خلصنا في الفصل الأول والثاني من هذا الكتاب 1 إلى أن للأساس الفوتوغرافي للفيلم كفايات مميزة، تُحدث تأثيرات فنية هامة كالتمثل والتعبير، والواقعية والأداء الشكلي. لكن هل يمكننا أن نعتبر الشخص الذي يستعمل هذه الكفايات بطريقة إبداعية فنانا سينمائيا؟. أو لنقل، بنوع من التعميم، إن وجود أعمال للفيلم الفني، يقتضي بالضرورة وجود فنانين سينمائيين. فمن هم هؤلاء؟. إذا أخذنا في الاعتبار التعقد التقني، والطبيعة التعاونية المتواترة في صناعة الفيلم، سيكون من الصعب، في الغالب، معرفة لمن تسند المسؤولية والملكية الإبداعية. هكذا تم النظر، تقليديا، إلى مشكلة التأليف الفيلمي، وهو منظور يعكس تأثيرا قديما للنموذج الأدبي على نظرية الفيلم. سنتساءل في هذا الفصل عما إذا كان لبعض الأفلام مؤلفون، وعن الدور الذي يلعبه مؤلف الفيلم في التأويل والنقد. ستعترض محاولتنا مجموعة من الصعوبات، خاصة أثناء التمييز بين مؤلف فعلي – شخص حقيقي يقوم بدور حاسم في بناء الفيلم، وغالبا ما يكون هو المخرج؛ وبين مؤلف ضمني – شخصية متخيلة تبنى في التأويل. وقبل الدخول في معالجة قضية التأليف الفيلمي، علينا أن نرجع إلى التاريخ لنأخذ فكرة عن انبثاق القضية.
طرحت قضية التفكير، في الفيلم، ، تقليديا، من زاوية التأليف أو الإبداع الفردي في فرنسا مع مجلة ” دفاتر السينما” التي شارك في تأسيسها أندري بازان وآخرون سنة 1951. نصّب النقاد، في هذه المجلة، أنفسهم مدافعين عن مقاربة جديدة لصناعة الفيلم تُدرج مقولة “المؤلف”. على رأس هؤلاء النقاد فرانسوا تريفو الذي سيصبح لاحقا من أهم مخرجي الموجة الجديدة، والذي هاجم في عدد يناير 1954 ما كان يعرف بـ ‘تقليد الجودة’ في الصناعة الفيلمية الفرنسية، ويعني اقتباس الكلاسيكيات الأدبية الفرنسية. لقد اعتبر تريفو الأفلام، في هذا التقليد، مجرد اشتقاقات منغلقة وصيغأ أسلوبية نمطية. بل إنها أفلام عاجزة عن استكشاف إمكانيات الفيلم الوسيط. في المقابل، اعتبر مؤلف الفيلم سينمائيا بطبيعته، يحمل علامات السينمائي المبدع والأصيل. لتوضيح هذا المؤلف يشير تريفو إلى مخرجين فرنسيين جان رونوار و روبير بريسون اللذين أبدعا أفلاما فردية مجدِّدة، وبسهولة إبداعية كبيرة، لكونهما اعتمدا على سيناريوهاتهما الخاصة. لكن هذا لا يمنع المخرج من المساهمة في صناعة سينما المؤلف، حتى ولو اشتغل على سيناريو غيره، وداخل نظام الاستوديو المقيد للإبداع، إذا توفرت الرؤية وحسُن التقييم. من هذا المنظور نوه تريفو وغيره من نقاد “دفاتر السينما” بأعمال عدد من مخرجي هوليوود، كـ [ألفريد هيتشكوك، أورسن وايلز، روبرت الدريتش، نيكولاس راي]. في هذا الاتجاه سار الناقد الأمريكي اندريو ساريس، وهو يحاول موضعة أفكار تريفو داخل نظرية النقد؛ بل ذهب إلى حد الادعاء أن مخرجي الاستوديوهات المشتغلين على سيناريوهات غيرهم، هم المرشحون وحدهم للحصول على الوضع الاعتباري للمؤلف.
ترجع هذه الشعبية المفاجئة للفيلم الأمريكي عند النقاد الفرنسيين لما بعد الحرب، في جزء منها، إلى ظروف تاريخية، ترجع إلى مرحلة تحرر فرنسا. حينها غزت باريس كل أفلام هوليود المنتَجة في نهاية الثلاثينات وبداية الأربعينات، والتي كانت ممنوعة إبان الاحتلال. وقد مثلت المشاهدة القوية والكثيفة لعدد كبير من الأفلام تجربة أحادية، جعلت عشاق السينما الفرنسيين يلتقون في الإعجاب باستمرارية الأسلوب، واكتشاف مخرجين كبار من خلال أعمالهم. هكذا يصف بازان في مقال ‘سياسة المؤلفين’ الصادر سنة 1957 بـ دفاتر السينما ، ‘الممارسة النقدية للمؤلف بكونها تركز داخل العمل الفني على العامل الشخصي كمعيار مرجعي، والتسليم باستمراريته، وبل وحتى بتطوره من عمل إلى آخر2’.
لقد كانت أهداف نقاد دفاتر السينما المدافعين على “مؤلف السينما” سجالية أكثر منها نظرية. وكان تريفو ، بالخصوص، يهدف إلى إيجاد موقع للأنواع الجديدة من الأفلام داخل النظام الفرنسي المحافظ والهرمي، ودفعه إلى الاعتراف بالأعمال السينمائية المميزة للفنانين الأفراد. ورغم الطابع السجالي، فقد ألزم تريفو نفسه بعدد من الفرضيات النظرية التي سيتم التعبير عنها من طرف ساريس لاحقا. المشكل، كما سنكتشف، أنه بمجرد ما سيتم توضيح النظرية الكامنة وراء ممارسة المؤلف، سيكون من الصعب تجاهل تناقضاتها وحدودها.
وانطلاقا من اعتقاد ساريس أن الفيلم الجيد، عادة، منتوج لمخرج جيد، فقد عمل على تحديد المعايير الإخراجية التي تشتغل كمعايير نقدية أيضا. ولقد تزامن نقد هذه المعايير مع التحول النظري الواسع تحت تأثير البنيوية والسيميائيات. إذ انطلق الاشتغال من محاولات للملاءمة بين مقولة “المؤلف” وبين تأكيد جديد على بنيات وقوانين لا شخصية، يفترض أنها عابرة لمجموعة من الأفلام. كان المؤلف من زاوية بنيوية أحد هذه المحاولات، إذ افترضت هذه المقاربة، مع ظهورها في أواخر الستينات من القرن العشرين، أن المؤلف بناءً لا واعٍ متضمَّن في عمل مُخرج خاص. في هذا المنظور، لا يمكن للمخرج الفعلي أن يكون مؤلفا، لأن المؤلف وظيفة داخل نوع خاص من التحليل الفيلمي. لهذا التأثير البنيوي نتيجة مباشرة تتمثل في التحول من النظر إلى المؤلف كشخص حقيقي يسمى رونوار أو بريسون، إلى اعتباره بناء نقديا. بالرجوع إلى الدراسات الأدبية، نجد أن الانتقال من البنيوية إلى ما بعد البنيوية أدى إلى النظر إلى المؤلف – الشخص بالكثير من الشك. يتبين ذلك من الاطلاع على أي نظرية أدبية ما بعد بنيوية أو ما بعد حداثية – خاصة أعمال ميشيل فوكو أو رولان بارت – حيث نكتشف أنها ترفض تماما مقولة المؤلف كمبدأ ضابط للتأويل. كان لهذه الفكرة تأثير كبير على نظرية الفيلم. ومع ذلك، لا زال نقاد الفيلم يحيلون على مقولة المؤلف باعتبارها ضرورية، بحيث لا يمكن النظر إلى بعض الأفلام إلا باعتبارها منتوجا لمخطط إبداعي، أو حاملا لتعبير فردي.
لقد أصبح الفلاسفة، أخيرا، مهتمين بغموض مقولة “مؤلف الفيلم”. بحيث يرون أنهم، بصياغة تصور واضح لمقولة مؤلف الفيلم ولدورها في التأويل والنقد، سيتمكنون من إضفاء بعض الشرعية على الاهتمام النقدي المستمر بمقولة المؤلف. لكن هذه ليست مهمة سهلة – كما سنكتشف – خاصة وأن الجدل حول مقولة مؤلف الفيلم تتجاذبه ثلاثة مواقف، تحضر بدرجة متفاوتة عند معظم المنظرين مع تفاوت بينهم في الاهتمام. وهكذا فإن أصحاب المقولة التقليدية للمؤلف يهتمون أكثر بالموقف الثالث؛ والبنيويين يهتمون أكثر بالموقف الثاني؛ أما الفلاسفة المعاصرون فيميلون إلى الموقف الأول. وهذه هي المواقف الثلاثة:
1. الموقف الأنطولوجي ويرى أن كثيرا من الأفلام مؤلفة، يمكن النظر إليها كمنتوج إبداعي لشخص وحيد.
2. الموقف التأويلي ويرى أن أحسن طريقة لفهم الفيلم هي اعتباره منتوجا إبداعيا لشخص وحيد.
3. الموقف التقويمي وفيه يمكن الحكم على الفيلم بكونه جيدا أوسيئا على أساس شهرة مؤلفه أو صراعه الإبداعي.
من أجل الدفاع عن الموقف التأويلي أو الموقف التقويمي، ينبغي أولا افتراض وجود الموقف الأنطولوجي. غير أن هناك صعوبة تواجه هذا الموقف، وتنبثق من كونه مشتقا من الطريقة التي تصنع بها غالبية الأفلام. فإذا كنت ممن يتابعون مشاهدة الجينيريك في نهاية عرض الفيلم، ستعرف بالضبط المساهمين من التقنيين والحرفيين والفنانين في مشروع فيلم معطى. عدد من أصحاب الأدوار في قائمة الجينيريك – من الممثل الرئيسي إلى أصغر عامل – ذوو تخصص عالِ، بحيث يستحيل على شخص مستخدم في المشروع أن يتحكم في تفاصيل سيرورة صناعة الفيلم – حتى لو كان المخرج أو المنتج. ومع ذلك، وبالرغم من معرفتنا بتعقد صناعة الفيلم وطبيعتها التعاونية، فإننا لا زلنا ننسب الفيلم إلى شخص وحيد، وهو المخرج عادة. هل هذا مجرد اختزال تعاقدي أم أنه يعكس بعض الحقيقة حول مقولة مؤلف الفيلم؟. على المدافع على مقولة المؤلف أن يجيب عما إذا كانت مقولة التأليف تصدق على أفلام جماعية الصنع. أي أن الغالبية العظمى من الأفلام تصنع بمساهمة أعمال مجموعة من المتخصصين في كل مرحلة من مراحل الإنتاج – من السيناريست إلى الموضب – فهل لهذه الأفلام مؤلفون؟. هناك إجابات عدة:
1. يمكن أن يكون المخرج هو المؤلف الوحيد للفيلم، نظرا لدوره كمشرف ومنسق لأعمال الآخرين، وكمحدد للقيمة الجمالية للفيلم.
2. يمكن لشخص ( أو شيء) إلى جانب المخرج أن يكون المؤلف الوحيد لنفس السبب، أي لكونه يحدد القيمة الجمالية للفيلم – على سبيل المثال: كاتب السيناريو، النجم، المنتج، بل وحتى الاستوديو-.
3. بالقدر الذي يتعدد فيه المتعاونون الفنانون في مشروع الفيلم، بقدر ما يتعدد المؤلفون في نفس الفيلم.
4. يمكن أن يكون للفيلم مؤلف وحيد، ضمنى، يُبنى للمساعدة على فهم الفيلم.
5. ليس للأفلام مؤلفون. ولا تتحدد قيمتها الجمالية بفاعل منتج، صريح أو ضمني، بل يمكنها أن تحدد بواسطة قوى غير واعية أو بواسطة الجمهور.
سنكتشف لاحقا أن هناك جانبا من الحقيقة في كل واحد من هذه الأجوبة.
من هو مؤلف السينما؟
إن طرح هذا السؤال يجعلنا نعتقد أنه قد تم الحسم في طبيعة المؤلف في الفيلم. أي أن هناك مؤلفا وحيدا للفيلم. قد تكون هناك عدة أسباب تجعل أغلب المنظرين المهتمين بمقولة المؤلف يتبنون هذا الافتراض. وقد ترجع، مثلا، إلى تأثير النموذج الأدبي، وتأكيده على المؤلف الفرد؛ أو إلى تأثير المفهوم الرومنسي للفنانين كأرواح فردية معذبة تتغيى التعبير الشخصي. ومهما يكن، فإن هناك تحديا قويا يواجه فرضية المؤلف الوحيد، والتي سنعالجها من منظور فيلسوف معاصر، بيريس غوت. قبل القيام بذلك، دعنا ننظر إلى الإجابة الأكثر شيوعا حول سؤال البداية، والتي تؤكد على أنه إذا كان للفيلم مؤلف، فسيكون هو المخرج حصريا.
من السهل أن نفهم ما يجعل هذه الإجابة شائعة. ذلك أنه من العادة لدى المتتبعين العادين أن يتم تحديد الفيلم بمخرجه. كأنْ نتحدث مثلا عن مشاهدة العمل الأخير لـ سكورسيس أو نعجب بعمل أنج لي. كما أنه من الممارسات المعتادة أيضا أن يصف النقاد نوعا خاصا من المخرجين بالمؤلف، والذي يعترف له بنسب كل أعماله إليه. مهما يكن، وفضلا عن فرضية المؤلف الوحيد، تضاف فرضية ثانية حاسمة تدعم كون المخرج هو مؤلف الفيلم، وتتمثل في اعتبار المؤلف السينمائي شخصا حقيقيا. غير أن الاطلاع السريع على تاريخ مقولة التأليف في الدراسات الفيلمية، يبين أنه قد وقع انتقال من التفكير في المؤلف كشخص حقيقي نحو التفكير فيه كبناء تأويلي نتيجة لتأثير البنيوية والسيميائيات.
يرجع أحد أسباب الحذر من جعل المؤلف شخصا حقيقيا، إلى فرضية المؤلف الوحيد. إذا كان هناك شخص متردد في اختيار واحد من مجموع المتعاونين العاملين في مشروع فيلم باعتباره مؤلفا للفيلم، وكان، مع ذلك، يقبل إمكانية أن يكون للفيلم مؤلف واحد، فإنه يميل إلى فكرة بناء مؤلف وحيد مناسب من أجل فيلم تعاوني موحد. هناك أسباب أخرى لتبني النظرة البنائية لمقولة المؤلف ترتبط بالتزامات نظرية خاصة. سنرى، مثلا، أن التزام بيتر ولون بالتحليل البنيوي سيقوده إلى تحديد الانشغالات اللاواعية للمخرج، كما تتجلى في جسد العمل، مع مؤلف ضمني. كما أن تأثير النظرية الأدبية ما بعد الحداثية، جعل بعض منظري الفيلم ينظرون إلى المؤلف باعتباره موقفا ذاتيا من بين مواقف أخرى، يرتبط مع ‘قراءة’ ‘النص’ الفيلمي.
لكن، يبدو أننا تسرعنا قليلا. لأنه علينا أن نتأكد من معرفتنا بماهية دور المؤلف قبْل أن نهتم بمن يحتل هذا الدور في الفيلم. بعبارة أخرى، علينا أن نملك تصورا صلبا لمقولة المؤلف، يتماشى مع الاستعمال العادي للمصطلح ومع استعماله في الخطاب حول الفنون. سنقارن لاحقا بين تصورين نظريين للمؤلف: التصور الواقعي ( بيزلي ليفينغسطون) والتصور البنائي ( الكسندر نيهاماس) أوالمتعالي كما يحب أن يسميه.
بالرجوع إلى قاموس اكسفورد الإنجليزي من أجل التحديد العام لمقولة المؤلف، نجد أنه ” الشخص الذي ينشئ أو يعطي الوجود لشيء معين”. من هذا التحديد يمكن للمؤلف أن يكون مخترعا، بنّاء أو مؤسسا، مسبب الأحداث، محفزا أو محركا، سلطة أو مخبرا، ملحنا أو كاتبا، مخرجا، سيدا أو حاكما، بل وحتى ‘موّلِّدا’. وبعبارة أخرى الأب أو السلف. في الخطاب حول الفنون، يعتبر المؤلف هو مبدع العمل الأدبي في المقام الأول. كما يطلق وصف المؤلفين على المهندسين المعماريين والملحنين أحيانا، أو على السلطة الإبداعية الكامنة وراء المشاريع الفنية عالية المستوى كسقف كنيسة سيكستين. لكن المؤلف الأدبي يظل هو النموذج. صحيح أنه حتى خارج الخطاب حول الفن، يكون هذا النوع من المؤلفين هو أول ما يتبادر إلى الذهن عند الكثيرين.
إذا حاولنا تطبيق المفهوم الدبي لمقولة المؤلف على الفيلم، علينا أن نعرف مدى ترابط المفهوم الأدبي مع مفهوم اللغة الطبيعية المركبة. في الماضي، انجذب منظرو الأدب، لغايات خاصة، إلى استعمال مشروط لمصطلح “مؤلف”. يشير فيلسوف معاصر، ليفينسطون، في إحالة خاصة على ميشيل فوكو، إلى إن الاستعمال المشروط لن يساعدنا على إعطاء معنى للكيفية التي فكرنا بها سابقا في مقولة المؤلف. من هنا يلجأ ليفنستون إلى التحليل التداولي للمصطلح، كوسيلة للإسناد، من أجل تأسيس السياق الاجتماعي والثقافي، أو الهدف الخاص للنقد والاستجابة؛ وتكون النتيجة هي تحديد ‘مؤقت’ لمقولة ‘المؤلف’ كـ ‘مصطلح فني’ يتزامن مع الاستعمال العادي للمصطلح ويساعد على إزالة غموضه. إن المؤلف حسب ليفينغسطون، ‘ شخص ينتح عبارة عن قصد، بحيث يكون إنتاج العبارة عملا وظيفته المقصودة هي التعبير أو التواصل3’
لكي يكون العمل عبارة، يجب أن يكون القصد منه التعبير أو إيصال موقف: رغبة أو اعتقادا أو نية. إن التحكم في العبارة وتحمل مسؤوليته عاملان كافيان لإيجاد المؤلف، حتى لو كان جل العبارة ساذجا أو صيغا نمطية أو فاقدا للخيال. لكي يكون الشخص مؤلفا لعبارة مثل ‘صباح الخير’، فإنه لا يحتاج إلى أن يخترع الجملة أو الوظيفة التي تؤديها؛ بل ينطق العبارة قصديا دونما حاجة إلى تشاور؛ وحين يفعل ذلك على هذا النحو، فإنه يمارس كفايته اللغوية والاجتماعية4. من هنا يكون التأليف في منظور ليفينغسطون إذن نتيجة لكوننا كائنات خطابية واجتماعية وعقلانية؛ إنها جزء من نسقنا التداولي، الذي يمثل خطاطة للتفاعل عميقة الجذور، ثمينة وضرورية بدون شك. بل إنها الخطاطة التي نطبقها في الحديث عن الفن بكيفية متواترة5.
بالرغم من كون ليفنغسطون لم ينظر إلى هذه الإمكانية في حالة فيلم الاستوديو، فإن تعريفه يسمح بأن يكون لعبارة واحدة عدد من المؤلفين – يقدم كمثال جون وماري اللذين يرسلان معا رسالة فيديو إلى أبويهما، مع الأخبار ومتمنيات العطلة6. لكي يكون جون وماري مؤلفا مشتركا عليهما أن يهدفا معا إلى التعبير عن موقفهما في الرسالة – إنهما في هذا المثال غير مجبرين على قول أشياء لا يقصدانها. وبالرغم من كونهما لا يعرفان بالضبط ما سيقوله الآخر أثناء الكتابة، فإن بعضهما يعرف أن الآخر ملتزم بنفس المشروع المشترك7. ينفع هذا المثال أيضا في إجلاء حقيقة كون العبارة لا تحتاج إلى أن تكون لسانية. هناك عدة أنواع مختلفة من الأفعال التواصلية والتعبيرية مؤلَّفة – كما هو الشأن بالنسبة لمنتوجات هذه العمليات – الفيلم مثلا –لأنها حددت بالإحالة إلى الخصائص الواردة في سياق الإنتاج8.
في الوقت الذي يقدم لنا ليفينغسطون تفسيرا عاما للمؤلف الفعلي، والذي سيطبقه بنفسه على الفيلم لاحقا، يقدم نيهاماس تفسيرا أدبيا خالصا لمؤلف ضمني، وعلينا تطبيقه على الفيلم. على الرغم من الاختلافات يشترك هذان التفسيران في التأكيد على الفعل والقصد. حين نبني مؤلفا من أجل عمل أدبي، حسب نيهاماس، فإننا نفكر فيه كمنتوج لعمل يكتسب معناه من تصورنا لدافعه الممكن، والمؤلف هو من يملك هذا الفعل الافتراضي الكامن خلف العمل. يختلف معنى امتلاك شخص لفعل كثيرا عن معنى امتلاك زوجي حذاء أو سيارة: لا يمكن للشخص أن ينفصل عن عمله، فالوكيل والوكالة يحددان بعضهما البعض. هذا يساعد على تفسير الدافع الذي جعل نيهاماس يؤول ملكية المؤلف للفعل المؤدي إلى العمل الأدبي، بحيث يكون المؤلف جزءا من هذا العمل.
إننا -حسب نيهاماس- حين نؤول نصا كعمل خاص، نبدع السياق الذي يجعل هذا النص قادرا على الامتداد بقدر ما تسمح الفائدة. إذا كنت تحاول معرفة سبب قيام أحدهم بفعل معين – الاعتراف بقتل حبيبته – يمكن أن تقف عند السبب المباشر – اكتشاف القاتل لخيانة حبيبته، أو يمكنك أن تبحث عن أسباب أخرى بعيدة؛ لأن القتل، في النهاية، ليس هو الطريقة الوحيدة للتعامل مع اكتشاف الخيانة. لماذا يقوم العاشق الغيور بالقتل عوض الاقتصار على كسر أو رمي الأشياء أو إنهاء العلاقة؟. بعبارة أخرى، لماذا هذه الاستجابة الوحيدة؟. للإجابة على هذا السؤال، سيكون عليك أن تعمق البحث في تجارب أخرى من ماضي العاشق الغيور، وفي انتظاراته وميولاته النفسية العامة. هذا يقتضي توسيع السياق التفسيري للفعل. هذا بالنسبة لـ نيهاماس، هو فقط ما نقوم به في التأويل، أي الفهم بمعنى التمديد وليس بالمعنى الخفي والعميق. الفرق الوحيد في مجال التأويل هو أننا لا نستطيع استجواب الفاعل الذي نحاول فهم فعله. بدلا من ذلك، نتخيل ما سيكون عليه الفاعل للقيام بالفعل الخاص الذي يقود إلى العمل الأدبي.
يمكننا، لحسن الحظ، أن نسترشد بمعرفة الشخص التاريخي الحالي الذي كتبت النص الذي نحن بصدد تأويله. يرى نيهاماس أن المؤلف يمكن أن يعتبر متغيرا تاريخيا معقولا للكاتب، أو شخصية كان يمكن للكاتب أن يكونها، أو فردا يعني ما كان يمكن للكاتب أن يعنيه، غير أنه لم يعنه مطلقا. الكاتب كشخص حقيقي لا يمكنه التحكم في كتابته، ولا يدرك كل خصائصها. لكن المؤلف المنتوج بواسطة الكاتب والنص، بواسطة العمل والنقد، ليس شخصا. إنه شخصية تمثل أي شيء يظهره النص، وهي، بالمقابل، المحدد لما يظهره النص9. لن نذهب، إذن، إلى تصور نص قروسطي مكتوب من طرف راهب قروسطي باعتباره مؤلفا معاصرا. سنقوم بالتفكير في العمل في علاقته بأعمال قروسطية أخرى وبناء مؤلف مناسب وبدافع قروسطي. هذه العملية مفتوحة، بحيث يمكننا القيام بالمقارنة بين عمل وأعمال أخرى، وتعقيد السياق التفسيري لنشاط المؤلف.
لدينا الآن مفهومان شديدا الاختلاف لمقولة المؤلف. التصور التداولي لـ ليفينغسطون الذي ينظر إلى المؤلف كشخص حقيقي ينجز عبارات، وتصور ىيهاماس المتعالي الذي يعتبر المؤلف بناء يتولد بواسطة التأويل الأدبي ومن خلاله. السؤال الموالي يتعلق بما إذا كنا قادرين على تطبيق تصور أو التصورين معا على الفيلم. في الفقرة الموالية، سنفحص استعمال ليفينغسطون لنسخة معدلة من تصوره للإشارة إلى أن لبعض الأفلام جماعية الصنع مؤلفا واحدا. ثم سنتطرق إلى الطريقة التي بني بها المؤلف البنيوي من طرف بيتر وُولن، من خلال تأويله لمجموعة من الأفلام لمخرجين معينين.
هل للأفلام مؤلفون؟
سننطلق في تبني مفهوم ليفينغسطون الواسع لمقولة المؤلف من أجل الفيلم بتعويض ” العبارة” ب” العبارة السينمائية”. يقترح ليفينغسطون أن العبارة تكون سينمائية فقط في حالة استخدام الفاعل أو الفاعلين للوسائل الفوتوغرافية ( وغيرها) لخلق صور متحركة تعرض على الشاشة ( أو عارض آخر)10.
السؤال الآن هو معرفة ما إذا كانت هناك أفلام جماعية الصنع يمكن اعتبارها عبارات فيلمية، مؤلَّفة. يستعمل ليفينغسطون مجموعات من الحالات الحقيقية أو المتخيلة لإظهار أن هناك، في منظوره، أفلاما جماعية الصنع،غير مؤلفة بشكل واضح، وأفلاما مؤلفة إلى درجة معينة، و أفلاما مؤلفة بنجاح تام. تكشف هذه الحالات في نهاية المطاف على معيارين للتأليف التام: التحكم الفعال في التقطيع النهائي، ما دام التقطيع النهائي هو وسيلة المؤلف السينمائي لإظهار بعض المواقف؛ والامتلاك الذهني لبعض المواقف الخاصة لإظهار التقطيع النهائي. يقتضي هذا النوع من التحكم الذي يفرضه مؤلف الفيلم، إذن، امتلاك ووجود القدرة على تفعيل نوع من التصميم الإبداعي. وبالقدر الذي يكون فيه التصميم أو تنفيذه قائمين على توافق جزئي، يكون الفيلم مؤلفا جزئيا فقط. وبالرغم من إمكانية تحقق هذا وفق شروط الاستوديو، يبقى التأليف التام إمكانية جد حقيقية – كما بين ذلك ليفينغسطون في حالة فيلم ‘ضوء الشتاء’ (1962)’ لـ إينغمار بيرغمان.
أثناء إخراجه لفيلم ‘ضوء الشتاء’، كان بيرغمان يتدخل بحسم في كل المراحل. لقد كتب سيناريوه الخاص، وقام باختيار بعض الممثلين وتدريبهم، وراقب المونطاج والميكساج، واشتغل عن قرب مع التقنيين السينمائيين. لقد مارس أيضا أعلى مستوى من التحكم في اختيار فضاءات التصوير والأكسسوارات والماكياج. حتى تلك العناصر في الفيلم التي لم يتمكن من إبداعها بنفسه – كموسيقى باخ – تملَّكها من أجل غاية خاصة. لم يكن بيرغمان في أي لحظة من لحظات الإنتاج مرغما على تغيير تصميمه الإبداعي. لتوضيح التوازن الذي حققه بيرغمان بين التحكم والتعاون، يقارنه ليفينغسطون برئيس مشروع البناء. وكما هو الشأن بالنسبة لرئيس الأشغال الذي يتحدث إلى فريقه عن تصميم البناء، ثم يكلف كل واحد بإنجاز مهامه تحت إدارته، يقتسم بيرغمان رؤيته الفنيه مع مساعديه من أجل تقييد وتنسيق أدوارهم الخاصة11.
حين يدعي ليفيىغستون وجود مؤلف وحيد عند بيرغمان، فإنه لا يغفل وجود عدد من الأشخاص الموهوبين المشتغلين في الفيلم نفسه. غير أن ما يقصده هو أن المساعدين الآخرين اشتغلوا لصناعة فيلم بيرغمان، لإنجاز رؤيته الفنية. يقصد، بعبارة أخرى، أن المساهمة الفنية في مشروع، لا تجعل صاحبها مؤلفا مشتركا، ما لم يمارس تحكما حاسما في العملية الإبداعية، وما لم يكن مسؤولا عنها12. ومع ذلك، فهذا التمييز بين المساهم الفني غير المتحكم وبين المؤلف لا يحظى باعتراف الجميع. فـ غوت، على الخصوص، يعتبر ‘كل شخص قام بإحداث تغيير فني هام على العمل’ مستحقا بالمشاركة في ملكيته. في التشكيل، من الشائع الآن وصف العمل، ليس فقط بالإشارة إلى الفنان، رامبدنت مثلا، بل بالإشارة إلى محترف الفنان أيضا. وبالرغم من وجود التعاون في العديد من الفنون، فإن غوت يذهب إلى التركيز على أن الآثار الفنية للتعاون في الفيلم أكثر بروزا13.
لنقارن بين الفيلم وبين الهندسة المعمارية: حين نقول إن البناية من إبداع فرانك غهري، فإننا نعني أن غهري هو المؤلف الوحيد، وإن لم يساهم في إنجاز البناية الحقيقية. البناء ليس مؤلفا مشتركا لأن عمله يقتصر فقط على إنجاز تصميم غهري. وحين يحدد المهندس الأبعاد الدقيقة لبنايته، والمعدات الدقيقة التي ستستعمل في بنائها، يترك الفيلم أن يترك لمساعديه إمكانية اتخاذ قرار كيفية تنفيذ المهام الموكولة إليهم. هناك فقط بعدان ممكنان للتغيرات في الكيفية التي تنجز بها المهام؛ و لا يمكن عمليا، لشخص وحيد أن يعطي تعليمات إخراجية دقيقة كفاية للتلاؤم مع كل التغيرات الممكنة. تتضح هذه النقطة جيدا في أداء الممثلين: مهما كان عدد التعليمات الإخراجية، فإنه لا يستطيع التحكم بدقة في الكيفية التي ينطق بها الممثل حواره، والفروق الدقيقة للانفعال والمعنى الذي تحمله. لا يمكن للمخرج ببساطة أن يحرك الممثلين كالدمى من أجل تحقيق رؤيته الفنية، بل يمكن لأداء الممثل أن يساهم بقوة في القيمة الجمالية للفيلم، ولنأحذ مثلا الأداء المميز لـ دانيال داي لويس في فيلم ” سيكون هناك دم” (2008). يستنتج غوت أن بعض الممثلين، على الأقل، مؤلفون مشتركون إلى جانب المخرج14.
في المقابل، لا يصدق نفس الشيء على ممثل المسرح. يشير غوت إلى فرق أنطولوجي جوهري بين الفيلم، كفن تسجيلي سمعي بصري، وبين المسرح كفن أدبي، وهذا يفسر لماذا لا يكون الممثل المسرحي عادة مؤلفا مشتركا للمسرحية التي يمثل فيها. ما دامت المسرحية تكتسب فرديتها من النص المسرحي، فإن الكاتب المسرحي يحدد دقائق الشخصيات قبل أن تجسّد من طرف مختلف الممثلين. لا شك أن التجسيد الأول لشخصية عطيل من طرف الممثل الشهير لعصر النهضة، ريتشارد بورباج، يختلف كثيرا عن التجسيد الشهير في بداية القرن العشرين من طرف بول روبسون. لكن يبقى أن كلا الممثليْن قاما بتجسيد نفس الشخصية من مسرحية شكسبير. في المقابل، لا يمكن أن تحدد شخصية الفيلم، كليا، من طرف كاتب السيناريو أو المخرج قبل أن يتم تجسيدها من طرف الممثل على الكاميرا. يرجع هذا إلى أن الأداء المسجل جزء مما يجعل من الفيلم فيلما؛ أي سلسلة من الصور المتحركة، مصحوبة بالأصوات (في الغالب). ما دام الفيلم لا يمكن أن ينجز، بل إنه يتضمن بالأحرى إنجازات مسجلة؛ وما دام الممثلون يقدمون إنجازات تصير، بعد التسجيل، جزءا من الفيلم كموضوع للتذوق الجمالي، فإن غوت يدافع على أن الممثلين نوع من المتعاونين في الفيلم، الجديرين بالمطالبة بصفة المؤلف.
في الوقت الذي يذهب غوت إلى اعتبار مؤلف الفيلم أي شخص يلعب في إنتاج الفيلم دورا مؤثرا جماليا، يقتصر ليفينغسطون فقط على اعتبار مؤلف الفيلم شخصا، يجعل الفيلم حاملا مباشرا وشخصيا للتعبير. يعني هذا، إجمالا، أن غوت سيعتبر عددا أكبر من الأفلام الجماعية الصنع مؤلفةً، بخلاف ليفينغسطون. لكن الأفلام ذات المؤلف الواحد الفعلي ستكون عنده أقل بكثير مما هي عند ليفينغسطون.
في حالة إنتاج فيلم الأستوديو واسع النطاق، بل وحتى في حالة الإنتاج التجريبي أو الهاوي أو المستقل ضيق النطاق، يمكن للفرد التخلي عن محاولة تحديد مؤلف فعلي وفردي للفيلم، ويعمل، بدلا من ذلك، على بناء مؤلف يساعد على التأويل. لكن هل يمكننا فعل هذا؟ هل يمكن أن نبني، بوضوح ونفعية، مؤلفا وحيدا لفيلم منتج بتعاون كامل، بالطريقة التي اقترحها نيهاماس لبناء مؤلف وحيد للعمل الأدبي؟ للإجابة على هذا السؤال علينا تقويم الشكل الذي اتخذته الاستراتيجية البنائية في نظرية الفيلم. ثم ننظر في بعض الاعتراضات العامة على الاستراتيجية البنائية.
في نهاية الستينات من القرن العشرين، وتحت تأثير ليفي ستراوس، الأنثربولوجي البنيوي الفرنسي، طوّر مجموعة من منظري الفيلم البريطانيين مقاربة جديدة لتأويل الفيلم، أطلق عليها المؤلف البنيوي. يعتبر المؤلف في هذه المقاربة منتوجا ومجالا للتحليل البنيوي في نفس الآن. في نموذج ليفي ستراوس يقوم التحليل البنيوي على رصد التعبيرات الثقافية المركبة للثنائيات الضدية المتنوعة التي تُبنين تفكيرنا. تطبيقا لهذا النموذج على الفيلم، حاول أصحاب مفهوم “المؤلف البنيوي” تحديد عناصر الثنائيات الأساس التي تميز جسم العمل، وتتعقب تطور تعبيره. الطريقة التي يدخل بها “المؤلف البنيوي” إلى هذه المقاربة تتمثل في كونه مصدرا لبنية التفكير المعبر عنها في بنية مجموعة معينة من الأفلام. وتبعا لواحد من رواد المؤلف البنيوي، بيتر وولن، يتحدد المؤلف في ‘ اللاوعي الفيلمي’ أو في التعبير عنه في البنية التيماتية الثنائية للفيلم. وإذن، فالتقابلات الأساسية بين الحديقة والبرية، وبين الطبيعة والثقافة التي تميز الأفلام المنجزة من طرف جون فورد، هي التي تنسب إليه صفة المؤلف، أي إلى العقل المبدع وليس إلى الشخص الفعلي، فورد، ما دامت علاقته مع الفيلم تتم عبر وساطة أعمال متعاونين آخرين15.
إن مقاربة المؤلف البنيوي، حسب وولن، تقوي عددا من الأحكام المشتركة حول عمل مختلف المخرجين. ولا يفسر الاهتمام النقدي الواسع بأفلام فورد إلا غِناها وتعقدها، على مستوى التحليل البنيوي. يعني هذا، في المقابل، أن قيمة فيلم ك (الباحثون 1956) ترتبط بقدرته على إعادة هيكلة الثقافة والتفكير. هكذا يخلص وولن إلى أن العمل القيم، أو القوي على الأقل، هو الذي يتحدى السَّنَن، ويتجاوز الطرق القائمة للقراءة والمشاهدة، ليس من أجل إنشاء طرق جديدة فحسب، بل لخلق حوار مستمر منتج ومنظم16.
نعود الآن إلى السؤال حول ما يجعل الفيلم جيدا أو رديئا بالنسبة للمهتم بالتأليف في الفصل الموالي، حيث سنفحص طبيعة ما يسمى بـ “السَّنن” السينمائي. علينا أن نفحص في البداية ما إذا كانت الاستراتيجية العامة الخلفية للمؤلف البنيوي استراتيجيةً جيدة. (استراتيجية بناء المؤلف كجزء من تأويل الفيلم). يرجع السبب الذي يجعلنا نقوِّم الاستراتيجية العامة، وليس تفاصيل المؤلف البنيوي، يرجع إلى أن هذا الأخير، لا يمثل في تاريخ نظرية الفيلم، أكثر من قنطرة مؤقتة بين منهجيتين متقابلتين. ذلك أن انجراف مقولة مؤلف الفيلم مع موجة ما بعد الحداثة، أدت إلى التخلي عن مقولة المؤلف البنيوي قبل أن يتم تطويرها بالكامل.
لنرجع إلى سؤال أكثر عمومية: هل يمكننا بناء مؤلف الفيلم بالفعل؟ يقترح نيهاماس أن القيام بهذا الشيء، في التأويل الأدبي، يأتي كنتيجة حتمية لتفسير النص باعتباره عملا – نتيجةَ فعل متخيل. لكن ماذا عن تأويل الفيلم؟. هل هي أيضا نفس الحالة التي نتمكن فيها من تفسير فيلم بافتراض صانع متخيل للفيلم، يحركه دافعٌ خاص؟. يرجعنا هذا مرة أخرى إلى الوراء، ليضعنا امام طبيعة صناعة الفيلم التعاونية والمعقدة جدا. حتى وإن كنا لا نعرف الشيء الكثير عن صناعة الفيلم، فإن الفيلم نفسه يظهر، بفضل التركيب المتنوع لعناصره البصرية والسمعية، جانبا من ضخامة مهمة إبداعه. لكن إذا كان لنا علم بالأصول التعاونية للفيلم، سيكون من الصعب وغير المجدي أن نسند العمل النهائي إلى مؤلف وحيد متخيل. سيكون علينا أن ننسب إلى هذا المؤلف المسؤولية عن كل جانب من الفيلم من تسجيله الموسيقي إلى إضاءته وجوانبه السينمائية، بل وحتى أداء الممثلين. بعد ذلك سيكون علينا، كما يقترح غوت، أن نتعامل مع هذا الكائن الفضائي الذي يملك قدرات خارقة، كالقدرة على التحكم في الممثلين كَدُمى، ويخطط في نفس الوقت لكل حركات الكاميرا، مما يجعلنا غير قادرين على فهم دافعه كمؤلف. وتبعا لـ نيهاماس، فإن الهدف الأكبر من بناء المؤلف هو تفسير العمل كمنتوج لفعل خاص، يُنسب إلى فاعل من نوع خاص، يملك دافعا خاصا.
يمكن للصعوبة في تصور مؤلف وحيد وضمني لفيلم جماعي الصنع، أن تفسر الغموض في تصور وولن للمؤلف باعتباره ‘محفزا لا واعيا’، على أساسه تسمى البنية المحددة لمجموعة من الأفلام. صحيح أنه من الصعب إدراك ما يجعل وولن منزعجا، كليا، من المؤلف على الإطلاق، إذا كان يهتم بالسَّنن وبالبنيات. أما غوت، فيبقى ، مع ذلك حساسا للطريقة التي توجه تأويل الفيلم، اعتمادا على علامات للذكاء الإبداعي في العمل نفسه، غير أنه يؤكد على أن هذه العلامات لا تحتاج إلى أن تكون لمؤلف وحيد؛ بل يمكنها أن تكون علامات لمؤلفين متعددين باعتبارهم تنسيقا لأنشطتهم الإبداعية بكثير أو قليل من النجاح، وفي فيلم أكثر أو أقل تماسكا.
حتى لو كان من الصعب، في حالة فيلم الأستوديو، تخيل مؤلف وحيد، فإن منهج التأويل المتضمن لبناء المؤلفين يظل مسموحا به عند غوت. من جانب آخر، لا يبدي غوت اهتماما كبيرا باعتماد هذا المنهج: سواء في حالة وجود مؤلف فعلي للفيلم، حيث لا حاجة إلى بناء مؤلف؛ أو في حالة عدم وجود مؤلف فعلي، وإذن سيكون من التضليل أن نتخيل وجوده.
المؤلف كأساس لنقد الفيلم
على عكس البنائيين، لا يعتبر ليفينغسطون تحديد المؤلف كجزء أساسي ولا يتجزأ من تأويل الفيلم. بل يمكننا فقط أن نقرر، حسب كل حالة، ما إذا كانت المواقف المعبر عنها قابلة، لأن تعتبر نتائج مقصودة لأنشطة مؤلف فعلي. يتطلب منا هذا، بطبيعة الحال، أن نعرف أكثر حول الكيفية التي صنع بها الفيلم، ونعرف أن العديد من المشاهدين العاديين لا يبحثون عن هذا النوع من المعلومات قبل مشاهدة الفيلم. لكن ليفينغسطون يلح على أن هذا لا يجعل هذه المعلومات أقل قيمة في التأويل. كل تأويل نمنحه للفيلم يجب أن يكون متطابقا مع الخصائص المميزة للفيلم، وأن تكون هذه الخصائص مرتبطة بـ’التاريخ السببي’ للفيلم17. ومع ذلك، فسيكون ليفينغسطون أول من قبِل أن تكون الخصائص السببية تعيبرا عن ملامح المؤلف، بالنسبة لبعض الأفلام فقط. لم يحدد الاختلافات في تحليل الأفلام مع وجود المؤلفين أو عدم وجودهم. وبالرغم من أن مثال بيرغمان (ضوء الشتاء) يشير إلى أن هناك ارتباطا بين قيمة فيلم وبين امتلاكه لرؤية المؤلف، فإن ليفينغسطون لم يطور نظرية المؤلف كأساس لنقد الفيلم. على النقيض، فقد كان هذا بالضبط، بالنسبة للمهتمين التقليديين بالمؤلف، هو الهدف من الخطوة الأولى لتحديد المؤلف الفعلي للفيلم.
لقد تم نقل فكرة نقاد في ‘دفاتر السينما’، خاصة فرانسوا تريفو، – القائلة بوجود أنواع من صانعي الأفلام يصنعون حقا أفلاما معبرة سينمائيا وشخصيا – إلى الولايات المتحدة الأمريكية في بداية الستينات من القرن العشرين، مع أندرو ساريس. وباحتفاظه على لفظة ‘المؤلف’ كعنوان لهذا النوع من المخرجين يصوغ ساريس مبادئ واضحة لنقد الفيلم على أساس المؤلف. كان على هذه النظرية أن تطبق على السينما الأمريكية، والتي استقرت كليا تقريبا في هوليود من الحرب العالمية الأولى. هروبا من عتامة النقد لأفلام الترفيه في هوليود من طرف نقاد الفن الأروبيين، يرى ساريس أن نظرية المؤلف وسيلة للرفع من مستوى المخرجين الأمريكيين، والاحتفاء بالتقليد الغني للفيلم الأمريكي. وباعتبارها مقاربة أكثر علمية مقارنة مع المخاطر الذاتية للنقد الصحفي الانطباعي والإيديولوجي، رأى ساريس في نظرية المؤلف طريقة لمأسسة دراسة الفيلم في أمريكا الشمالية18. في الوقت الذي يعترف فيه بوجود المؤلفين الأوروبيين والأسيويين، يعيد للمخرج الأمريكي اعتباره كشخص من رعاة البقر، منخرط في صراع إبداعي بطولي ضد الآلات القمعية لنظام الأستوديو الهوليودي. ومن بين رعاة البقر البارزين يوجد راوول والاش، هاوارد هاوكس, و جون فورد. فالمخرج الجيد، عند ساريس، يصنع أفلاما جيدة بانتصاره في التحدي ضد النظام. ومهمة الناقد تتجلى في تحديد علامات التحدي الناجح عبر جسد عمل المخرج.
يبحث الناقد، بالخصوص، على ثلاثة أشياء: علامات الكفاءة التقنية للمخرج، العلامات الدالة على شخصية المخرج، وعلامات الإبداع لما يسميه ساريس ‘المعنى الداخلي’. ومادام المخرج الهوليودي يشتغل عادة على سيناريو شخص آخر، فإن شخصيته لا تنبثق من موضوع فيلمه، وإنما من معالجته لأدوات عمله. ومن التوتر الحتمي المتواصل بين أدوات الفيلم وبين شخصية المخرج يتولد المعنى الداخلي. وبالرغم من افتراض أن يكون المعنى الداخلي هو العلامة العليا لقيمة الفيلم، فإن ساريس يعترف بصعوبة تعريفها بالضبط. ذلك لأن المعنى الداخلي متجذر في جوهر السينما، ولا يمكن أن يعبر عنه بمصطلحات غير سينمائية. كل ما يمكننا القيام به هو الإشارة، في أفلام معينة، إلى اللحظات التي ننقاد فيها نحو معرفة المعنى الداخلي. والمثير للاستعراب أن المثال الذي يقدمه ساريس غير مستمد من فيلم أمريكي: إذ يأخذ من فيلم “قواعد اللعب” (1939) لـ مشهدا خاصا، حيث يتوقف أوكتاف (يلعبه المخرج جان رونوار ) في رحلته البطئية نحو مخدع البطلة. يلاحظ ساريس، أنه إذا كنت أستطيع وصف جمال النغمة الموسيقية في هذه الوقفة المؤقتة، أولا أستطيع، سأكون قادرا على تقديم تحديد أكثر دقة لنظرية المؤلف19. كلما كنا أكثر قربا في دراستنا لجسد الفيلم، ومقاربة أفلام لنفس المخرج، كلما ازداد حضور لحظات التعبير عن الشخصية والمعنى الداخلي. بعبارة أخرى، سنلاحظ استمرارية أسلوبية كبيرة عبر جسد العمل، وذلك من خلال الاستعمال المتكرر لجهاز سردي خاص؛ وسنحصل على إحساس قوي بحساسية ونظرة المخرج الخاصة. تستمد نجاحات نظرية المؤلف من الاكتشافات المدهشة التي يمكن أن يقدمها الناقد من خلال تحليله المقارن. في نهاية المطاف، يبدو أن ساريس يقدم مقاربته النقدية كوسيلة لاستنباط الكثير من مشاهدة أفلام الاستوديو. لكن هل تملك المقاربة تماسكا داخليا وحدسا معقولا؟ ذلك سؤال آخر.
طرح هذا السؤال بالكثير من الشدة من طرف بولين كايل، وهي ناقدة أمريكية معاصرة لـ ساريس. فهي لا تبدل أي مجهود لإخفاء سخريتها من نظرية المزلف، بل وتضحي بالحجاج المنطقي لفائدة جواب ظريف. ومع ذلك، تقدم اعتراضات هامة لمعايير ساريس التقويمية20. فالكفاية التقنية، حسب كايل، لا يمكن أن تكون شرطا ضروريا للإخراج الجيد، لأن هناك مخرجين يستمدون عظمتهم من قدرتهم الإبداعية، في غياب الكفاية التقنية – النموذج هو المخرج الإيطالي مايكل أنجلو أنطونيوني. نفس الشيء بالنسبة للتعبير عن الشخصية في معالجة الأدوات، فهي ليست فقط عديمة الجدوى من أجل فيلم جيد، بل يمكن أن تؤدي إلى فيلم رديء. يرجع هذا إلى أننا نميل غالبا إلى ملاحظة شخصية المخرج في أفلامه السيئة، تلك التي تعيد استعمال أجهزة فعلية خاصة، والتي تميز أسلوبه.إن نظرية المؤلف، وهي تجمع بين وحدة الأسلوب والتعبير عن الشخصية، تنتهي إلى الاحتفاء، ليس بالأصالة الفنية، وإنما بترسيخ مجموعة من الحيل للتلاعب بالجمهور21.
أخيرا، تعتبر كايل المعنى الداخلي الختم النهائي للمؤلف، وتقرر أنه وهمي. لأنه من النادر، من جهة، العثور على ذلك النوع من التوتر المقترض فيه إنتاج المعنى الداخلي، وأي مخرج تجاري كفء ينجز أحسن ما يستطيعه، بالعمل بما يحصل عليه من أدوات. حتى لو وجد توتر في الفيلم، تتساءل كايل ‘ فأي نوع من المعنى يمكن استخراجه منه، غير أن المخرج يعاني من أدوات رديئة أو أدوات لا تعجبه22. البحث عن المعنى الداخلي ليس إلا عذرا من نقد المؤلف من أجل تكرار مشاهدة أفلام رديئة، أفلام لا تظهر سوى التوتر المطلوب ورصد وحدة الشكل والمحتوى.
يستمد هجوم كايل على ساريس قوته من اقتناعها بأن نظرية المؤلف تخرق أخلاقيات النقد. وتفعل ذلك، حسب كايل، بتشجيع فيلم عَرَضي رديء لمخرج مُفضل، وممارسة الرقابة على فيلم عرضي جيد لمخرج مغمور، والنظر بارتياب إلى أي مخرج يستعمل أدواته الخاصة. هكذا، وبالرغم من حدة النقد، ينبهنا تحليل كايل إلى خطر أن تتحول نظرية النقد المؤسسة على المؤلف إلى مجرد عبادة للشخصية. من كل ما رأينا في هذا الفصل، يمكن أن نتجنب هذا الخطر بطريقتين على الأقل: بالإحالة إلى المؤلف الفرد الضمني عوض المؤلف الفعلي، وبالاعتراف لمختلف المتعاونين بدورهم في التأليف. ومع ذلك فهذا لا ينفي أن الإحالة المناسبة، إلى مخرج الفيلم المؤهل، توجه أيضا التقويم والتأويل.
استنتاجات
إن النقد المؤسس على المؤلف ليس هو الشكل الوحيد لتقويم الفيلم بطبيعة الحال. سننظر لاحقا إلى أشكال أخرى تتضمن فقط الإحالة إلى محيط صانع الفيلم. الهدف من النظر في النقد المؤسس على المؤلف يأتي من كونه يتضمن بعض الفرضيات حول طبيعة ووضع مؤلف الفيلم. بالرغم من عدم الاختلاف حول هذه الفرضيات، فإن المشاركين في النقاش حول مؤلف الفيلم يمكن أن يتفقوا أن في الإنتاج المركب والتعاوني للأفلام جماعية الصنع، يوجد في الغالب متعاون مهيمن، وهو المخرج في الغالب. أمر مهم أن نحاول توضيح ما يتعلق بدور المخرج والثقافة الفيلمية على العموم، ويجعل المخرج، في الغالب، مهيمنا في أذهان النقاد والجمهور العادي. لكن هناك سؤال فلسفي أكثر إلحاحا حول ما إذا كانت للمهيمن المتعاون ملكية إبداعية في الفيلم، وإذا كان الأمر كذلك، فمن أي نوع؟. كما رأينا سابقا، هناك طرق متعددة للجواب على هذا السؤال: إذ يمكن للمهيمن المتعاون لفيلم معين أن يكون:
1. المؤلف الوحيد
2. مؤلفا من بين عدة آخرين، أو
3. لا يكون مؤلفا على الإطلاق.
إذا اخترنا الجواب الثالث، فيكون ذلك لسبب أو سببين:
أ. بوجود عدد من المتعاونين، لن يكون هناك مؤلفون حقيقيون، أو
ب. المؤلف ليس شخصا حقيقيا، بل إنه بناء تأويلي.
وأخيرا، وحتى ولو قبلنا أن المتعاون المهيمن هو المؤلف الفعلي لفيلم خاص، سيكون بإمكاننا دائما أن نؤول الفيلم باعتماد دور المؤلف الضمني.
هناك خيارات لإسناد مقولة المؤلف أصبحت متاحة من نقاشنا في هذا الفصل. غير أن هناك اعتبارات إضافية تتعلق بالتكنولوجيات الجديدة يمكنها أن تعقد هذه الخيارات. إحدى هذه الاعتبارات ناجمة عن إدخال الـ دي- في- دي.
إضافة إلى الفيلم نفسه، يتضمن العديد من أقراص دي في دي تعليقات المخرج والمتعاونين الآخرين، كما يشمل مشاهد ولقطات، بل وحتى نهايات بديلة. بمكن لـ دي في دي أن يقدم صيغتين مختلفتين أو أكثر لنفس الفيلم. كمثال على ذلك، صدرت سنة 2006 طبعة تضم قرصي دي في دي لفيلم ” القيامة الآن” المنجز سنة 1979، وتتضمن النسخة الفيلمية الأصلية للفيلم فضلا عن نسخة أعيد إنجازها سنة 2001، “القيامة الآن روديكس”، مع زيادة 49 دقيقة من اللقطات الخارجة عن الفيلم. تشمل مجموعة دي في دي أيضا عناصر أخرى، منها كليب لـ مارلون براندو وهو يقرأ من ديوان ت.س. إليوت قصيدة ” الرجال الفارغون”، ومشاهد مصاحبة للتصوير، ومقابلات مع الموزعين. من المفيد النظر في ما إذا كانت إضافة كل هذه الأدوات عاملا لتسهيل أو تعقيد إسناد صفة المؤلف.
من جانب ، يمكن لهذه الأدوات الإضافية أن تساعد على تحديد ما إذا كانت الأهداف الفنية، للمخرج أو بعض المتعاونين الآخرين، قد تم تحقيقها في العمل النهائي. ومن جانب آخر، يمكن أيضا أن تثير انتباهنا إلى الطوارئ والظروف التي تتحكم في الفيلم، كأي إنتاج ضخم آخر، لينتهي في صورة غير متوقعة. حين نقارن بين صيغتي ‘القيامة الآن’، يمكن أن نقرر أن لإحداهما مؤلفا (حقيقيا أو ضمنيا)، وأن الأخرى بدون مؤلف، أو أن لهما معا مؤلفين (حقيقيين أو ضمنيين) ( من هنا يطرح السؤال حول اعتبار الصيغتين الاثنتين، بالفعل، صيغتين لنفس الفيلم). مهما يكن، هناك شيء واضح، لن نكون في موقع يمكننا من الحسم في حالة مركبة كحالة ‘القيامة الآن’ على دي في دي إلا إذا استحضرنا العمل الذي قمنا به في هذا الفصل – ومن دون أن نميز بعناية أنواع المؤلفين، ومعايير إسناد صفة المؤلف، ومعايير نقد الفيلم المؤسس على المؤلف.
كاترين طومسون جونز
تعريب: د. محمد طروس