المشهد الأول: البداية
ما أن انسلت خيوط النور الأولى من آلة العرض واخترقت ظلام القاعة حتى انكشف المستور، وبدأ يتبدى وجه الحقيقة. الأخبار المتواثرة من البوغاز كانت غير مطمئنة على الإطلاق. تصاعدت الأصوات بين مؤيد ومعارض، وبين متفائل ومتشائم ومتشائل من مستوى الأفلام المشاركة في المسابقة الرسمية ومن مستوى التنظيم عموما،غير أن حديث الليل سرعان ما يمحوه النهار.فما أن مرت أيام معدودات على اختتام المهرجان حتى خفتت هذه الأصوات وشد معظمها الرحال إلى أرض الكنانة، وعادت الأمور إلى وضعها «الطبيعي» في انتظار دورة قادمة لترديد نفس اللازمة. طبعا، تظهر بين الفينة والأخرى مقالات جادة تتوخى تقييم المستوى العام للأفلام، آملة فيفتح نقاش صريح حول سينمانا، ولكنها للأسف الشديد لا تجد آذان صاغية.
قبل الدخول في صلب، أود أن أشير أنني لم أحضر المهرجان الوطني لهذه السنة،وبالتالي لا يمكنني الخوض في مناقشة الأفلام وتقييمها والحكم عليها خصوصا وأنني لم أشاهد أغلبها بعد، وإن كنت أعرف مسبقا مستوى بعض المخرجين المشاركين في المسابقة الرسمية، ولا أتوقع منهم على كل حال الشيء الكثير، ففاقد الشيء لا يعطيه. غير أن ما أثار انتباهي هو تشبت البعض بالاستثناءات القليلة جدا التي تبرز كل دورة، محاولا فرضها كقاعدة ثابثة لتجميل الواقع السينمائي. أود أن أذكر هؤلاء أن الاستثناء لا يقاس عليه ولا يغير من حقيقة الأصل والمبدأ. ولهذا سأحاول في هذا المقال أن أتطرق إلى بعض أسباب خلل المنظومة السينمائية التي لا يمكن فصلها عن خلل البنيات الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية.
المشهد الثاني: التربية والتعليم
«إذا كنت تعتقد أن التعليم باهظ الثمن، فلتجرب الجهل». نؤكد لديريك بوك صاحب هذه المقولة أننا جربنا الجهل طويلا وما زلنا، وها نحن اليوم ندفع الثمن باهظا. فالجهل هو أصل كل العلل والمشاكل، ولا يمكن لأمة من الأمم أن ترقي في غياب التعليم. فالاستثمار في التعليم هو الثروة الحقيقية لكل شعب يتوخى التقدم. وقد ثبت بالملموس أن البلدان التي استثمرت في الرأسمال البشري هي التي تقود العالم اليوم. فالتعليم هو حاضن الإبداع وضامنه، وحين تلتقي الموهبة بالعلم يكون الإبداع والتميزوالتفرد.
لايمكن تطوير الفن في بلادنا دون سياسة ثقافية وإرادة سياسية تأخذان بعين الاعتبار الثقافة والفن كقاطرة للتربية والتكوين والتنمية. فحين يرتبط الفن في المخيال الجمعي بالتسلية وينظر إليه كوقت ثالث، و في أفضل الأحوال كنشاط موازي غير إلزامي في البرامج التعليمية، شيء طبيعي أن يكون «الإبداع» بهذا الاستسهال والتبسيط والتسطيح. فبدون إدراج الفنون عموما في المناهج والبرامج التعليمية والتربوية كمواد أساسية أو تخصصات، وزرع ثقافة العين والأذن في الأطفال منذ سن مبكرة، وتشجيع القراءة والكتاب، وخلق مدارس للفنون الجميلة، وفتح متاحف الفن ودور السينما والموسيقى والرقص والمسرح في وجه الأطفال، سيكون خلق مدارس السينما و مسالك السينما في الجامعات في مراحل متأخرة من عمر الطالب مغالطة كبرى وافتراء. أليس انتشار المدارس الخاصة في السمعي البصري والسينما في أرجاء البلاد مثل الفطريات، وخلق إجازات وماجستير مهنية في بعض الجامعات المغربية خير دليل على هذا الوضع غير السليم. إن هذه التكوينات تفتقر في مجملها إلى برامج دقيقة وأهداف واضحة وأساتذة متخصصين، وهو ما جعلها تركزفي مقراراتها على العموميات وبعض التقنيات، وفي مناهجها على التلقين والحفظ. إن هذا الخلط الحاصل بين تكوينات وبرامج وأهداف كل من الجامعة ومدارس السينما أمر يدعو إلى الحيرة. لقد أصبحت الجامعة تتبارى مع معاهد السينما والتكوين المهني في تكوين حرفيين وتقنيين في مجال صناعة السينما، في حين يفترض أن ينحصر دورها الحقيقي في خلق تكوينات ومسالك في الدراسات السينمائية، تعنى بنظريات وتاريخ السينما وتاريخ الفن والاستيتيقا والفلسفة والفتوغرافيا والتحليل الفيلمي والنقد، وغيرها من الفنون والمباحث التي يمكنها أن تفتح للطالب أفقا للتفكير والتأمل والتحليل والنقد والبحث.
أما المدارس والمعاهد السينمائية فقد عجزت عن تكوين مخرجين في المستوى المطلوب، بالرغم من نجاحها نسبيا في تكوين بعض الأطر التقنية. ألم تعجز مدرسة السينما بمراكش عن إنجاب مخرج واحد في الساحة السينمائية، بالرغم من أنها فتحت أبوابها منذ ما يربو عن عقد من الزمن؟ ألم تكن البداية المتعثرة للمعهد العالي لمهن السمعي البصري والسينما بالرباط مؤشرا واضحا على ضبابية مستقبل السينما؟
المشهد الثالث: المركز السينمائي
آن الوقت لإعادة النظر في المنظومة السينمائية ككل، من قوانين منظمة للقطاع وآليات تفعيلها. يبدأ مسلسل الإصلاح بفصل المركز السينمائي عن وزارة الاتصال وإلحاقه بوزارة الثقافة، مع تمتيعه بالاستقلالية المالية والتسييرالذاتي، حتى يتمكن من أداء المهام المنوطة به. فمهمة المركز السينمائي ليست تنظيم المهرجانات، بل دعم الإنتاج والمساهمة في بلورة القوانين والسهر على تطبيقها، وفي خلق آليات لترويج وتوزيع الفيلم المغربي محليا، عن طريق دعم وتشجيع وترميم القاعات السينمائية أو بنائها، وفي البحث عن أسواق خارجية لترويج سينمانا، وفي خلق فرص التعاون والانتاج المشترك، وفي رقمنة التراث السينمائي والمحافظة عليه، وفي دعم التظاهرات السينمائية. هذه هي المهام الحقيقية التي يجب على المركز السينمائي أن يضطلع بها، لا أن ينظم مهرجاننين يستنزفان ميزانية المركز دون نتائج تذكر. لقد أبانت الإدارة الحالية للمركز السينمائي عن عجزها التام في بلورة تصور واستراتيجية واضحتين تعطيان دفعة ونفسا جديدين للقطاع السينمائي بالمغرب. واستنادا إلى تقرير الحصيلة السينمائية لسنة 2016 التي أنجزها المركز نفسه، فقد تراجعت مداخيل الشبابيك من 2.011.294 تذكرة سنة 2012 إلى 1.524.224 سنة 2016 وبانخفاض مرتادي القاعات السينمائية بحوالي 17 في المائة. أما فيما يخص العرض الأول لأفلام المغربية بالقاعات فقد بلغ عددها 13 فيلما لم يصمد منها سوى النزر القليل، أما البقية فقد اختفت بسرعة البرق دون أن تحقق مداخيل تذكر. كما قام المركز بتوزيع 73بطاقة إخراج وهو رقم قياسي سيزيد من تأزيم الوضع القائم وتمييع هذا الفن النبيل. ورغم الحديث عن سياسة إنقاذ القاعات، فلم تستفد سوى أربع قاعات سينمائية من الدعم الخاص بالتحديث. أما رقمنة الأفلام فلم تتجاوز الأربعة آلاف دقيقة رغم الميزانية الضخمة التي رصدت لها. هذه الأرقام تؤشر على أن الوضع لا يسير في الاتجاه الصحيح. فلا بد من التدخل العاجل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
المشهد الرابع: لجنة منح الدعم للأعمال السينمائية
أثناء نقاش حميمي مع بعض الأصدقاء حول ضرورة دعم الأفلام المغربية من عدمها، هناك من اقترح تقليص ميزانية الدعم إلى مليون درهم كسقف أعلى يمكن أن يحصل عليها المنتج لإنجاز فيلم ما. في حين دعا البعض الآخر إلى رفع ميزانية الدعم مع تقليص عدد المشاريع. أما آخرون فقد طالبوا بتوقيف هذا الدعم مؤقتا، معللين رأيهم بأن هذا الإجراء سيبعد المتطفلين عن هذا المجال، وسيبقي فقط المنتجون الراغبون في الاستثمار في السينما بأموالهم. كما سيبقي المبدعون الذين يؤمنون بأن السينما بالنسبة إليهم هي مسألة وجود ووسيلة نضال، وليست مصدر قوت.
سواء اتفقنا أو اختلفنا مع هذه الآراء، فإن المشترك بينها هو إعادة النظر في سياسة «الكم من أجل الكيف» التي أتثبت بالملموس عدم نجاعتها. فما معنى أن ننتج سنويا كما من الأفلام يربو عن عشرين فيلما مطولا، والعشرات من الأفلام القصيرة، يفتقر معظمها إلى الحد الأدنى من الإبداع؟ البلدان التي اعتمدت سياسة الكم هي بلدان متقدمة اقتصاديا ويلعب فيها المنتجون الخواص، من أشخاص وشركات وقنوات تلفزيونية، دورا أساسيا في الاستثمار في الصناعة السينمائية. أما أن ينتظر جل منتجينا التسبيق على المداخيل لإنتاج الأفلام، ويراهنوا عليه دون البحث عن مصادر أخرى للتمويل، فهذا لن يطور السينما وصناعتها على الإطلاق. كيف يعقل أن يحول هؤلاء المنتجون التسبيق على الدعم إلى مدخول قار؟ لم أسمع، بحسب علمي المتواضع، أن منتجا أرجع أوسدد مبلغ التسبيق على الدعم كاملا. المفارقة الكبرى هي أن بعض المخرجين ينجزون أفلاما هزيلة ومع ذلك يستفيدون مرات عديدة من الدعم.
والحالة هذه، لا بد من الرهان على الكيف، وذلك بعقلنة الإنتاج لضمان جودة الأفلام والحد من نهب المال العام. ولن يتأتى ذلك إلا باختيار لجان وفق معايير وضوابط موضوعية، تكون فيها الكفاءة والتجربة والخبرة هي المحدد وليس تمثيلية القطاعات المهنية والوزارية. ولهذا الغرض أقترح إحداث لجنتين مستقلتين لدعم الإنتاج السينمائي عوض لجنة واحدة، يتم اختيارهما وفق معايير محددة وهما: اللجنة الفنية واللجنة التقنية.
أنوه بأن هذا الفصل بين اللجنتين هو فصل منهجي ولا يتعارض في عمقه مع المادة الخامسة من المرسوم المتعلق بتحديد شروط ومساطر دعم إنتاج الأعمال السينمائية. غير أنه يجب تغيير المادة السادسة المتعلقة بتعيين اللجن، إذ تتولى وزارة الثقافة تعيين اللجنة الفنية بتنسيق مع المركز السينمائي، في حين تتكلف وزارة المالية بتعيين اللجنة المالية بنتسيق مع الهيئات المهنية والوزارية. فلا يعقل أن تتكون اللجنة الحالية للدعم من خمسة أعضاء من أهل الفن والثقافة من أصل 12 عضوا، في حين أن 7 أعضاء المتبقين يمثلون قطاعات مهنية ووزارية، بالرغم من أن مهمتهم تقنية أكثر منها فنية.
1ـ اللجنة الفنية:
تتحدد مهام اللجنة الفنية في قراءة السيناريوهات المرشحة للدعم قراءة دقيقة ومتأنية، وتقييمها وفق المعايير محددة، ومناقشتها مع المخرجين في لقاءات عديدة، قبل البث في اللائحة النهائية للمشاريع التي تستحق الدعم. كما تحدد هذه اللجنة لائحة المخرجين الذين سيستفيدون من منح إعادة الكتابة. وبعد الانتهاء من أشغالها تسلم تقريرا مفصلا إلى اللجنة التقنية. غير أنه لا يحق للجنة الفنية أن تحدد أو تتدخل في قيمة الدعم المالي للمشاريع المقدمة على الإطلاق، بل ينحصر دورها في التقييم الفكري والفني للمشاريع فقط.
يشترط أن تتكون هذه اللجنة من ناقد فني، وناقد سينمائي، وفنان تشكيلي، ومخرج سينمائي، وسيناريست، وكاتب ومفكر وأستاذ جامعي… وأن لا يتم إقحام أي ممثل عن القطاعات الوزارية والمهنية في هذه اللجنة. كما يجب أن تعطي هذه اللجنة الأولية لسينما المؤلف لعدة أسباب: أولا، لأن سينما المؤلف عادة ما تجد صعوبة في إيجاد قنوات التمويل. ثانيا، لأن جل المنتجين لا يغامرون في إنتاج هذه الأفلام لأنها لا تذر عليهم أرباحا طائلة. ثالثا، لأن هذه السينما ذات المستوى الفني والجمالي والعمق الفكري هي التي سترفع من مستوى السينما ببلادنا وتكون حاضرة في كل المهرجانات العالمية وقادرة على المنافسة أيضا. رابعا، لأن هذه الأفلام هي التي تبقى للتاريخ والذاكرة أما الزبد فيذهب جفاء. وأخيرا، لا يمكن الرهان على مشاريع فاشلة يفتقر مخرجوها إلى الخيال والمخيال وإلى خلفية فكرية وثقافية ورؤية فنية وجمالية.
2ـ اللجنة التقنية:
تتألف اللجنة التقنية من ممثلين عن القطاعات الوزارية والمهنية، وتتكلف بدراسة وفحص وتقييم كل التفاصيل التقنية للسيناريوهات المنتقاة، لتحديد الميزانية التقديرية للفيلم، وفق معايير موضوعية وعقلانية . ويعهد إليها مراقبة الإنتاج وما بعد الإنتاج للتأكد من صرف الميزانية بشكل دقيق وفعال وفق الشروط المنصوص عليها في دفتر التحملات.
وترشيدا للنفقات، يجب عدم السماح للمخرجين بجمع صفات متعددة داخل الفيلم الواحد، إذ غالبا ما نجد أن مخرج الفيلم هو نفسه المنتج وكاتب السيناريو وصاحب الحوار والموضب وأحيانا الممثل الخ. فإذا ما استثنينا الجمع بين الاخراج وكتابة السيناريو التي تبدو أحيانا منطقية، فإن الجمع بين كل الصفات الأخرى لا ينم في غالب الأحيان عن عبقرية المخرج وقدرته الهائلة على ممارسة كل هذه المهام، بقدر ما هي وسيلة للسطو على ميزانية الفيلم. طبعا مثل هذه الممارسات تقلل من فرص الشغل بالنسبة للتقنيين والفنيين.
إن فصل اللجنتين واختيارهما وفق معياري الكفاءة والنزاهة، وضمان كل الشروط المناسبة لعملهما سيعزز بكل تأكيد من استقلاليتهما، ويضمن بالتالي جودة الفيلم السينمائي بعيدا عن منطق الكم الذي راهنا عليه كثيرا دون جدوى. طبعا يبقى تحقيق كل هذا رهين أيضا بتغيير بعض القوانين المنظمة للقطاع وبإرادة سياسية حقيقية في تطوير السينما.
المشهد الخامس: لجنة انتقاء الأفلام:
إن لجان انتقاء الأفلام المشاركة في المسابقة الرسمية تتحمل جزءا من المسؤولة عن المستوى الفني الهزيل للمهرجان. فتعيين أعضاء هذه اللجان من منطق الصداقة والزمالة والمحسوبية هو جزء من هذه المأساة. لقد أبانت هذه اللجان خلال مجموعة من الدورات عن عجزها التام في القيام بمهامها، وقد تبين ذلك من خلال ارتجالها في اختيار الأفلام والتردد في قراراتها ومواقفها. نتذكر جميعا فيلم «مسافة ميل بحذائي» التي أقصته اللجنة من اللائحة الأولية للانتقاء، وبعد أن فاز بإحدى الجوائز في إحدى المهرجانات العربية، تمت إعادة برمجته من جديد ليفوز بقدرة قادر بالجائزة الكبرى للمهرجان الوطني للفيلم في دورته 17، رغم أن هذا الفيلم متوسط ولا يستحق كل هذه الهالة التي أقيمت حوله. رحم الله من قال: «في مملكة العميان يصبح الأحول ملكا». هذا هو حال مهرجاننا الوطني الذي يفترض أن تكون فيه المنافسة شرسة بدل أن نبحث في كل مرة عن نقطة ضوء نتشبت بها وسط الظلام لإنقاد كل دورة من دوراته. للتذكير أيضا فإن لجنة الانتقاء أدرجت هذه السنة فيلم «ميموزا» لأوليفر لاكس ضمن المسابقة الرسمية للمهرجان، قبل أن تتراجع بعد ذلك عن رأيها وتسحبه من اللائحة بدعوة أن مخرج الفيلم ليس مغربيا. مرة أخرى نؤكد على الموضوعية في اختيار اللجان في حال بقاء هذا المهرجان.
المشهد السادس: المهرجان
أتساءل بداية عن الجدوى أصلا من تنظيم مهرجان وطني، تصرف فيها كل سنة أموال طائلة، وعن الفائدة التي تجنيها منه السينما المغربية عموما؟ ألم يكن بالأحرى توفير هذه الأموال وضخها في صندوق الدعم لتمنح لمخرجين لديهم مشاريع سينمائية حقيقية؟ ما المغزى من تنظيم مهرجان عاجز عن خلق سوق وطنية لترويج هذه الأفلام، وعن خلق نقاش حقيقي حول السينما المغربية لكشف مكامن القوة والضعف؟ ألم يكن من الأجدى دعوة منتجين وموزعين ومديري المهرجانات، محليين ودوليين، للتعريف بالمنتوج الوطني وخلق فرص حقيقية لترويجه، عوض دعوة مجموعة ممن لا علاقة لهم بالسينما؟ ألم يعد هذا المهرجان فرصة لبعض المنتجين والمخرجين لعرض أفلامهم لتبرير الدعم ليس إلا، ثم سرعان ما يختفي الفيلم وأحيانا معه صاحبه بمجرد اختتام المهرجان، دون أن يعرض في القاعات السينمائية؟ وحتى إن عرض لا يصمد في غالب الأحيان كثيرا؟ ألم يعد المخرجون الحقيقيون يتفادون بشتى الطرق عرض أفلامهم في هذا المهرجان الذي أصبح يضر بصورتهم ويسيء إليها أكثر مما يخدمها؟
ألم يكن بالأحرى تنظيم ليلة واحدة على شكل ليلة السيزار تقدم فيها الحصيلة السنوية وتسلم فيها الجوائز لكل المبدعين والتقنيين الذين أنجزوا أفلاما تتوفر فيها مقومات فنية وجمالية، بعد أن تكون قد عرضت في القاعات السينمائية لمدة ليست بالوجيزة؟
المشهد السابع: النقد
يعتبر النقد جزءا أساسيا من المنظومة السينمائية، فلا يمكن أن تتطور السينما دون مواكبة نقدية. ودور الناقد أساسي في تقييم الأعمال السينمائية وتقريبها إلى الجمهور. والناقد الحقيقي هو من يملك الحس النقدي والثقافة الشمولية اللذين يؤهلانه للتعامل مع الفيلم بالدراسة والتحليل والنقد. فالناقد عموما هو ناقل للمعارف وللقيم الإنسانية والفنية والجمالية للجمهور. وهذه السلطة الرمزية التي يحظى بها هي رأسماله الحقيقي. نقاد بهذا المستوى يعدون على رؤوس الأصابع، وفي غالب الأحيان يتم تهميشهم. وإذا كان كل شكل فني ينتج شكل الوعي النقدي، فإن السينما لا تحيد عن هذا الاستثناء باعتبارها أنتجت أشكالا مختلفة من الوعي النقدي عبر تاريخها. ولعله من المؤسف جدا أن يصبح الشكل المهيمن اليوم هو النقد الانطباعي أو لنقل بصراحة النقد «الانتفاعي»، الذي يمارسه أشخاص يفتقرون إلى خلفية ثقافية وإلى قيم وثقافة النقد أصلا. يكتبون في الغالب تحت الطلب أو وفق ما تمليه المصلحة الخاصة، فتاراهم يهادنون ويحابون ويجاملون تارة، ويتحاملون ويعادون ويهاجمون تارة أخرى. يكتبون بعض «المقالات»وينخرطون في بعض الجمعيات للحصول على اعتراف رسمي أو إقرار Agrémentيسمح لهم بحضور المهرجانات الوطنية والدولية، وبمجرد الحصول عليه يكفون عن الكتابة. وفي حالة فشلهم في الحصول على هذا الإقرار يتخذون من وسائل التواصل قواعد لهم للهجوم. وهذا الصنف تجده في كل اللجن وفي كل المهرجانات وفي كل المناسبات. لقد حولوا النقد إلى حرفة من لا حرفة له، والسينما إلى فن من لا فن له. يجادلون في كل شيء، لا تسطيع محاورتهم أومجادلتهم، وفي كل الحالات لن «تغلبهمc، لأن قوتهم تكمن في جهلهم. وهؤلاء ينطبق عليهم قول الشافعي: ما جادلني عالم إلا غلبته، وما جادلني جاهل إلا وغلبني.
يفترض والحالة هذه أن تنظم ندوة وطنية سنوية يحضرها نقاد وأكاديميون لتقييم المستوى الفكري والفني والجمالي للأفلام التي أنجزت خلال السنة، بعيدا عن النقاشات العامة وردود الفعل العفوية والكتابات الانطباعية التي لا تخدم السينما في شيء. أتحدث هنا عن نقاد وأكاديميين يملكون أدوا ت معرفية ومنهجية علمية تمكنهم من تفكيك النص الفيلمي وشرحه وتفسيره وتأويله وتقييمه. وتكون هذه الندوة فرصة للخروج بدراسات قيمة تنشر في مجلات متخصصة وفي منابر إعلامية.هذا الفارق المعرفي والعلمي الدقيق هو الكفيل بإبعاد وعزل كل المتطفلين على السينما.
المشهد الثامن: النهاية
إن ما وصلت إليه السينما المغربية من تراجع على كل المستويات من إنتاج وتوزيع واستغلال وإبداع، تتحمل فيهما وزارتي التربية الوطنية والتعليم العالي جزءا من المسؤولية باعتبارهما المسؤولتان عن التربية والتكوين والبحث العلمي، فيما تتحمل وزارة الاتصال والمركز السينمائي المغربي قسطا وافرا، باعتبارهما المسؤولان عن تدبير القطاع السينمائي. فلا يمكن تسيير قطاع حيوي يمكنه أن يجلب استثمارت خارجية هامة، بدون رؤية شمولية ومشروع دقيق واستراتيجية واضحة. لقد أبان وزير الاتصال السابق والمدير الحالي للمركز السينمائي منذ أن توليا منصبيهما عن عجزهما التام في إعطاء دفعة ونفس جديدين للقطاع السينمائي. فقد راكما أخطاء كثيرة أضرت بصورة السينما وبالمكاسب التي حققتها من قبل. إن المرحلة الحالية تقتضي العقل الذي يصنع القرار ويدبره، لا الموظف الذي ينتظر التعليمات وينفذها. إن سياسة المحسوبية وإرضاء الخواطر وتهميش الكفاءات والارتجال في التسيير أثبتت فشلها الذريع، ولعمري إن الاستمرار فيها لهو قتل بطيء للسينما. لقد بات إصلاح المنظومتين، وخلق جسور التواصل والتعاون بينهما أمرا حتميا، وبدون ربط السينما بالثقافة والتربية والتعليم لا يمنكها أن تتطور.
عبدالمجيد سداتي