من الشائع في المقاربات النقدية الفيلمية الورود المتكرر لمصطلح التحليل. وهو يرد وفق مفهومين مختلفين: الأول عُرفي وشائع، ويتعلق بكل محاولة لمساءلة الفيلم السينمائي لغة وشكلاً، كآلية لتمرير الحكاية أو تحقيق «الحدوثة»، وتبيان قوتها أو ضعفها، جمالها أو عيوبها، خلفيات وجودها أو سطحيتها. كما قد يكون بحثاً في بعد من أبعاد الفيلم، كالجانب السوسيولوجي فيه، أو التحليل النفسي كما تبينه سلوكات الأبطال ونزعاتهم وأهواؤهم، أو الجانب التاريخي، إلى غير ذلك من جوانب المُعالَجة.
والكثيرون تطرقوا – وما زالوا بالطبع – في مقارباتهم لهذا الشكل الذي يعود إلى مرحلة تاريخية قديمة نسبياً، أي قبل أن يتقعد النقد السينمائي في منحاه التحليلي، في الصرح الجامعي خصوصاً. وكان قد أعطى نتائج جيدة ودراسات عميقة وقوية، وتماسكاً نظرياً بخاصة في ارتباطه مع أسماء نقدية كبيرة ذات الثقافة السينمائية الواسعة والصلبة.
لكن هذا التعريف يظل تاركاً فراغاً لمجالات بحث ودراسة مهمة غير مطروقة. بخاصة إذا لم يستند إلى منهج أو علم أو ثقافة سينمائية موثقة ومؤسسة على تصور مسبق. فالتعريف الثاني يجعل للتحليل تعريفاً محدداً أكاديمياً وجامعياً متفقاً عليه. التحليل هنا هو أحد أشكال القراءة الفيلمية أو، للتدقيق أكثر، هو أحد تقنيات القراءة. القراءة التي لها أيضاً معنى محدد أرسته مختلف النظريات الأدبية خصوصاً، والتي تتم الاستعارة والاستعانة بها أحياناً في الحقل السينمائي. وهو ما مفاده أن القراءة هي قراءة وظيفة النص الفيلمي المتعدد والمتشابك المكونات والعلائق.
ولنعط لمحة مقتضبة عامة عن هذا كله. المكوّنات تشمل، كما صارت معروفة للجميع، الصورة بما هي عبارة عن ممثلين، وديكور، وإضاءة، وأصوات وكتابة مخطوطة أحياناً. المكونات تتأثث وتُوظف وفق أماكن «الأفلمة»، أي من حيث يتم صنع الصورة كعملية إنتاج متسلسلة، وهي الإطار، والعدسة، والشريط، والتوليف، وتركيب التصويت ما بعد التصوير، والتوليف العام، مأخوذة بهذا الترتيب. كما أن العلائق تتحدد وفق الفضاء المكاني العام الذي تجري فيه الأحداث بكل اختلافاتها، والزمن بكل تعاريفه: الواقعي والمتخيل والمضمر والعلني، والآخر حين بناء الشخصيات كيفما كان نوعه وشكله وصفته، وأخيراً مع المحكي أي ذاك الذي يضم الدال والمدلول، وما بينهما.
وهكذا يكون التحليل قراءة إنتاجية لا منتهية مفتوحة على قراءات أخرى ممكنة وكثيرة، لكن في كل مرة مستندة إلى تقنيات ووسائل تحليلية محددة منذ البداية. إنها كما تصف نفسها ويصفها روادها الجامعيون، ضد كل محاولة أو مقاربة وصفية أو تفسيرية أو تبريرية أو مُسْتَنسخة للفيلم بواسطة الكلمة.
وجاذبية هذا التعريف تفترض للقراءة كتابة كي توجد وكي تتجسد عياناً. وهذه وجدت صداها بعد مخاض طويل وتذبذب، في مصطلح الكتابة السينمائية. فبالنسبة إلى الفن السابع، يتم الحديث عن تحليل الكتابة السينمائية، وبالتالي لم يعد الفيلم مجرد شريط يحمل صوراً تتلاحق تنتهي في الظلام الذي تشرع به دوماً. وهنا يصير التحليل تفكيكاً وتحديداً للعناصر والعلائق، التي تمنحها قوتها ووجودها ووظيفتها وأهدافها التي منها الإمتاع والإفادة. وهي جميعها تأخذ أهميتها من كونها اختيارات حاملة ومنتجة في آن واحد للمعنى، وبالتالي تخضع للتأويل.
وهنا تجب الإشارة إلى أن التحليل يختلف عن النقد في جوانب عديدة أوردنا بعضها في التعريف الأول، ولا تعادله معادلة رياضية وإن حصل اتفاق بينها في مقاربة فيلم ما. النقد أشمل وأوسع وأرحب وغير مقيّد إلا بالمعرفة الواسعة الضرورية. ولأن التحليل يظل كما قلنا تقنية قرائية، وسيلة من بين وسائل تتميز بـ «علميتها» الصارخة، العميقة حتماً، لكن الجافة أحياناً. أما النقد فهو أعمق بما أنه مرحلة الحسم والاختيار والانحياز الذوقي، وهو مما لا يتأتى إلا بالثقافة والتجربة ومقارعة الكتابة طويلاً. ويمكن بهذا المعنى أن يكون النقد السينمائي رافداً من روافد النقد الفني إجمالاً والأكبر نطاقاً، أي نقد الجماليات، وركناً من أركان فلسفة الجمال. وفي المحصلة يشكل جنساً أدبياً يتميز بارتباطه باشتغال الفن ومعمل أثره وحقل تجاربه إنسانياً ووجودياً. وهذه العلاقة الأخيرة تفرض القوة الحجاجية، وملكة الإقناع، وقوة الأسلوب، وخصوصية الكتابة الرصينة الجميلة. النقد من دون كتابة لا يسمى نقداً.
هكذا نرى حدوداً فاصلة واضحة بين التحليل والقراءة والنقد. قد تتداخل وتؤخذ بالترتيب السابق، أي تحليل ثم قراءة فنقد. ولنجرؤ الآن على طرح تفسير معادل ومواز: تفكيك ثم تركيب فتأويل. فنرى أن التحليل ليس سوى مرحلة أولى تُتناول كما العناصر والعلائق.
لقد فرض علينا طرح هذا التعريف المعروف وتجديد العهد به، كون بعض الأقلام صارت تتحجج بالأكاديمية والصرامة العلمية وإرساء المنهجية أولاً ومسبقاً، قبل كل مقاربة للفيلم. بل تفرضها فرضاً ولزوماً. وهو ما لا يعترض عليه أحد في المبدأ والطابع، لكن يتم تجاهل أمر أساسي، هو أن هذا الطرح يخص البحث العلمي بالضرورة، وليس القراءة العاشقة العارفة الذواقة المفتوحة على الاجتهاد وكل الاحتمالات غير المتوقعة. المجالات هي التي تختلف فقط، وليس الهدف السامي الذي هو المعرفة الممتعة والمفيدة. المعرفة التي لا تحدها أسوار ولا نظريات، مهما استطالت الأولى وتجملت الثانية.
مبارك حسني