تعتبر السينما الأرجنتينية حاليا الأهم من بين سينمات أمريكا اللاتينية.
فإضافة لتاريخها الكبير والطويل والذي يَمتَدَّ من بدايات القرن العشرين بحيث كانت رفقة السينما المكسيكية رائدتان في هذا المجال، إذ عرفت العاصمة بوينوس أيريس بناء أول قاعة سينمائية سنة 1900.
ومنذ الستينيات كان لهذه السينما حضور مهم في المهرجانات العالمية وحضيت باعتراف نقدي عالمي خصوصا انطلاقا من ستينيات القرن الماضي مع أسماء ك ليوبولدو طوري نيلسون في الستينيات والذي شارك بأفلامه بمهرجان «كان» نالت جوائز به، وفي سنة 1985 سيشهد فيلم «الحكاية الرسمية» للويس بوينسو نجاحا مهما وسيعرض بمهرجان «كان»، لينال بعد ذلك جائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي سنة 1986.
وفي سنة 1988 سينال فرناندو سولاناس، الذي قضى سنوات كمنفي و كلاجئ سياسي بفرنسا نظرا لأفكاره السياسية، جائزة لجنة التحكيم بـ«كان» أيضا عن فيلمه «الجنوب».
فيلم «علاقات متوحشة» عبارة عن مجموعة من الأفلام القصيرة بقصص متفرقة ولايجمع بينها سوى كونها كلها تتناول تيمة العنف الكامن داخل الإنسان، والذي لاينتظر سوى بعض الأسباب الخارجية التي قد تبدو بسيطة لكن لها في العمق رواسب في حيوات الشخوص، لكي يُعلن عن نفسه في أبشع الصور وأكثرها حيوانية.
في حيز لا يتجاوز الخمسة عشرة دقيقة لكل قصة، استطاع المخرج الأرجنتيني داميان سزيفرون أن يقدم لنا ست حالات نفسية تبدو في البدء سوية حينما نرها من وراء واجهات زجاجية لكن ما أن نُرافقها في المسار الذي وضعها فيه المخرج حتى تُذهِلنا كمِّية العنف والحيوانية التي نكتشفها فيها والتي تُبديها وكأنَّ الجانب الحيواني كان فيها هناك مختبئا فقط ويتحين الفرصة ليظهر بكل بشاعته وعدوانيته.
في القصة الأولى المعنونة بـ«باسترناك» والتي نتابعها كاملة قبل جنريك البداية تلتقي مجموعة من الناس داخل طائرة تقلع بهم في رحلة جوية ليكتشفوا بالتدريج أن ربانها «باسترناك» ليس سوى ذلك الشخص الغير سوي الذين قاموا كلهم بإذايته بشكل من الأشكال في مراحل متفرقة من حياته، وهو الذي جمعهم ليقوموا بآخر رحلة لهم نحو الموت المحتوم وهو معهم لتسقط الطائرة في الأخير على بيت أبويه.
يمرُّ الجنريك المتميز والمعبر عن الحالات التي يتناولها الفيلم والذي يرافق فيه كل اسم صورة لحيوان. لتبدأ القصة الثانية الموسومة بـ«الفئران» والتي تدور كلها داخل فضاء مغلق عبارة عن مطعم حيث يدخل شخص لتناول الطعام فتكتشف النادلة أنه كان سببا في تشريد أسرتها وانتحار والدها بعد استيلاءه على منزلهم، مُبدية رغبتها في الحديث إليه ومواجهته بما فعل، لكن الطباخة العجوز تُصرُّ على أن ليس هناك من انتقام من شخص كهذا يشفي الغليل سوى قتله، ورغم استنكار الفتاة الشابة لذلك فإنها تدع العجوز تنفِّذ ما خططت له بوضع سم الفئران في طعام الرجل…
في هذا الفيلم (الأفلام) ليست هنالك شخصيات سوية أو مسالمة إذ لكل طريقته في ارتكاب الشر وتنفيذه، حتى تلك الشخوص التي تظهر سلبية وغير مؤذية فإنها ليست كذلك سوى لأنها جبانة فقط (أو في الظاهر) وهي مستعدة لتتحالف مع الأشرار أو تدعهم ينفذون ما خططوا له بشرط أن لا تتورط هي (شخصية الفتاة في القصة الثانية).
القصة الثالثة، وهي الأقوى دراميا من بين القصصص الأخرى، تدور في طريق سيار خارج المدينة حيث لا ناس غير شخصين تجمعهما الظروف في الطريق كل واحد منهما راكب في سيارته الأول تبدو عليه مظاهر الرَّفاه والثَّراء ويركب سيارة فخمة والثاني يقود سيارة مهترئة ويبدو من مظهره سوء حالته الاجتماعية، يقع بين الإثنين سوء تفاهم بعد محاولة الأول تجاوز الثاني في الطريق، ويسبُّه، لتتعطل سيارة الأول وحينما يصل الثاني يقرر الانتقام بتكسير زجاج سيارة الثري والبول عليها، لتتطور الأمور ويتقاتل الإثنان حتى الموت لتجدهما الشرطة ورجال الإطفاء متفحِّين ومتعامقين بعد أن أشعل الثاني النار في سيارة الأول ولم يستطع الفرار بجلده وتكون آخر جملة ينطق بها شرطي موجها السؤال لزميله: «ماهو رأيك في سبب الوفاة، جريمة عاطفية؟».
يضبط داميان سزيفرون إيقاع قصصه التي لا نجد بها زيادات والتي صِيغت بشكل مكثف وبكونها تحتوي على وحدة الزمان والمكان – باستثناء قصة «بومبيطا» – بحيث لايمكنها إلا أن تكون أفلاما قصيرة بكل الشروط الصارمة التي يتطلبها صناعة فيلم قصير والذي في نظري أصعب من صناعة فيلم طويل لأن أي تطويل أو عدم ضبط لإيقاع الأحداث يجعلها تترهل وتبدو مصطنعة.
القصة الرابعة والمعنونة بـ«بومبيطا» لشخصية مهندس (يقوم بتشخيصها الممثل القديرريكاردو دارين) يتعرض باستمرار لحجز سيارته من طرف شركة لحجز السيارات وبما أنه يرى أن ذلك يتم بصورة غير شرعية ولاقانونية فإنه يقرر الاحتجاج وطلب رد الاعتبار الأمر الذي يقابل بنوع من عدم الاكتراث والسخرية من طرف موظفي الشركة مع الإصرار على ضرورة الأداء أولا لاسترجاع السيارة. انشغال المهندس في الاحتجاج يفوِّت عليه حضور حفل عيد ميلاد ابنته ويجعل زوجته تُعلن في وجهه عن يأسها من استمرار حياتهما الزوجية في ظل لامبالاته وإهماله للأسرة من ناحية وإصراره على محاربة طواحين الهواء من ناحية أخرى. وتتصاعد هيستيرية المهندس المكلف بالمتفجرات الهادمة للمباني الغير المرغوب فيها في عمله، ليقرر تفجير مكان حجز السيارات وما أن يُنفِّذ ذلك حتى يلقى ترحابا غريبا من عامة الشعب الذين يبدون تضامنهم معه ومطالبتهم بإطلاق سراحه في مواقع التواصل الاجتماعي …
تختلف هذه القصة/ الفيلم عن كل القصص الأخرى كونها لاتتضمن وحدة المكان والزمان مثلها، ويبهرنا كما العادة ريكاردو دارين بتجسيده لشخصية تتطور في عصبيتها حتى تصل لقمة العنف المخطط له عن سبق إصرار…
«العرض» هي القصة الرابعة وتدور حول رجل أعمال ثري يجد نفسه في مأزق بعد أن يرتكب ابنه الشاب المراهق حادثة سير بسيارة أبيه ويَقتُل على إثرها شخصين، ليتم الاتفاق على أن يدخل البستاني المكلف بحديقة المنزل بدله للسجن مُقابل تسليمه مبلغا ماليا لكن حين وصول الضابط المكلف بالتحقيق سوف يكتشف اللعبة وبعد مساومة بينه وبين محامي العائلة سيتم الاتفاق على مبلغ مالي بدوره لكي يصمت لكن رجل الأعمال سيتراجع عن وعده بعد أن يرى أن كُلاّ من المحامي والضابط والبستاني يبتزونه ويريدون مبالغ أكبر، لتنتهي القصة بعنف كما العادة..
يضعنا المخرج داميان سزيفرون في فيلم «علاقات متوحشة» أمام المرآة، وكأنه يجعلنا نكتشف أننا كلنا عنيفون مع وقف التنفيذ.. وفي القصة الأخيرة يتحول
عرس يبتدأ بمشاعر الحب والعشق إلى حقد وكره لنستنتج مع المخرج كم يصبح الكره والحب وجهان لعملة واحدة…
هي مجموعة من أفلام قصيرة رائعة، تجمعها تيمة العنف كمكون من مكونات الشخصية الإنسانية، والذي لا ينتظر سوى أسباب بسيطة ليعلن عن نفسه بأبشع الحالات وأكثرها دموية.
عبد الكريم واكريم