صباح الخبر الحزين، صباح الموت القادم من تونس التي أحب، صباح كندا والبعد الذي يقيدني فلا أستطيع التنقل وحضور جنازة من أحب، صباح السينما المكلومة في نبيل من نبلائها الكبار ورجلاتها الأفذاذ، صباح مهرجان قرطاج السينمائي، الذي وجد أخيرا مديرا من المستوى الرفيع، دون أن يستفيد من خبرته وهدوئه وعلاقته الطيبة المتعددة غير دورتين، صباح الخير لروح نجيب عياد الطاهرة، الروح المتمردة الهاربة من أدران الوقت والصاعدة لسماء الخلود..
قبل شهرين زرت تونس لحضور لقاء سينمائي نسائي، كنت وصديقي التونسي الطيب أشرف لعمار والجزائري الجميل نبيل حاجي، تحدثنا وقتها، على هامش الأنشطة، في كل شيء، من بينها الفن السابع ورجالاته بالعالم العربي، العالم العربي الذي ينذر أن تجد فيه سينمائيا عربيا تتمتع سيرته بالإجماع، لأن لا أحد يمكن أن يكون موافقا ومتناغما مع أذواق الجميع، ولا يمكن لأحد أن يتوافق في الرؤية مع الجميع، لكننا وصلنا لإستنتاج عام مفاده، أن هناك من استطاع أن يكون بالفطرة كقطرة عسل يتذوق مذاقها الحلو الطيب جميع الناس دون فرق أو فارق، لكن هؤلاء قلة، نعم قلة، يتقدمهم بكل جدارة واستحقاق هذا التونسي الراحل عن دنيانا، صباح اليوم، بغير استئذان، التارك بيننا الغصة والألم والسيرة العطرة المتجذرة في كل النفوس السينمائية عبر هذا الوطن المسمى العالم العربي، الوطن الممتد من البر للبحر، من عراق دجلة والفرات، لمغرب الأطلس والمحيط.
قررنا أن نزوره ونحضر تكريما (كما أخبرنا أشرف) كان سيقام له يومها من طرف وزارة العدل التونسية بحضور رسمي لوزير العدل، تكريم خاص (رفقة مساعديه في مهرجان قرطاج السينمائي) نظرا لما قدمه للمؤسسات الإصلاحية عبر التراب التونسي، من خلال إشراك السجناء في برامج المهرجان، وذلك بتقديم عروض خاصة للأفلام ولقاءات مع بعض ضيوف المهرجان..
وصلنا (نحن الثلاثة) قاعة الحفل، وما أن شاهدنا حتى هش وبش و فتح الذراعين ليحتضننا واحدا واحدا، سألناه عن الصحة، فقال: “الحمد لله، أنا الآن في أحسن حال..”. سألني عن المغرب والأصدقاء، مثلما عاتبني بطريقته الساخرة: “.. نسيتوني.. لماذا لم تستدعوني لمهرجان وجدة.. سمعت أنه مهرجان ممتاز يشق طريقة بكل نجاح..؟” (كان مهرجان وجدة قد إنتهت فعالياته قبل أسبوعين تقريبا). أجبته في الحال: “بالعكس، أنت الذي لا تريد أن تتواضع وتحضر معنا.. لقد اتصلت بك مرارا وتكرارا، بطلب من مدير المهرجان سي خالد سلي، لكن دائما هاتفك يرن ولا رد من جانبك…، “.. لا يمكن…كيف لا أرد عليك وأنت من أعز أصدقائي” أجابني بكل ثقة وصدق، ثم واصل “.. أريني الرقم الذي تتصل من خلاله..”. أريته الرقم، فقهقه قهقهة جميلة مجلجلة، “الرقم خاطئ يا سي الجوهري.. صحح الرقم .. سأنتظر دعوتكم للدورة القادمة..”…
حضرنا التكريم، وانسحبنا، والأمل كل الأمل أن نلتقي بعدها هنا أو هناك، في تونس أو المغرب أو أي مكان من العالم الفسيح، لكن فصول النهاية كانت تكتب حينها، نهاية حياة أحد أفضل الرجال وأكثرهم وفاءا للأصدقاء والفن، نهاية تربصت، مبكرا، بروح طيبة وفية، روح لم تكن تحب الخير لتونس والسينما التونسية فقط، بل كانت تحبها لكل البلدان العربية والإفريقية، أساسا منها المغرب (الذي كان يعتبره، فعلا لا قولا، بمثابة بلده الثاني).
دورنجيب لا ينسى، منذ بداية سنوات السبعينات، في إطار حركة الأندية السينمائية التونسية، والمسؤوليات العديدة المتعددة التي تحملها، والتواطؤات الفنية الجميلة في تكريس الإنتاجات المشتركة، ودعم أفلام الشباب وطاقاتهم الخبيئة، وإقامة أنشطة إلى جانب الكبار سينمائيا (الطاهر شريعة وعصمان صامبين وبهاء الدين عطية وسمير فريد ونورالدين الصايل..) من أجل أن تسعد الأجيال الحالية والتالية…
رحل عياد دون أن نلتقي، كما تواعدنا، لأن الموت الخسيس كانت له فكرة أخرى، فكرة أن يحرمنا من بعضنا البعض، أن يحرم سينمانا المغاربية والعربية والإفريقية من رجل نبيل أصيل، أن يتركنا أيتاما (نحن من نستلهم سيرته وإنجازاته..)، وأن يقول لنا: أنا أقوى منكم يا مجمع البشر الفانين..
لكننا وبكل ثقة، نرد على الموت، وعلى كل منتصر لثقافة الموت، نحن اللذين نعرف من يكون نجيب عياد، نعرف تاريخه ومعدنه وبصمته الفنية والحياتية، نقول ونؤكد: نجيب لم يمت، ولا يمكن أن يموت، لأنه خالد بإنجازاته وسيرته الإنسانية والفنية، السيرة التي ستبقى مسطرة بمداد من الفخر والإعتزاز في كتاب السينما العربية والعالمية..
عبد الإله الجوهري