مقدمة: حين يصمت المخرج وتتكلم الشاشة
في السابع والعشرين من يوليو 2008، خسر العالم العربي أحد أعمدة السينما وأجرأ الأصوات الفكرية، برحيل المخرج المصري يوسف شاهين عن عمر ناهز الثانية والثمانين عامًا. ورغم مرور سبعة عشر عامًا على وفاته، لا تزال أفلامه تُعرض، تُناقش، وتثير الجدل، كما لو أنه لم يغب قط. فالرجل لم يكن مجرد صانع صور، بل صانع مواقف وأسئلة، وسينماه كانت مرآة لعقله المضطرب، لقلبه المثقل بالحُبّ، ولمجتمعه الممزّق بين الحلم والخذلان.
نشأة شاهين… خليط من ثقافات الإسكندرية
وُلد يوسف شاهين في 25 يناير 1926 بمدينة الإسكندرية، المدينة التي ستشكّل لاحقًا مسرحًا دائمًا لذاكرته البصرية. نشأ في أسرة متعدّدة الثقافات؛ والده لبناني كاثوليكي ووالدته من أصول يونانية، وتلقى تعليمه الأول في مدرسة سان مارك الفرنسية ثم في مدرسة فيكتوريا الإنجليزية، ما أتاح له تعددية لغوية وثقافية كان لها الأثر البالغ في تشكيل وعيه.
في سن التاسعة عشرة، سافر إلى الولايات المتحدة لدراسة الفنون المسرحية والسينما في معهد “باسادينا بلاي هاوس” بكاليفورنيا، وهناك انفتح على مدارس الإخراج العالمية، خصوصًا الواقعية الإيطالية والسينما الاستعراضية الأمريكية.
عودة إلى مصر… وبداية مغامرة سينمائية
عاد شاهين إلى القاهرة في نهاية الأربعينيات، ليبدأ أولى خطواته العملية بإخراج فيلمه الأول “بابا أمين” عام 1950، ثم “ابن النيل” عام 1951 الذي عُرض في مهرجان كان، ولفت إليه أنظار العالم. منذ تلك اللحظة، لم تكن أفلامه مجرد تسلية، بل كانت شحنة فكرية وفنية دفعت بالسينما المصرية خارج النمط السائد، وجعلت منها مجالًا لتفكيك الواقع وإعادة تأويله.
باب الحديد… ثورة في بناء الشخصية والجرأة
عام 1958، فجّر شاهين قنبلة سينمائية بفيلمه “باب الحديد”، الذي لم يكن فقط من بطولته وإخراجه، بل بمثابة ولادة جديدة للسينما المصرية، حيث تناول الهوس، الهامش، والجنس المكبوت، داخل محطة مصر. لم يكن الفيلم مرحبًا به شعبيًا في البداية، لكنه تحول لاحقًا إلى أيقونة سينمائية تُدرّس في الجامعات، وتُحلل في المهرجانات العالمية.
السينما والسياسة… حين يشتبك المخرج مع الوطن
لم يكن يوسف شاهين مخرجًا محايدًا، بل كان دائم الاشتباك مع السلطة، مع التاريخ، ومع المجتمع. أفلام مثل “الناصر صلاح الدين” (1963) حملت رؤية قومية مغايرة، بينما شكلت ثلاثية “إسكندرية… ليه؟” (1978)، “حدوتة مصرية” (1982)، و”إسكندرية كمان وكمان” (1990) نوعًا من السيرة الذاتية السياسية والفكرية، حيث يخلط شاهين بين الشخصي والوطني، بين البوح والنقد.
في هذه الثلاثية، تحدّث عن أحلام جيله، عن انكسارات ثورة يوليو، وعن علاقته المعقّدة بالغرب، كما لم يخفِ نقده للتيارات الدينية أو للبيروقراطية العسكرية، مما عرّضه غير مرة لمضايقات رقابية وهجوم إعلامي.
أفلام يوسف شاهين… سجل حافل يعكس مراحل تطوره الفكري والفني
على امتداد أكثر من خمسة عقود، أنجز يوسف شاهين قائمة طويلة من الأفلام المتنوّعة في أساليبها وموضوعاتها، كانت بمثابة مراحل متكاملة لتطور رؤيته الفكرية والفنية. من الواقعية الاجتماعية، إلى التاريخ السياسي، ثم التأملات الذاتية والسجالات الفلسفية. إليك قائمة كاملة بأفلامه، مرتبة زمنيًا:
-
ابن النيل (1951)
-
المهرج الكبير (1952)
-
سيدة القطار (1952)
-
نساء بلا رجال (1953)
-
صراع في الوادي (1954)
-
شيطان الصحراء (1954)
-
صراع في الميناء (1956)
-
ودعت حبك (1957)
-
أنت حبيبي (1957)
-
جميلة (1958)
-
باب الحديد (1958)
-
حب إلى الأبد (1959)
-
بين إيديك (1960)
-
رجل في حياتي (1961)
-
نداء العشاق (1961)
-
الناصر صلاح الدين (1963)
-
فجر يوم جديد (1964)
-
بياع الخواتم (1965)
-
رمال من ذهب (1966)
-
النيل والحياة (1968)
-
الأرض (1969)
-
الاختيار (1970)
-
العصفور (1972)
-
الناس والنيل (1972)
-
عودة الابن الضال (1976)
-
إسكندرية… ليه؟ (1978)
-
حدوتة مصرية (1982)
-
وداعًا بونابارت (1985)
-
اليوم السادس (1986)
-
إسكندرية كمان وكمان (1990)
-
المهاجر (1994)
-
المصير (1997)
-
الآخر (1999)
-
سكوت حنصور (2001)
-
إسكندرية – نيويورك (2004)
-
هي فوضى (2007) (شارك في الإخراج مع خالد يوسف)
فيلم “المصير” (1997): دفاع سينمائي عن العقل والحرية
يعتبر “المصير” من أبرز أفلام يوسف شاهين وأشهرها، حيث يتناول حياة الفيلسوف ابن رشد، الذي عانى من الظلم والاضطهاد بسبب آرائه العقلانية التي تعارضت مع التيارات الدينية المتشددة في الأندلس.
يقدم الفيلم سردًا تاريخيًا غنيًا بأسلوب درامي فني، جسد فيه شاهين فكرة أن الفكر الحر لا يمكن كبحه أو القضاء عليه مهما حاول الظلام حرق الكتب وقمع الأصوات.
حصل الفيلم على استحسان دولي واسع وشارك في مهرجان كان السينمائي، مؤكدًا مكانة شاهين كمخرج عالمي يتمتع برؤية إنسانية عميقة.
السينما كأداة للنقد والتغيير
لم يكن يوسف شاهين مخرجًا منفصلًا عن الواقع، بل كان منخرطًا بقوة في الحياة السياسية والاجتماعية. جسد أفلامه مواقف نقدية صريحة، سواء من الاستعمار، أو من الأنظمة الحاكمة، أو من الأوضاع الاجتماعية، بل وأحيانًا من الدين والتقاليد.
كانت أفلام مثل “الناصر صلاح الدين” (1963) و”عودة الابن الضال” (1976) تعبيرًا عن هواجسه الوطنية، بينما مثلت ثلاثية “إسكندرية” (1978، 1982، 1990) سيرة ذاتية ومرآة لتجربة الوطن والمجتمع في العصر الحديث.
رغم أن شاهين تعرض لمواقف عنيفة من الرقابة وانتقادات لاذعة من بعض الجماهير، إلا أنه لم يلين في مواقفه، وظل يعتقد أن الفن يجب أن يكون حرًا ويطرح الأسئلة مهما كانت صعبة.
علاقته بالممثلين وصناعة النجوم
كان شاهين معروفًا بقدرته الفريدة على استكشاف المواهب السينمائية الجديدة. اكتشف عمر الشريف ومنحه أدوارًا كانت نقطة انطلاقه، ورفع من مكانة أحمد زكي، وعمل مع عدد كبير من النجوم العرب الذين اعتبرهم شركاء في رحلته الفنية.
تميز بعلاقته الإنسانية مع الممثلين، مطالبًا إياهم بالغوص عميقًا في أدوارهم، والتعبير عن تعقيدات النفس البشرية، وليس فقط تقديم أدوار تقليدية.
الجوائز الدولية والاعتراف العالمي
حصل شاهين على العديد من الجوائز خلال مسيرته، وكان حضورًا دائمًا في المهرجانات الدولية مثل كان وبرلين والبندقية.
في عام 1997، حصل على “السعفة الذهبية الخاصة” في مهرجان كان تقديرًا لمسيرته الطويلة وإسهاماته في تطوير السينما العالمية.
وقد أقر كبار المخرجين العالميين، مثل ديفيد لين، بتأثير شاهين، معتبرينه مفتاحًا لفهم المزاج المصري والثقافي في أعماله.
ديفيد لين… مفاجأة عالمية عن شاهين
في الذكرى الـ17 لوفاته، كشفت صحيفة “اليوم السابع” عن شهادة نادرة للمخرج العالمي ديفيد لين، صاحب أفلام “لورانس العرب” و”جسر على نهر كواي”، قال فيها إن “يوسف شاهين هو المفتاح لفهم المزاج المصري المتقلّب”، وأضاف أنه درس بعض مشاهده قبل تصوير “لورانس العرب”. هذا الاعتراف يسلط الضوء مجددًا على تأثير شاهين العالمي، حتى على صُنّاع كبار في هوليوود.
الختام: إرث خالد وبوصلة للأجيال القادمة
ترك يوسف شاهين وراءه أكثر من أربعين فيلمًا تشكل متحفًا حيًا لتاريخ السينما العربية وتاريخ مصر الحديث. كما أسس مدرسة فنية ذات رؤية متميزة، وأثرى السينما العربية والعالمية بفكره وفنه.
في ذكراه، لا يخلد شاهين فقط كرمز فني، بل كصوت ناقد وضمير حقيقي للإنسان العربي، يطالب بالحرية والتغيير والعدالة.
سينفيليا