في أمسية ثقافية احتضنتها العاصمة الرباط، جرى، مساء الخميس، عرض الفيلم الوثائقي «من يراقبون» للمخرجة المغربية البلجيكية كريمة السعيدي، في لقاء سينمائي قدّم للجمهور تجربة بصرية وإنسانية عميقة، تلامس العلاقة الروحية التي تربط الأحياء بأمواتهم، وتعيد التفكير في معنى الذاكرة والغياب داخل سياق الهجرة وتعدد الانتماءات الدينية.
الفيلم، الذي نظم عرضه بمبادرة من مجلس الجالية المغربية بالخارج ومنتدى خريجي بلجيكا، يسلّط الضوء على الكيفية التي يعيش بها المهاجرون، المنتمون إلى الديانات السماوية الثلاث، علاقتهم بأحبائهم الراحلين، كاشفًا عن أشكال متعددة من الوفاء والاتصال الرمزي مع الموت، بعيدًا عن الصور النمطية السائدة حول المقابر بوصفها فضاءات للصمت والنسيان.
وعلى مدى 87 دقيقة، تقود كريمة السعيدي كاميرتها إلى المقبرة متعددة الأديان في بروكسيل، لتحوّل هذا المكان، الذي غالبًا ما يُنظر إليه كحيّز للعزلة، إلى فضاء نابض بالحياة، يحتفي بالذاكرة الجماعية والفردية، ويمنح الموتى حضورًا ممتدًا عبر طقوس، وحكايات، ومشاعر إنسانية صادقة. هذه المقبرة، بما تحمله من خصوصية، تشكّل نموذجًا فريدًا للتعايش الديني، حيث تتقاسم مختلف الطوائف الفضاء نفسه في احترام متبادل لشعائرها ومعتقداتها.
ومن خلال لقاءات حميمية مع زوار المقبرة، يعكس الفيلم علاقات شخصية متشابكة بين الأحياء ومن فقدوهم، تمتزج فيها المأساة بنبرة من السخرية الخفيفة، ويتجاور الشعر مع الفكاهة، في مقاربة إنسانية تبرز قدرة الإنسان على الإبداع في مواجهة الموت وتحويل الفقد إلى فعل تواصل واستحضار للذكرى.
وبلغة سينمائية دقيقة ومتماسكة، تتناول المخرجة معاناة الغياب الجسدي للأحبة، مع التركيز على البعد الكوني للموت، عبر استعراض عادات ومراسيم الدفن لدى المسلمين واليهود والمسيحيين الأرثوذكس، في طرح يبرز القواسم المشتركة بين التجارب الإنسانية رغم اختلاف المرجعيات الدينية والثقافية.
وفي تصريح لها، أكدت كريمة السعيدي أن هذا العمل جاء ثمرة جهد طويل ورغبة صادقة في تمكين الجمهور من اكتشاف المقبرة متعددة الأديان في بروكسيل باعتبارها فضاءً ذا قيمة رمزية وإنسانية كبيرة، يتجاوز وظيفته التقليدية ليصبح مكانًا للذاكرة والحوار.
من جهته، نوّه رئيس مجلس الجالية المغربية بالخارج، إدريس اليزمي، بجودة الفيلم وعمقه الإنساني، معتبرًا أنه يلتقط بدقة تحولات تجربة الهجرة، ومجددًا في الوقت ذاته التزام المجلس بدعم عرض وإشعاع إنتاجات مغاربة المهجر داخل المغرب، في مختلف المجالات الإبداعية.
ويُذكر أن فيلم «من يراقبون» عُرض بشراكة مع المندوبية العامة لمنطقة والونيا-بروكسيل في المغرب، وبدعم من المركز السينمائي المغربي، وشارك في عدد من التظاهرات السينمائية الدولية، من بينها المسابقة الدولية لمهرجان الفيلم الوثائقي بأمستردام، ومهرجان السينما المتوسطية ببروكسيل، إضافة إلى تقديمه ضمن فقرة «بانوراما السينما المغربية» في الدورة الأخيرة للمهرجان الدولي للفيلم بمراكش.
وتُعرف كريمة السعيدي بأعمالها التي تنشغل بتيمتي المنفى والذاكرة، حيث راكمت مسيرة مهنية متعددة الأبعاد، اشتغلت خلالها كمخرجة ومحررة أفلام وثائقية، إلى جانب إشرافها على كتابة سيناريوهات أفلام روائية، في مسار فني يزاوج بين الحس الإنساني والاشتغال الجمالي العميق.
سينفيليا

