الرئيسيةغير مصنفعن فيلم Burn outللخماري:”احتراق” الإنسان في “الدار المظلمة”

عن فيلم Burn outللخماري:”احتراق” الإنسان في “الدار المظلمة”

تقديم.
من المألوف عادة في الكتابة السينمائية أن يكون فيلمٌ مبنيّ على الحركة وعلى تفاصيل الحياة اليومية للناس بمشاكلها ومآسيها الاعتيادية، شبه خالٍ من الصيغ الإبداعية الاستثنائية، فإلى أي حد يمكن اعتبار فيلم Burn out، (وهو الفيم الثالثضمن ثلاثية المخرج نور الدين الخماري عن الدار البيضاء بعد فيلميCasanegraوZeroإنتاج2017)، استجابة لهذه الصيغة أم أنه فيلم يتحداها بالجمع بين الحركة واليومي منجهة، في صيغته، مع الإبداع بصريا وسرديا من جهة ثانية؟

كاميرا تترصد بحذق ذواتا متأزمة تبحث عن نفسها.
يعرض الفيلم صراعات متعددة، لكنهامتقاربة اجتماعيا، لعدة شخصيات تنتمي لمجالات حياة اجتماعية مختلفة. لكل من هذه الشخصيات، نتيجة ذلك،نظرة مختلفة للحياة ولسياقاتها، فتوترات الرجل الشاب”المفشش”والغني، (شخصية “جاد” أداء الممثل أنس الباز) مع زوجته ومع نفسه هو نوع من السباق مع الزمن وضده. عنوان هذا الصراع سرعة قد تفوق الزمن ذاته إذ العُمق نفسي ّوُجودي أكثر منه فيزيائي. هناك من ناحية سردية أخرى صراع الفتاة الجميلة الضائعة عنذاتها، (شخصية “عايدة” أداء الممثلة سارة بيرليس). الصّراع والتوتر هنا مع ما تطمح له في المستقبل وما تفعله أو يفرض عليها فعله في المستقبل كما في الحاضر. تدور صراعات وتوترات الشخصيات هذه في مدينة “الدار البيضاء”، وهو بياض مدني يُمحى”ليلا”، كما في فيلمي الثلاثية السابقينغالبا. سيادة قصص أطفال الشوارع ومعاناتهم مع الفقروالتيه والضياع تفرض نفسها في سياقات الكبار والصغار في أفلام نور الدين الخماري. نفس الشيء مع قصص نساء الليل والزوجات التائهات بحثا عن ذواتهن المنفلتات من وعي قوي يملك زمام الأمور. على الرغم من مألوفية هذه الصور من الحياة التي نجدها بأشكال وصيغ متعددة في غالبية الأفلام المغربية وغيرها، فقد كان سردأحداث فيلم Burn out يتوالى في صيغة سينمائية وبزوايا إلتقاط وبديناميكية كاميرا فنية وغير مألوفة.
يُسرع الشاب بسيارته في سباق مع الزمن وكأنه يسابق هواجسه وما تستبطنه شخصيته البسيطة/المعقدة، في نفس الوقت، من معاناة في التأقلم مع وضعٍ يبدو مُريحا في الحس الاجتماعي المشترك.كان “جاد” يهرب، يحاول الهرب في الواقع،في سيارة سريعة وجميلة من فراغٍ يهَابُه.. يهرع الى مكان على شاطيء البحر، ليلا، لينخرط في نظرٍ وتحديق في نفسه محاولا، دون جدوى، استكناه ما وراءها. يافطة هذا السباق بالنسبة “لجاد” الحزين في أعماقه محاولة احتفال، مع ذاته، بفوز في سباق هو من اختلقه تعويضا عما يفتقده. علاقته بزوجته (“إناس” أداء الممثلة مرجانة العلوي)، كانت على وشك الانفصالإذ كانت تحمل الكثير مما لا يُقال ولربما لن يقال أبدا، لأنه يؤلم ويقتل ما كان قد يولد في بيت يملأه الفراغ مع أنه مليء بكل ما هو غالٍ.ألم يكن فراغ البيت هذا هو بالضبط ما كان “جاد”يهرب منه؟
في مكان آخر من “الدار المظلمة”، وفي مشاهد أكثر اعتيادية، يعرض نور الدين الخماري أطفالا(شخصية “أيوب” أداء الممثل إلياس الجيهاني وشخصية “موس” أداء الممثل بدر بوحايح)، يتسولونويقاتلونوكأنهم حيوانات متروكة لقانون الإنتقاء والتطور، تحت تحكيم طبيعة لا ترحم، يمثلها أنسان مسحوق آخر، لكنه أكبر سنا وقوة، (شخصية “روندا” أداء الممثل محمد الخياري). إنها شخصيات طرية ويانعة لكنها جاهزة لتدمر كل ما حولها و”لتفترس” كل ما يمكن ابتلاعه، سواء كان ذلك من أجل حياة أفضل أممن أجل وهمٍ هارب لا ولن يتم الحصول عليه بسبب ظلامية اجتماعية وقيمية تعم “الدر البيضاء المظلمة” كما يصورها نور الدين الخماري ليلا على الخصوص، ولو في فضاءاتها المخملية. سيارات تسرع إلى الأمام وفوضى عارمة لا يفهم طفل صغير معانيها،لكنهيعي ما عليه فعله لأنه مرغم وليس بطلا.

طفل النور في الظلام.
على الرغم من أن “أيوب” الطفل، الذي يحلم بمنح أمه رِجْلاً اصطناعية، كائن مسحوق وضعيف، فإن رموز القُوة الافتراضية في السينما والألعاب الإلكترونية مثل،سوبرمان وسبايدرمان وكل الأبطال الذين يشاهدهم على الانترنيت، خلسة وهو يسترق النظر من نافذة مقهى أو على هاتف أحد المارة أو الجالسين في المقاهي،عندما يكون بصدد مسح أحذيتهم، تجعله يختزن قوة يتمنى أن تكون له ذات يوم.. ربما.
لقد كان لقاء “جاد”الغني المدلل الباحث عن ذاته ب”أيوب”الطفل ماسح الأحذية بالنسبة ل”جاد” وكأنه لقاء بذاته وهو صغير، ولكن بشكل مختلف عن صغره الحقيقي. هكذا أصبح “جاد” يحاول إرضاء الطفل فيه بإرضاء الطفل المتسول.
في داخلنا دائماً طفل/طفلة أو الطفل الذي كنّا عليه والذي نحاول التحدث إليه وإرضاءه أو إعطاءه ما لم يكن يستطيع الوصول اليه. هذا الطفل الذي يسكننا ونحن راشدين كما هو عليه حال بطل الفيلم “جاد”، إنما هو طفلٌ يتحكم في انفعالاتنا وفي شخصيتنا الآن ونحن نعتقد أننا من يقرر.
تلجأ “أنياس” إلى صديقتها، (شخصية “سمية” أداء الممثلة فاتي الجوهري)، بعدما لجأت إلى الفنان “المعطوب” (شخصية ” السيد غزالي أداء الممثل كريم سعيدي)، ولوحته الضخمة الغالية الثمن (لوحة التشكيلي المرحوم صالادي) وهي تشعر باختناق في علاقة زواج لم تكن تفهم حقا أسرار دوافعها الهشة. ترقص “أنياس” مع صديقتها بالمعرض ليلا خلال زيارة مُختلسَة لمكان يملؤه الزوار نهاراً. ترقصالمرأتان بسعادة ربما لم تحساها يوما، أو لربما أحستا بها وهما طفلتان صغيرتان. ترميأنياس بحذائها الغالي الثمنLouboutin بلا مبالاة. تتبع الكاميرا الحذاء الذي ينقلب على ظهره الأحمر الذي تحلم به كل النساء. إنه الحذاء الذي يُعلي من معاييرها ورأسها ورؤيتها للأمام بكل إصرار على حد قول “غابريال شانيل”. إنقلب الحذاء، عندما رمت به “أنياس” بلامبالاة، كانقلاب سيرورة الأيام، فأتت الرياح بما لا تشتهي هيّ.رمت بالحذاء كما يرمي زوجها بنفسه في أحضان سرعة سيارته وفي أحضان ما قد يحدث وما يهم أو لا يهمولربما لم يعد كذلك. ضحكات هي تلك التي تصدر عن “أنياس” وصديقتها “سمية”، تتخللها دموع وصراخ مع موسيقى وبياض حيطان المتحف،كخلفيةللوحات مُعلقَةً كانت شاهدة على احتفال السيدتين بحرية أحستاها على الأقل.. ذلك اليوم..تلك الليلة.
يلتقي الطفل ماسح الأحذية بعد معاناة مع مرض أمه، ومعاناة صديقه في اعتداءات سرية تبين ما يُخفي المجتمع العميق من أسرار نعرفها ولا نعرفها، يلتقي “عايدة” الفتاة الجميلة التي تدرس الطب نهارا، لكنهاتحترف ليلا وظيفة فتاة متعة. تشتغل “عايدة” بأجر يدفعه الزبناء العطشى لتفجير كبتٍ قاتل، وللتنفيس عنعُقدٍ لليلة أو لِيالٍ مع فتاة أو مع فتيات جميلات المظهر وفارغات العقل لكن، ما الذي يدفع “عايدة” طالبة الطب إلى بيع جسدها لتلجأ إلى محاولة التطهير بعد ذلك؟
تمشي الحياة كالرياح بما لا تشتهي السفن ككناية القطار الذي يمر بسرعة. يحاول جاد وأيوب، الشاب الغني وماسح الأحذية تحدي تلك السرعة معا وكأنهما صنوان يقفان متحديان سرعة القدر ورهان الوجود الفارض لإرادته عليهما.
يسعد الطفل والرجل بتلك السرعة كل حسب معاناته ورغبته في التعويض، بينما تضحك الأم المسكينة وكأنها ترى نفسها من خلال ابنها في ظلام الليل الشجي مرة أخرى. تتلاشى انفعالات شخصيات أبطال الفيلم …. وتتلألأ أضواء.. الدار “المظلمة” لتعم مصائرهم وهم يضمون أحلامهم الدافئة.

عفيفة الحسينات- كاتبة وناقدة-لندن.

تعليق واحد

  1. محمد عباس

    قراءة نقدية عبقرية توضح لنا الفكرة التى حاول نور الدين الخمارى توصيلها للمتلقى وتلك الصراعات الداءرة مابين عدة نماذج مختلفة فى مجتمع المدينة الصاخب والربط بين المتناقضات المختلفة مثل الشاب الغنى والطفل الفقير ماسح الاحذية ..كما يبين لنا الصراع الخفى داخل الشخصية الواحدة مثل طالبة الطب نهارا فتاةالليل مساء ولكن لم يوضح لنا الخمارى سبب هذا التناقض فى نفس بشرية واحدة من ارقى درجات العلم الى احط مهنة فى التاريخ ..وحاول ايضا بالتطرق الى الرمزية فى مشهد رقصة الفتاتان… اسعدتنى رؤيتك النقدية التى جعلتنى اشاهد الفيلم برؤيتك ومن خلال عينيكى ..شكرا لكى الناقدة القديرة الليدى عفيفة الحسينات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *