فيلم فوزي بنسعيدي “وليلي” 2017 على اسم مدينة رومانية عمرها ثلاثة وعشرون قرنا تقع وسط المغرب.
ما صلة الفيلم بالمدينة؟ تقع أحداثه بها.
بدأ الفيلم بلقطة مسح الزجاج من اجل رؤية افضل وأبعد، وفي جل لقطات الفيلم سيقدم بنسعيدي مشهدين، واحد في مقدمة الكادر ومشهد آخر في عمق الكادر المفتوح على الأفق.
كادر في كادر… من نافذة منزل، من نافذة سيارة، من ثقب في جدار مكسور… من انعكاس المباني على الماء… فيترينات السوبر ماركت حيث يظهر الشارع في عمق الكادر… للالتصاق بلحظة الحدث هناك برويتاج (صوت ينتج عن الحدث) أقوى من الموسيقى التصويرية التي يستغني عنها المخرج كثيرا… في الفيلم اقتصاد في اللقطات وبحث مستمر عن اللقطة المشهد التي لا تحتاج مونتاج… المسرحي لا يحب المونتاج.
وعي شقي يفتح العيون على الواقع
في كل لقطة هناك جهد في التأطير… وفي الإطار قصة عادية يومية… ما هي؟
يتجنب هذا المقال تلخيص قصة الفيلم ويعمل على إستراتيجية بديلة هي تعرية الحيل الفنية الحاكمة للسرد.
بداية هناك خطاطة سردية متماسكة. بطل لديه مهنة صارت ورطة جلبت له عدوا. كل شيء يحصل أمام أعيننا لا شيء جاهز مسبقا… نتتبع تصاعدا تدريجيا للعنف، إنه الصعود خطوة خطوة نحو الهاوية… ومن خلال هذا التدرج تم بناء الشخصيات بشكل متماسك.
يبدأ الفيلم وعلاقة الحب في أوجها… حكاية مليكة وعبد القادر… حكاية روميو وجولييت مغربية. حب بدأ فوق هضبة وليلي ويتدحرج نحو حفرة… ومع كل حفرة ضغط يفكك العلاقات… تتكسر العلاقة إلى شظايا… في التراجيديا تنعدم النهايات السعيدة.
ومع التفكك يتمكن المخرج من التقاط الخواء والتيه الذي تعيشه الشخصيات بحس مرهف… حين يبكي عبد القادر لاكتشاف مستوى بلاهته أكثر من بكائه بسبب ألم جسده… حين يفهم أنه لا هو حي ولا هو ميت.
كان بطلا الفيلم هنا قد اكتشفا المرارة وهذا واحد من معاني كلمة وليلي. فاسم المدينة مشتق من الكلمة الأمازيغية أليلي وهو نبات مزهر لكنه مرّ الطعم. نبات هو الدفلى وهو نبات له ورد مسموم. يقول المثل المغربي “الزين في الدفلى وحارة” (أي مُرة). تُشبّه الحياة والجميلات جدا بالدفلى. منظرهن جميل وطعمهن مر.
في النصف الثاني من الفيلم، تذوقت الشخصيات الدفلى وصار وعيها شقيّا بعد أن فقدت وعيها السعيد الذي حجب عنها الواقع… تتشبع هذه الشخصيات بوعي شقي جارح يفتح عيونها، لذلك فهو وعي شقي إيجابي يدفعها ليس للعدم بل للخلاص.
حبكة التراجيديا الخماسية
يروى الفيلم بوجهة نظر شابة تتدحرج في هضاب وليلي ويتم السرد بإيجاز خاصة حين يقدم المخرج الشخصيات الثانوية التي لا تغطي على الرئيسية في أي لحظة… ثلاثين ثانية كافية لكشف قصة خيانة… وهذا الإيجاز يقلص تماما الوقت الميت من الفيلم. شخصيات ثانوية وظيفتها الأساسية دفع الحبكة الرئيسية إلى الأمام. والحبكة هي نقيض الصدفة واللانظام. الفيلم مبني وفق مراحل هرم غوستاف فريتاج عن بنية الحبكة في التراجيديا. فبعد العرض والتعقيد جاءت الذروة التي تسببت في انقلاب العلاقات، وأخيرا جاء كشف فيديو الإهانة للحسم.
اتبع الفيلم هذه الخطاطة السردية الخماسية دون الوقوع في الميكانيكية. وتقع نقطة التحول حين يتخطى البطل حدوده مع من يعتبرون أنفسهم أسياده ويتولون تأديبه وتربيته من جديد. والرسالة؟
أيها الفقراء لا تقتربوا من الأغنياء وإلا سيسحقونكم.
هكذا يعلن المخرج موقفه من هذا الصراع اللامتكافئ تقنيا. فالفقراء دائما في مقدمة اللقطة. لا تزيد المسافة بين الكاميرا والفقراء على متر، إنهما ملتصقان يتزاحمان. بينما تفصل بين الكاميرا والأغنياء أمتار كثيرة… البؤس في مقدمة الكادر والاحتفالات والشهب المضيئة في عمقه.
الفقر عار. فكيف يصير الفقر إذلالا؟ وكيف يُولّد الإذلال حقدا يسحق الأمل؟ فوزي بنسعيدي يعرض وصفة حصول ذلك. إنها التراجيديا في السينما… تراجيديا البسطاء لا تراجيديا الأبطال وأنصاف الآلهة.
تمثيل تلقائي
و”ليلي” هو الفيلم الطويل الرابع لبنسعيدي بعد “ألف شهر” 2003 و”ياله من عالم جميل” 2006 و”موت للبيع” 2011. الفيلم من بطولة محسن مالزي (عبد القادر) و ناديا كوندة (مليكة) التي حصلت على جائزة أفضل ممثلة في مهرجان الجونة السينمائي… أداء منى فتو كان مميزا وقد أدى المخرج بنسعيدي دور زوجها.
جل الممثلين عملوا مع المخرج أكثر من مرة في أفلامه. صار يعمل في السينما كأنه في فرقة مسرحية. وهو يعتبر أن التعارف المسبق للممثلين سمح باندماجهم. ويزيد هذا عندما يمثل معهم. فبنسعيدي ممثل مسرحي أولا. وهو يقول “عندما أمثل فأنا أدير المشهد من الداخل” من هذا الموقع يمنح ثقة أكثر لممثليه لأن الكاميرا لا تفصل بين الممثل والمخرج.
صناعة الصورة صعبة
يقول بنسعيدي “يوجد الممثل في أصل المسرح، بينما ظهر المخرج في القرن العشرين فقط. في أثناء التصوير يتبع أربعون شخصا المخرج. قد يتبعونه في الإبداع وقد يتبعونه في الاخطاء.”. ويعتبر بنسعيدي أنه ولد يوم صار مخرجا، له ميلاد مزدوج. ميلاد بيولوجي وميلاد فني يوم صور أول لقطة سينمائية.
وهو يعترف بأن صناعة الصورة صعبة. وبسبب هذه الصعوبة تعود أن يصور نهايتين لأفلامه. واحدة تعيسة والثانية أشد تعاسة.
المنطلقات الفنية للمخرج
يصور بنسعيدي نهايتين لأنه يريد أن يمدد خياله لما بعد السيناريو. وقد أصبح هذا سهلا بفضل التصوير الرقمي. وفي المونتاج يقرر أي النهايات أنسب لفيلمه. غالبا يختار نهاية مأساوية مع انبعاث صغير من الرماد.
وكشف بنسعيدي منطلقاته الفنية قائلا أن بنية الإيقاع الموسيقي قريبة من بنية الإيقاع الفيلمي. وأضاف إنه لا يجب أن نصل لموقع التمرين والتصوير ونحن نحمل أجوبة بل يجب أن نتجه للإبداع ونحن محملين بالأسئلة لنجرب لأنه ” في الفوضى هناك دائما شيئا أجمل من النظام”… وأضاف “نعيش في عالم جد مسيس لكن الفن الحالي غير مسيس وهناك فن متحرر من الالتزام بشكل قوي. هناك هدفي شخصي للمبدع. يبدع الفنان ليصير مشهورا… لكن لا يمكن إبداع أفلام لا يراها أحد ووظيفة السينما هي أن تربي الإنسان لا أن تغير العالم”.
وظيفة السينما هي أن تربي الإنسان لا أن تغير العالم
للإشارة ففوزي بنيسعيدي مخرج سينمائي بدأ نشاطه الفني في المسرح. يقول: بدأت علاقتي بالفن والمسرح معتقدا أن المسرح هو الأقرب للسينما. قبل الثمانينات كان العمل في السينما مغامرة. في نهاية الثمانينات صار فقط من الصعب الاشتغال بالسينما لذا بدأت بالمسرح… وأكد بنسعيدي أن المسرحية والفيلم ضرورة وجودية للمبدع، وسيعيش هذا تعيسا بدون ذلك الإبداع.
بعد ذلك تحدث عن اوجه الشبه بين السينما والمسرح وهي:
القصة والحوار والإضاءة والممثلين والجمهور… في المقارنة قال في المسرح يصير الممثل هو ملك الخشبة. المسرح فن تجري فيه الدماء. لحظة العرض المسرحي متحركة. كل عرض لا يتكرر. بينما الفيلم ثابت مسجل.
خلص بنسعيدي من مقارنته إلى أنه لا علاقة للسينما بالمسرح. لكن بالنظر لفيلم بنسعيدي القصير الأول “الحافة” يبدو أن هناك صلة بين المسرح والسنما. أما في فيلمه “الحيط الحيط” فالقصة مسرحية فيها وحدة الحدث والمكان والزمان. حتى الإخراج مسرحي بدليل أن هناك ديكور واحد وكادر واحد من موقع الجدار الرابع المرفوع. أما في فيلم “وليلي” فيبدو أن المخرج ابتعد عن المسرح واقترب من السينما أكثر وإن احتفظ بالحبكة الخماسية.
محمد بنعزيز