في الساعات التي تلت الإعلان عن وفاة المخرج الأمريكي روب راينر عن 78 عاماً في 14 دجنبر، امتلأت منصات التواصل الاجتماعي باستعراض مسيرته السينمائية اللافتة، خاصة تلك السلسلة الذهبية من الأفلام التي قدّمها بين ثمانينيات ومنتصف تسعينيات القرن الماضي، والتي شكّلت مرحلة استثنائية في تاريخ هوليوود. كما حظي راينر بإشادة واسعة لدوره الطويل في الدفاع عن القضايا التقدمية، وهو مسار بدأ مبكراً منذ بروزه ممثلاً في المسلسل الشهير “All in the Family”، الذي جعله نجماً في سبعينيات القرن الماضي، ورسّخ صورته كفنان ملتزم اجتماعياً.
ورغم مكانته الكبيرة، لم يكن راينر مخرجاً ذا بصمة أسلوبية صارخة أو هوية بصرية يسهل تمييزها، كما هو الحال مع عدد من كبار المخرجين المعاصرين. بل كان ينتمي إلى جيل من صناع السينما الذين جعلوا هدفهم الأساسي تقديم أفلام ذكية، إنسانية، وقادرة على مخاطبة جمهور واسع دون افتعال أو استعراض. في ذروة مسيرته، كان راينر نموذجاً للمخرج “الصانع” الذي يضع القصة والممثلين في الواجهة، ويكتفي بإدارة العمل بحرفية عالية.
تنقّل راينر بسلاسة بين أنواع سينمائية متعددة، من الكوميديا الساخرة، إلى أفلام المراهقة، والرومانس، وأفلام النضج الإنساني، والرعب، والدراما القضائية، والفانتازيا، في مسار متنوع قلّ نظيره. ورغم أن توهجه خفّ في سنواته اللاحقة، إلا أن إرثه الفني ظل عصياً على الاختزال، وغنياً بما يكفي ليمنحه مكانة خاصة في الذاكرة السينمائية.
أفلام مثل “When Harry Met Sally” بدت طبيعية وعفوية إلى حد أن بصمة الإخراج تكاد لا تُرى، لا لضعفها، بل لكونها اختارت التواري خلف النص والأداء. الأسلوب نفسه طبع أعماله مع آرون سوركين مثل “A Few Good Men” و“The American President”، حيث بنى راينر إطاراً أنيقاً احتضن الحوارات القوية، دون أن يفرض حضوره أو يثقل الفيلم بذاتية زائدة.
هذا النوع من الإخراج، الذي يوازن بين الجودة الفنية والجاذبية الجماهيرية، طالما قوبل بتقليل من شأنه، لكنه اليوم يبدو مهارة نادرة في زمن تتسع فيه الهوة بين سينما المؤلف وسينما السوق. ورغم بساطته الظاهرة، كان راينر يضفي على أفلامه حساً إنسانياً خاصاً، يتجلى بوضوح في أعمال مثل “The Princess Bride” و“Misery”، حيث تمتزج السخرية بالرهافة، والخوف بالتعاطف.
ومع مرور الزمن، فقد راينر شيئاً من سحره، كما حدث مع كثير من مخرجي الصف الأول، غير أن سنوات عطائه الذهبية كانت كفيلة بترسيخ اسمه كأحد صناع المرحلة. لم يسعَ إلى تمجيد ذاته، بل كان جزءاً أصيلاً من نسيج هوليوود، مؤمناً بدورها الفني والأخلاقي. وربما لهذا السبب، لا تزال أفلامه تُشاهد وتُكتشف من جديد، جيلاً بعد جيل، شاهدة على أن روب راينر لم يكن مجرد مخرج محترف، بل صانع سحر سينمائي حقيقي ودائم.
سينفيليا

