عادت المخرجة التونسية كوثر بن هنية في فيلمها الروائي الطويل الثالث ” على كف عفريت”، لتستعيد جانبا من التطورات التي عرفتها تونس بعد ثورة الياسمين سنة 2011، باشتغالها على قصة واقعية لشابة تعرضت للاغتصاب على شاطئ البحر من طرف رجال الشرطة، مستغلين تواجدها مع رفيق لها في مكان خلاء، وتهديدها بتهمة الخيانة الزوجية، ومتابعتها بمخالفة قانون الأخلاق العامة بتونس، ويثير الفيلم أيضا موضوع الفساد الذي كان ينخر المؤسسة الأمنية التونسية باستحضار ظاهرة الرشوة.
أعاد فيلم” على كف عفريت” المخرجة بن هنية إلى الأضواء، بعدما شاركت به في عروض “نظرة خاصة” بمهرجان “كان” في دورته السبعين( 2017)، ومهرجانات دولية أخرى، وجاء الفيلم ليواصل طرح وضعية النساء في مجتمعات دول الجنوب، ويؤكد على التوجه الحقوقي النسائي الذي ميز تجربة المخرجة في أعمالها السابقة مثل فيلمي” شلاط تونس” و “زينب لا تحب الثلج”.
اعتمدت المخرجة على سيناريو محبوك ومفصل بعناية، بتضمينه تفاصيل دقيقة خلقت الإثارة في البناء السردي الداخلي للفيلم، إذ تعمدت زرع الغموض في البداية وخرق انتظارات المتلقي، باستبعاد فرضية الاغتصاب، لأن الشابة مريم رافقت يوسف بإرادتها خارج الملهى، وازداد هذا الغموض، عند اتهامها لرجل الأمن، لأن المتلقي لا يصدق كون المغتصب من رجال الأمن بالفعل، حتى اللقطة التي تلت الاغتصاب تخدعنا، إذ نعتقد للوهلة الأولى أن الشاب المرافق لمريم من هو من اغتصبها وهو في لحظة مطاردتها.
استمرت المخرجة في إيهامنا بأن مريم تتهم رجال الأمن في مخفرهم دون بينة، وأن اغتصابها تم على يد شخص أخر، لكن مع انتقالها رفقة يوسف إلى مخفر الشرطة الثاني، بعد صعوبات الحصول على شهادة طبية تثبت التعرض للاغتصاب، كشفت عن الجزء الهام من الحكاية ولو بشكل تدريجي، وقد تبين ذلك من خلال عثور مريم على هاتفها وحقيبتها اليدوية داخل عربة رجال الأمن، وعبر تعاملهم غير السليم معها في موقف يحتم الإنصات لها والاعتناء بها مراعاة لوضعها النفسي والجسماني. خلقت طريقة السرد والتدرج في الكشف عن خيوط الحكاية رغبة في معرفة مصير مريم ونهايتها التي لم تظهر إلا مع الصباح الباكر مع إشراقة الشمس، تعبيرا عن بزوغ الحقيقة وانكشافها.
وظفت المخرجة تقنيات متنوعة في التصوير، وأول ما يلاحظه المشاهد حضور اللقطات/ المشاهد الطويلة، وهي مغامرة إبداعية، في محاولة لتثوير أسلوب السرد وتجديده، بتحدي التقطيع المكثف للفيلم إلى لقطات قصيرة زمنيا، وللكشف عن هذه المغامرة عمدت إلى ترقيم تلك المشاهد، لتقديم الوضعيات الهامة التي عاشتها مريم في تلك الليلة السوداء. أما على مستوى التأطير فقد ركزت الكاميرا عموما على وجه البطلة في “لقطات صدرية”، بما فيها تلك التي صورت قبل الاغتصاب، وابتعدت عن جزئها السفلي، لتقريب حجم الصدمة والانهيار النفسي على محياها، والابتعاد عن مناطقها الحساسة التي يمكن أن تغلب لدى المشاهد الإحساس بمسؤوليتها في الحادث بنوع لباسها ورشاقتها، وهذا ما جعل التضامن معها والاصطفاف إلى جانبها أفقا للمشاهدة. اعتمدت المخرجة كوتر بن هنية على كاميرا الكتف لتتبع خطوات الممثلة المضطربة وغير المستقرة، ولهذا وجدنا الكثير من المشاهد بتقنية الكاميرا المسافرة ( ترافلين)من الخلف ومن الأمام للاقتراب من حركة الممثلة، وجعل المشاهد في عمق المحنة التي تعيشها.
اشتغلت المخرجة كوثر بن هنية كذلك على الصوت بدقة من خلال توظيف الصوت المرتفع “خارج الإطار”لإغلاق الأبواب وفتحها، ونباح الكلاب لخلق أجواء الرعب التي تسود في مخافر الشرطة والتي تنعكس سلبا على نفسية المرتفقين لها، خاصة في الفترة الليلية، ويزداد التوتر والخوف إذا كانت الزيارة للمرة الأولى مثلما حدث لمريم. كانت الموسيقى التصويرية موفقة في خدمة التوجه الدرامي للفيلم، فلحظات الخوف والانهيار لدى البطلة رافقتها موسيقى حزينة تدعم ذلك الإحساس، عكس الموسيقى التي رافقت خروجها من مخفر الشرطة صباحا بعد ليلة مريرة، كانت إيجابية للتعبير عن من نوع الانتصار والقدرة على رفع التحدي ضد الاغتصاب الجنسي في عربة رجال الأمن أولا، واغتصاب حقها في الشكاية بمخفرهم ثانيا.
تجنبت المخرجة في فيلمها تصوير مشهد الاغتصاب، واكتفت باستحضاره رمزيا من خلال ملامح البطلة وتصرفاتها وإقرارها بذلك لفظا، وتلويح صديقها بتوظيف شريط الفيديو المصور لكشف هوية المغتصبين عبر شبكة الأنترنت، هذه الأخيرة تحيل على السلطة التي أصبحت لمواقع التواصل الاجتماعي باعتبارها سلطة تجاوزت سلطة الإعلام العادي، لدرجة أنها أصبحت متحكمة في استنهاض الرأي العام وتوجيه الجماهير الواسعة.
كشف الفيلم عن استغلال رجال الأمن سلطتهم وتجاوزهم حدود عملهم في عملية الاغتصاب والمطالبة بالرشوة، وتكرس هذا الاستغلال، بالتماطل في تسجيل شكاية مريم بكل الوسائل، بما فيها التعنيف، والتهديد، والترهيب، والتواطؤ فيما بينهم، و ربط الشكاية حول الاغتصاب بالفضيحة الاجتماعية بالنسبة للمعنية، وأسرتها، وكان قصد المخرجة بذلك مساءلة المنظومة القانونية والأمنية، والاجتماعية في علاقتها بقضايا الاغتصاب، وأكدت على هذا التوجه بتبرير رجل الأمن الضخم لتلك التجاوزات بضرورة مواجهة عدو خارجي سماه بالعفريت والإرهاب، في إشارة إلى الوضع الأمني المتوتر الذي تلا ثورة الياسمين بتونس. لم تعمم المخرجة سوء سلوكات رجال الشرطة على المؤسسة الأمنية، بل أدمجت في فيلمها نماذج إيجابية منهم، خاصة الشرطية الحامل وزميلها، وإن كانت مرتبته الدنيا لم تسمح له بالتدخل إلا بعد نفاذ صبره، وإعلانه التمرد على رؤسائه، وتوجيه النصح للبطلة مريم بالتوجه نحو مكتب المدعي العام.
تركت المخرجة كوثر بن هنية نهاية فيلمها مفتوحة على كل التأويلات، لكن ردة فعل رجال الأمن بعدما فشلوا في إقناع مريم بالتنازل، أو التوقيع على محضر مزيف، وخروجها إلى الشارع في الصباح الباكر، كان إعلانا عن الانتصار لكلمة الحق، التي ستورط من خان أمانة ومسؤولية حماية المواطنين.
محمد زروال