انطلقت أمس الجمعة 20 شتنبر 2019 عروض المسابقة الرسمية للدورة الثالثة لمهرجان الجونة السينمائي بعرض فيلمين روائيين طويلين هما “أغنية بلا عنوان” للمخرجة البيروفية ملينا ليون، “الأب” للمخرجين البلغاريين بيتر فالجانوف وكريستينا جوزيفا.
تدور أحداث فيلم “أغنية بلاعنوان” أثناء سنوات بداية الثمانينات حيث كانت البيرو تعيش أزمات اقتصادية وانتفاضات ضد النظام الحاكم يتزعمها تنظيم “الدرب المضيء” الشيوعي الماوي ، ومن خلال هذه الخلفية التاريخية نتابع حكاية أم شابة في بداية عشرينياتها يُسرق طفلها الرضيع في عيادة وهمية من طرف عصابة تتاجر في الأطفال بعد أن يتم إيهامها بأن العيادة تُقَدِّم خدمات مجانية للنساء الحوامل كي يلدن بها، وفي بحثها المضني عن طفلها الرضيع تلتقي بصحفي يشتغل بجريدة مهمة فيقرر هذا الأخيرمن باب التعاطف بداية الأمر أن يتبنى قضيتها التي ستقوده إلى اكتشاف وفضح مافيا تتاجر بالأطفال الرُّضَّع وتبيعهم خارج البيرو.
الفيلم مصور باللونين الأبيض والأسود الأمر الذي أضفى عليه مسحة من الحزن ومنح الصورة جماليات شكلية تكاملت مع التيمة المتناولة، بحيث استطاعت المخرجة ميلينا ليون في فيلمها الأول هذا، الذي كان عرضه الأول في مسابقة نصف شهر المخرجين بمهرجان كان السينمائي في دورته الأخيرة، أن توصل أحاسيس الغبن والقهر والظلم الذي تعرضت لها الأم الشابة والأمهات الأخريات اللواتي تم اختطاف أطفالهن منهن بشكل حقير ولا إنساني وكيف أن “العدالة” البيروفية آنذاك لم تكن تأبه بِرَدِّ الأبناء إلى أمهاتهن وأنها لم تتحرك لِلزَّجِّ ببعض من أفراد مافيا الأطفال في السجن سوى لأن جريدة كبيرة ومؤثرة شعبيا أفردت للقضية صفحتها الأولى، وحتى حينما يطلب الصحفي من القاضي متابعة التحقيق لكي يتم استرداد الأطفال من الخارج يجيبه هذا الأخير “لماذا لاترى الأمور من وجهة نظر مختلفة، فالأطفال سيعيشون ربما أفضل بعيدا عن أمهاتهم الفقيرات”.
“أغنية بلا عنوان” فيلم إنساني تتعاطف فيه المخرجة مع سيدات مغبونات ولاحول لهم ولاقوة في مواجهة ظلم وقع عليهن، وهو فيلم يحمل أحاسيس رقيقة وحزنا مشوبا بالرفض وعدم تقبل واقع مزر وغير إنساني. وفي مشهد جميل يقوم فيه عضو ملثم منتم لتنظم “الدرب المضيء” بتفجير قنبلة صغيرة ليتمكن من تفريق تجمع مهرجاني ليُوزِّع منشورات ضد النظام وسط جمع من الناس، لتكتشف الأم الشابة بشكل سري وبنوع من الدهشة ونحن معها كمشاهدين أن الصحفي المتعاطف معها هو من فعل ذلك وأنه منتم للتنظيم المحظور.
في فيلم “الأب” للمخرجين البلغاريين بيتر فالجانوف وكريستينا جوروزيفا نتابع قصة أب وابنه مكتوبة بشكل جيد ومُؤدَّاة من طرف ممثلين مُتمكِّنَين يحملان الفيلم على كتفيهما من البداية وحتى آخر لقطة فيه. تموت الأم ليتوهم الأب أنها مازالت تتواصل معه عن طريق قوى خارق للعادة وللطبيعة، لكن الإبن العقلاني يرفض توهمات أبيه ويفعل ما بوسعه لكي يثنيه عن الاستعانة بمشعوذين يوهمون الناس بإمكانية التواصل مع الموتى من أقربائهم، لكن الأب يزداد تَمَسُّكا بأوهامه كلما ازداد الإبن إصرارا على إقناعه بعكسها، خصوصا حينما تهرع إليهما جارة صديقة للأم وهي ترتجف من الخوف مدَّعية أن هذه الأخيرة تتصل بها من العالم الآخر عبر الهاتف. ومن خلال لحظات اعتمد فيها المخرجان كوميديا موقف راقية ضبطا لحظاتها بشكل جيد، لم تدع جمهور الجونة الحاضر في القاعة أن يتماسك نفسه ويتفاعل بالضحك بين الفينة والأخرى، الأمر الذي أنقذ الفيلم من رتابة كانت ربما ستجره لزاوية أخرى بنظرة مختلفة، كون الفيلم ينسف خرافات الماورائيات بشكل سلس وبدون خطاب مباشر ولا وعض ولا إرشاد. وقد نسج المخرج والمخرجة شخصيتين تحملان طابعا إنسانيا واضحا للعيان من خلال علاقة جد معقدة بين أب وابنه تتجاذبها مشاعر الحب والرفض واللوم ، شخصيتان مختلفتان في كل شيء لكن يجمع بينهما حب عميق ، وفي مشهد أخير جميل بعد أن يستطيع الإبن أن يثبت بالدليل القاطع لأبيه أن ما يعتقده هو مجرد أوهام ، يعترف هذا الأخير بإحساسه بالذنب ناحية موت الأم ويعتبر نفسه مسؤولا بشكل غير مباشر عن موتها ، كونها أجرت معه اتصالا هاتفيا قبل وفاتها بقليل بعد إجراء عملية جراحية ولم يكن هو مباليا بمصيرها بل خاطبها بألفاظ جارحة وتمنى لها الموت.
“الأب” فيلم إنساني بكل ما في الكلمة من معنى ويحمل طابع تلك الأفلام التي تأتينا من أوروبا الشرقية بين الفينة والأخرى حاملة نفحات السينما الجيدة والمختلفة.
عبد الكريم واكريم-الجونة-مصر