في “الجاهلية”، فيلمه الطويل الخامس 2018 اقتنص العسري 1977 اللحظات المشبعة بالمعاني ووزعها على ساعة ونصف يثري بعضها بعضا… لجأ لمحاكاة سريالية موجعة لمتفرج راض على وضعه وعالمه. في الفيلم الذي أنتج بإمكانيات قليلة مخبول يشتري حذاء على أنه الحذاء المجيد الذي قذف به جورج بوش في بغداد… رجل يشترط لونا محددا في خطيب ابنته… مقهور “يحقر” على حيوان صغير… طفل يريد خروف العيد الذي ألغاه الملك… شعب مهووس باللحم في عيد الأضحى وفي أرداف شابة نحيفة صارت معقدة لأن لديها جسد معتل الآخر. ليست عَجْزاء مدْبرة مثل سعاد كعب بن زهير..
في منتصف الثمانيات منع الملك الراحل الحسن الثاني المغاربة من ذبح أضحية العيد بسبب الجفاف وذبح الملك نيابة عن الشعب كبشين أقرنين، وقد كشف القرار ازمة اللحم في المجتمع المغربي. يغضب الطفل ويقول لأبيه “الملك عنده اللحم دائما نحن لا”. لا يستطيع الاب المقهور مخالفة القرار الملكي.
كان الفيلم مزيجا من الواقع والعبث الصادم، وهو يؤشر لوتيرة عمل العسري الأسرع بين المخرجين المغاربة. وقد أخرج ثلاثة فلام طويلة في ثلاث سنوات. أفلام جريئة تناقض تماما الخط الكوميدي السطحي الذي يتبعه المخرج في تعامله مع التلفزيون الموجه للعامة.
أين تكمن الجرأة؟ في تصفية الحساب مع عهد الحسن الثاني باستخدام خطابه في فيلم “جوع كلبك” 2015. في فيلم “ضربة في الرأس” 2016 قدم العسري المرحلة من خلال عين شرطي، أي من خلال شخص يخدم النظام ولا يعارضه.
بعد عرض فيلم “ضربة في الرأس” في مهرجان طنجة مارس 2017 جلست في بهو الفندق أحرر النقط التي كتبتها في الظلام. كنت مستغرقا وحين انتبهت كان هناك شخص خلفي يفحص أوراقي. أمام دهشتي قال إنه جاء متأخرا ولم يشاهد الفيلم. حدثته عن شرطي فوق قنطرة ينتظر مرور الملك ونكتشف المقدم يدرب الناس على الاستقبال الجيد بالإنحناء… قاطعني وسأل عن حكم الفيلم عن فترة حكم الحسن الثاني. رفعت عيني عن حاسوبي وخمنت من هندام الرجل الأنيق وجسده الرياضي أنه من المخابرات وقد وصل متأخرا للسينما لكن يريد طمأنة الذين أرسلوه للاستخبار.
تحضر السياسة في الأفلام المغربية، لكن كجزء من الماضي لا الحاضر. تتناول سنوات الرصاص أي عن عهد الملك الراحل. لقد كان العسري حذرا بتركيزه على موظف صغير في “ضربة في الرأس”، ليس في الفيلم لقطة بالضبط ضد الحسن الثاني. لكن أجواء الفيلم عامة كانت دالة. لقد ركز على الشرطي والمقدم، على موظفين صغيرين. تصوير والي فاسد بجلالة قدره لن يحصل في العشرين سنة القادمة، فالوالي يصير وزيرا للداخلية كما هو حاصل حاليا.
بسخريته المتكررة يمس العسري وترا حساسا لدى المغاربة وهو تقديرهم الغامض للحسن الثاني الذي شيد دولة تصد الفوضى لذا تمنى الكثيرون منع أفلامه. لكن السخرية السريالية غير مقلقة للسلطة مادامت أفلام العسري لا تحقق أية أرقام في القاعات وغالبا ما تسحب في الأسبوع الأول. هذا إن وزعت أصلا.
تجري أحداث “الجاهلية” في فيلا على حافة هضبة لذا يظهر ما حولها صغيرا من فوق. تدل الجاهلية على زمن وسلوك مر منه وأد البنات اللواتي صرن حرائر. يزعم العسري أن الجاهلية مستمرة والسلوك العدواني تجاه النساء مستمر. في الفيلم امرأة مربوطة إلى وتد، كلما اقتلعت الوتد وهربت ذهب الحارس ليرجعها إلى زوجها. جاهلية هشام العسري تصدم المتفرج الفطري بلقطات منفرة حادة ومهينة للذوق التقليدي خاصة .
يحكي العسري قصة لحم وحذاء ودمية. ومن خلال هذه الأيقونات الثلاث نكتشف أشكال “الحقرة” في المجتمع المغربي… مجتمع يطبع مع العنف اليومي لدرجة لم يعد يلاحظه.
الجاهلية فيلم عن بشر حقار يغبن ويستعلي على من هو أقل منه ويسحقه كخنفساء، والحقرة أو الحكgـرة مصطلح سياسي كثيف في شمال أفريقيا تسبب في احتجاجات كثيرة، في الفيلم كل واحد يحقر ويلتهم على من تحته كما في السلسة الغذائية الطبيعية. تنتهي السلسة لدى بطل الفيلم (الممثل حسن باديدة) الذي يحقر على دجاجة. بطل هو عامل مقهور ينفذ أوامر شخص يحتجز زوجته كي لا تهرب مع صديقتها… في لحظة غضب وعجز امام ابنه الذي يطالب باللحم حقر دجاجته. النتيجة أن الجمهور الحقار حزن على الدجاجة. بينما يموت عشرة مغاربة ويجرح مآت في كل يوم في حوادث السير.
هذا العنف الفادح هو الذي تبرزه كاميرا العسري بشكل عبثي. المحتوى السياسي للقطات مستفز… يفكر المخرج مهنته بالكاميرا لذلك لا يقدم الخام، واضح أنه لم يُشف ويكمل بعد تصفية حسابه مع عهد الحسن الثاني
في الفيلم ثراء بصري ودلالي، سخرية مريرة، قصص متجاورة مفككة ولكن ساخرة. سريالية تحاكي الواقع بشكل مبالغ فيه لتصدم المتلقي… قبل بدأ العرض أخبرت المنتجة لمياء الشرايبي الجمهور أن فيلم “الجاهلية” ليس سينما نظيفة… كثيرون بقوا بسبب الفضول والشوق لرؤية اللذة وفي النهاية خرجوا غاضبين. لقد استفزهم العسري بشكل غير مسبق. أزعج التمثلات السائدة لديهم. هدد عالمهم النظيف الموجود في قلوبهم لا في الشارع.
محمد بنعزيز