تعتبر وفاة الناقد السينمائي الكبير، الزميل والصديق سمير فريد خسارة فادحة للنقد والثقافة السينمائيين عربيا ودوليا.. وإن نسيت بعض أياديه البيضاء علي شخصيا وعلى عدد كبير من زملائي النقاد السينمائيين العرب، لن أنس لمته المثالية لأكبر عدد منا في الدورة 36 لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي الذي تشرف هذا الأخير بالرئاسة الفعلية له من طرف الأستاذ سمير، حيث نظم ندوة قيمة (حلقة بحث) حول موضوع: «مهرجانات السينما الدولية في العالم العربي» تناول فيها كل ناقد أو باحث سينمائي عربي الحديث عن المهرجان الأشد إشعاعا في بلده.. فكلفني الأستاذ سمير رحمه الله بإنجاز بحث حول المهرجان الدولي للفيلم بمراكش، قدمت على إثره عرضا مفصلا تحت عنوان: «المهرجان الدولي للفيلم بمراكش بين الهوية المحلية والتعددية الدولية».. إلى جانب الزملاء المرحوم إبراهيم الدسوقي وتكلم عن: «مهرجان الإسكندرية الدولي لأفلام حوض البحر الأبيض المتوسط».. سامي حلمي من مصر أيضا: «مهرجان الإسماعيلية السينمائي الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة».. عبد الرحمن نجدي من السودان: «مهرجان الجزيرة الدولي للأفلام التسجيلية» .. زياد عبد الله من الإمارات العربية المتحدة: «مهرجان دبي السينمائي الدولي».. بشار إبراهيم من فلسطين: «مهرجان أبو ظبي السينمائي».. ناجح حسن من الأردن: «مهرجان دمشق السينمائي الدولي».. محمد بوغلاب من تونس: «مهرجان أيام قرطاج السينمائية».. في حين أسندت إدارة الندوة وتنسيق عروضها إلى الدكتور ناجي فوزي.
وتعد هذه الباقة التي انتقاها المرحوم سمير من أشد النقاد السينمائيين نشاطا وحركية في البحث وتدوين بحوثهم ودراساتهم في الجرائد والمجلات السينمائية المتخصصة لاسيما في الكتب.. ولا غرو في ذلك فهم من مدرسة سمير فريد الذي عرف بديناميكيته وغزارة إنتاجه على مستوى التأليف الكتبي حيث خلّف أزيد من 53 كتابا عن وفي السينما العربية والعالمية.. بل إنه رحمة الله عليه، وتقديرا منه لمجهوداتنا جميعا فيما قدمناه من عروض في حلقة البحث، قرر تحويلها كلها إلى كتب يتم طبعها ضمن منشورات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته المقبلة، أي الدورة 37 سنة 2015. لكن إدارة هذا المهرجان الموالية التي تولتها ماجدة واصف، كما المؤسسة الحكومية الوصية – وزارة الثقافة المصرية التي كان على رأسها آنذاك الدكتور جابر عصفور- تجاوزتا قرار الرئيس السابق.. ضاربة بعرض الحائط ما يسمى بـ«استمرارية القرارات الإدارية» خصوصا متى كانت في صالح الإدارة الجديدة وتخدم توجهها الثقافي والإشعاعي على حد سواء.. فأقبرت قرار ورغبة الأستاذ سمير فريد بغير رحمة؟!!
بخبرة المتمرس والعارف بالمجهود المضني الذي يبذله الباحث من أجل إنجاز عرض مفصل والكتابة فيه ضمن ضوابط ومعايير محددة تتماشى وطبعة الندوة أو حلقة البحث، خصص سمير فريد مكافأة مالية مشجعة لكل باحث، إضافة إلى بطاقة الطائرة والإقامة لمدة 11 ليلة في واحد من أشد فنادق القاهرة فخامة وعراقة تاريخية.. زائد المعاملة الطيبة التي تشعرك بالفعل بأنك لم تهدر حياتك حين امتشقت قلم النقد والبحث السينمائيين. بل أكثر من هذا، حين أوشكنا على تناول الميلغ المتفق عليها من محاسب المهرجان، تم خصم نسبة معينة من قيمة هذا المبلغ كضريبة.. الشيء الذي احتج عليه سائر الزملاء لأن هذه الضريبة لم يشر إليها في أي بند من بنود الاتفاق المبرم بين كل باحث وإدارة المهرجان.. لكنهم – وكأية إدارة مالية – قالوا لنا:
– ادفعوا أولا، ثم احتجوا فيما بعد..
لكن ولا واحد منا احتج احتراما للأستاذ سمير أولا، مخافة أن نخلق له مشكلة مع الإدارة المالية للمهرجان.. وثانيا لأن مبلغ الضريبة عموما لم يكن ذو أهمية تذكر.. فاكتفينا فقط بالتشكي لبعضنا البعض وطوينا الموضوع كليا لنتفاجأ…
في اليوم الرابع للمهرجان وأثناء الندوة الذي صادف أن كنت ألقي فيها عرضي، بحضور ثلة من الضيوف كما بعض الزملاء من النقاد السينمائيين والصحافيين المغاربة والعرب بصفة عامة، كان ضمنهم المرحوم مصطفى المسناوي والزملاء محمد شويكة، أحمد الدافري وبلال مرميد… إذا بالأستاذ سمير يلج القاعة تسبقه ابتسامته كالعادة.. متأبطا كتابا وبضعة أظرفة – متأبطا كتبا – وهو نادرا ما يشاهد بغير كتاب على صدره وكأنه قلبه الذي به يتنفس ويحيى و – ليقول بأدب وصوت رخيم بالكاد يسمع:
– ما عليهش يا أساتذة، وآسف على الإزعاج (ثم وضع على المنضدة أظرفة بعدد النقاد الباحثين المساهمين في الندوة ممن كان حاضرا وأردف وقد ازدادت ابتسامته انفراجا) – دول المبالغ التي خصمت من مكافآتكم كضريبة.. فقد علمت بالأمر فقط مـؤخرا بعض وسويت المشكلة.. احنا حقيقي آسفين..
ولا زلت أذكر أيضاأنه زيادة على الظرف الذي يضم المبلغ المخصوم، مد لي الأستاذ سمير كذلك بطاقة المهرجان التي تحمل اسمي، صورتي كما أهم المعلومات عني (البادج) والذي لم أعثر عليه منذ افتتاح المهرجان حتى اليوم الرابع منه! إلى أن صرت أخجل بالمطالبة به فكففت. فلست أدري كيف علم الأستاذ سمير بالأمر وحله ببساطة مطلقة. وحين سلمت بعض مؤلفاتي الأخيرة وضمنها كتابي عن الجديدة ولبعض إصدارات مهرجان قال والفرحة تشع من عينه تكاد تخترق زجاج نظارتيه:
– شكرا خالد.. دول أحسن هدية أتوصل بها…
أقول هذا وأكتبه مقاوما دفقة دموع غشيت بصري عيني لما كان يتمتع به هذا الرجل الاستثنائي من مكارم الأخلاق، سمو التواضع والسلوك الإنساني المثالي، إلى جانب سعة المعرفة والتحكم الحرفي الذي كان يميزه سواء كناقد متمرس أو كرئيس متمكن، أعاد لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي بريقه كما منحه شحنة ثقافية ونقدية أعطت للنقد والنقاد السينمائيين العرب ما يستحقونه من تقدير واعتبار. ويكفي أنه في نفس الدورة كرم واحدا من أكبر النقاد السينمائيين العرب وأشدهم حنكة ألا وهو المغربي الأستاذ نور الدين الصايل. وسوف أنشر قريبا المقال الذي كتبته عنه تحت عنوان: «وراء كل مهرجان عظيم ناقد عظيم» حيث أشدت بحسن إدارته لهذا المهرجان الذي عرف طفرة نوعية كبيرة في عهده لم تستمر للأسف بسبب تقديم سمير لاستقالته حين رفض الاستسلام أو الخضوع لسلطة وبيروقراطية الإدارة والوزارة المصرية المهيمنة على هذا المهرجان العتيد..
لكن قبل وبعد حسن الإدارة.. وقبل وبعد التمكن الحرفي والفكري في فن النقد السينمائي، فسمير فريد كان إذا التقيته يشعرك بالأبوة إذا كنت أصغر منه سنا.. وبالأخوة إذا كنت تماثله أو تقترب منه فيه.. أما إذا لم تستطع أن تحدد له عمرا، فإنه يغرقك في فيض من الحب واللطف يشعرك وبامتياز كبير بـ«إنسانيتك» وبأنك لم تهدر وقتك حين اعتنقت ناموس النقد السينمائي واعتكفت في محرابه طوال حياتك.. رحمك الله عزيزنا سمير.. وسيظل تلامذتك على دربك سائرين مهما ارتفعت أو تدنت مستويات الأفلام .. أو الكتابات السينمائية أو المهرجانات.. أو المديرين والمديرات…
خالد الخضري