي” نفسًا حائرة حقًّا، مُثقلة بالهموم والآلام حتى يُخيل إليك في لحظات أنَّها تنهدم داخليًّا في كل لحظة تمرّ عليها، ومع كل مصيبة تصيبها، وأنَّ كلّ المُتبقِّي أن يصدر لها قرار بالإزالة حتى تمضي كليَّةً. “جودي” إنسان يتعذب من الأمر ذاته الذي يعتبره الآخرون ميزة يسعون إليها؛ هي الشهرة والنجوميَّة. لقد بدأتْ نجوميتها منذ صغرها، وبدأتْ معها مأساتها.
صوتها العذب الجميل جعل المُنتجين يتنافسون عليها إلى أن تمَّ احتكارها بعقد طويل الأمد من شركة “مترو جولدن ماير”. هي في نظر الجمهور تمثل الجمال والعذوبة والموهبة، وفي نظر المنتج “ماير” تمثل الدجاجة التي تبيض له بيضة الذهب كل يوم. وقد عاملها المُنتج كآلة اشتراها من السوق، لا كإنسان له روح وعقل وإرادة ورغبة. طريقته في رأيه الطريقة المُثلى لإنتاج بيض الذهب. “جودي لا تأكلي حتى لا تسمني”، “جودي لا يمكنك الترفيه حتى لا تضيعي وقتك من غير فائدة”، “جودي ابتعدي عن رفيقاتك فالعمل أولى بوقتك”، “جودي نامي في هذا الوقت لتستيقظي باكرًا للعمل”. كل هذا و”جودي” مستسلمة لتوجيه المنتج، وقسوة مديرة الإنتاج.
وكلَّما أرادت أن تتذمَّر أو تخرج عن نطاق الطاعة ارتعب المنتج على بيض الذهب وأخذ بمنتهى الحرفيَّة مُستغلاً فارق السنّ والخبرة الهائل بينهما ليعيدها إلى الحظيرة، بترهيبها بأنَّها مجرد فتاة عاديَّة، بل أقلّ من العاديَّة لا بُدّ أن تعتمد على ميزتها الوحيدة التي انتشلتْها من الضياع (وهو العيش كإنسان سويّ) وجعلتها دجاجة في حظيرة العمل عنده. ثم بعد أن يفعل الترهيب فعله في ردعها عن التذمُّر يبدأ الترغيب بالملايين ومزيد من الشهرة، وصيحات المعجبين التي ستملأ القاعات والمسارح. حتى تعود “جودي” كما كانت دجاجة مطيعة وتتناول بيدها هي قرص كيماويًّا لمقاومة رغبة الإنسان في الطعام، وتضعه بجوار قرص مقاومة الإنسانيَّة الذي من قريب تناولتْه.
ومرَّتْ السنون على “جودي” على هذه الحال؛ بين تاريخ من التعذيب التمثيليّ المهنيّ، وأربعة زيجات غير ناجحة، وابنة شابّة ذات علاقة متوترة مع أمّها، وطفليْنِ صغيريْنِ ينازعها الأب على حضانتهما. السبب في ذلك أن العمل الدائم الذي وعدها المنتج أن يجلب عليها الملايين هو نفسه الذي جعلها شبح إنسان يُقبل إقبالاً على التدخين، والخمور، والمخدرات. حتى تحوَّلتْ إلى هيكل إنسانيّ خرج صفرًا من حياته بلا مال، بلا محبة، بلا منزل يأويه. تشعر ألا أحد يحبها، ولا أحد في احتياج إليها.
حتى تأتيها فرصة لتعديل مسار حياتها؛ ففي “لندن” يحبُّها الكثيرون، وتنتظر المسارح والملاهي بشغف الأسطورة الشهيرة كي تغني فيها وتقدم عروضها. وتحاول هي إعادة حياتها إلى حيِّز الصواب، وتسافر لتقديم العروض الغنائيَّة. وهناك نرى عُمق التناقض في حياتها. تبيَّن لها فور وصولها أنَّ الطريق لن تكون مُمهَّدةً كما تعتقد. وها هي “جودي” ملكة الأضواء تخاف من الأضواء، تخاف من الظهور، تخاف من لاقط الصوت الذي لمْ يُفارقْ يدها طوال عُمرها. رغم ذلك عليها أن تخرج إليهم لتغنِّي هذا عمل، واعتادتْ “جودي” استعباد العمل. فخرجتْ لتقدم مأساة حياتها في أغانٍ. وفي الوقت الذي وقفت فيه أمام الجمهور، ومع بدء تفاعل الجمهور مع المغنية الشهيرة انطلقت، تحررتْ في غنائها للجمهور، وتحررت في تفاعلهم معها. أحسَّتْ أنّ هناك مَن يحبّها، وهناك مَنْ يحتاجها. وهي كلَّ يوم على هذا الحال؛ ما بين خوفها من الغناء وهروبها من رمز استعبادها القديم المُتجدد، وما بين تحرُّرها في أغانيها التي تشدو بها وتعلم أنَّها فور انتهاء الحفل ستعود شبح إنسان كما كانت. فهل ستسمرّ في عملها؟ وما الذي تخبئه لها الأيام؟
أنفقنا الجزء الأكبر من المقال في المعاني، ولِمَ لا؟! وما أنشئتْ الأفلام الفنيَّة إلا لتقدم لنا المعاني. ولكنْ -باختصار- ما هي الطريقة التي اختارها الفيلم ليعرض لنا هذه الحياة؟ اختار أن يعمل على جبهتَيْن أو خطيْن. خطّ رئيسيّ وهو الزمن الحاضر 1969م، وخط آخر وهو الماضي حيث كانت “جودي” في بدايتها، مهمته الأولى هي دعم الخط الأول عن طريق إيضاح المعاني للمشاهد، والإجابة عن بعض التصرفات التي قد يستغربها من البطلة. وبناء الفيلم دراميًّا بناء تقليديّ اعتياديّ وهذا لا يعيبه على وجه الإطلاق؛ خاصةً أن الاهتمام والنقطة الفارقة تمثَّلتْ لدى صانعي الفيلم في ممثلة دور البطولة، ودور البطولة. فهو فيلم شخص وليس موقف. وقد أخلص الفيلم لهذا النوع جدًّا فما كان الآخرون (كل الممثلين عدا البطلة) إلا عوامل مساعدة، أو تقوم مقام المُحفِّزات. وأبرز مُحفِّز فيهم هو دور المُنتج “ماير” حيث هو الذي شكَّل جزءًا ضخمًا من شخصيتنا. حتى تطور الدراما لمْ يكن لبقية الشخصيات الدور الرئيس فيه، بل هو لتفاعلات نفسيَّة، وصراعات داخليَّة لـ”جودي”. لكنّ الحوار بدا جيِّدًا ومتماسكًا وقويًّا، بل شديد التعبير في بعض اللحظات؛ مما أعطى للفيلم دفعة لا بأس بها.
وقد شارك الإخراج مشاركةً قويَّة في إنجاح التجربة. وقد بدا تميُّز المخرج بدايةً من الاختيار المُوفق لمواقع التصوير؛ خاصة المسرح في “لندن”، إلى أدق تفاصيل الحقبة الزمنيَّة، إلى السيطرة على الأداء التمثيليّ عامةً. لكنْ هناك عاملان لا بُدَّ أن أنوِّه عليهما في الإخراج. الأول أنّ المخرج أجاد استخدام الإضاءة في الإخراج، لا أقصد هنا إضاءة التصوير الاعتياديَّة، بل الإضاءة داخل تكوين الصورة. أيْ أنَّه أصرّ في مشاهد عدة على تصوير مصدر إضاءة أمام أعيننا؛ إمَّا الشمس، أو الإضاءة المنزليَّة الجانبيَّة، أو الإضاءة المتميَّزة في موقع المسرح الغنائيّ في “لندن” وقد يلاحظ المشاهد الكريم براعة المخرج في تنويعه الإضاءة حسب شعور للشخصيَّة المحوريَّة أو بعض الشخصيات الثانويَّة مثالاً مشهد النهاية مع إضاءة خلفيَّة المسرح بين خشبة المسرح، والكالوس (المنطقة التي منها يدخل الممثل أو المغنِّي). وبالقطع هذا له دخل كبير في أنَّ الفيلم فيلم “نجمة” سينمائيَّة وغنائيَّة.
العامل الثاني هو الإخراج “الدراميّ” للأغاني في الفيلم. فالمخرج كان في إمكانه أن يخرجه إخراجًا استعراضيًّا، لكنَّه اختار إخراجًا دراميًّا موفقًا، ساهم كثيرًا في تدعيم المعاني، والتفاعل الشديد مع البطلة وشخصيتها وتعقيداتها. وبالإجمال -فهناك أشياء أخرى كثيرة- كان الإخراج متفوقًا، وقد ساهم في تلوين اعتياديَّة التأليف.
ولا يمكن في هذا الحديث أن ننتهي إلا بمسك الختام الممثلة “رينيه زيللوجر” التي استحقتْ أن تنتصر. لقد أدَّتْ أداءً لا يمكن أن نصفه إلا بالامتياز البالغ. والحقّ أنّ المقال كان يجب أن ينصبّ عليها، بل يُفرد لها مقال وحدها كما للفيلم مقال. لكنَّ التقدير المعنويّ الذي نالتْه من الجوائز العديدة عن الدور كفانا وناب عنَّا في هذا. لقد صنعتْ أبلغ أداء تمثيليّ في العام كلَّه. ولا يمكن أن نعبِّر عن هذا في سطور قليلات. إلا إنْ قلنا إنَّها مشاعر مجسدة في امرأة تغنِّي. كانت هذه “رينيه”، وكانت تلك “جودي”.
عبد المنعم أديب