«ولكن أنت لا تستسلم…
هل تسمعني؟…
طالما يمكنك التنفس فقاوم..
تنفس…استمر بالتنفس..»»
بهذه الكلمات تفتتح الوقائع والمشاهد في الفيلم العالمي الذي سرق أضواء هوليود سنة 2015 the revenant، والذي أخرجه مخرج الأوسكار المكسيكي الأصل أليخاندرو كونزاليز ايناريتو، من إنتاج شركة centery fox 20th.
والمشاهد المتأمل في هذه الكلمات التي افتتحت أحداث الفيلم، سيدرك في نهاية مشاهدته، أنها تلخص كل الأحداث والمشاهد التي غاص فيها أثناء العرض، إنه ذلك الصوت/ الطيف الذي لازم بطل الفيلم «هيو غلاس» منذ بداية المغامرة، صوت يدعو إلى التشبت والارتباط والتمسك بالحياة طالما هناك أمل للتنفس والمقاومة وعدم الاستسلام، وهذا المقطع يجسد صورة فيلمية قبلية تخفي في شفراتها الإيحائية تيمة الفيلم الأساسية التي اشتغل عليها ايناريتو، والتي ستنجلي في الأحداث والمشاهد البعدية، حينما سيتبين أن كل المنعرجات والمغامرات التي صادفت البطل في الفيلم ما هي إلا تجسيد ورصد لموضوع : «الصراع من أجل البقاء».
إنه صراع مزدوج يخوضه هيو غلاس ضد المعيقات (العامل المعيق) من أجل تنفيذ توصيات الصوت/ الطيف (العامل المحفز) الذي يدعوه إلى التشبث والمقاومة والنهوض بعد كل عثرة، فتارة يصارع الصعوبات الطبيعة: المناخ القاسي ـ المياه الباردة ـ الأمطار والثلوج الغزيرة ـ الأدغال الموحشة ـ الحيوانات المتوحشة (الدببة)، وتارة أخرى يصارع العراقيل البشرية التي تهدد وجوده وكيانه: حقد وكراهية جون فيتزجيرالد الذي كان يريد التخلص منه ـ هجومات الهنود الحمر ـ أطماع البعثة الاستكشافية الفرنسية…
ولتجاوز هذه المنعرجات القاسية، كان لزاما على «هيو» إيجاد طرق وتقنيات ووسائل مساعدة (العامل المساعد) تساعده على التكيف مع الوضعيات الصعبة التي واجهها. ومن غريب الصدف أن تكون هذه الوسائل منبثقة ومتولدة من نفس المعيقات التي واجهته، فالطبيعة التي حاصرت طريقه بأشواك المخاطر، هي نفسها التي ستبعث له بالحلول المساعدة، فالدب الذي هجم على «هيو» وكاد يفتك به في بداية الرحلة، هو نفسه الذي سيقيه من أنياب المناخ القاسي الذي سيواجهه، بعد أن احتفظ بفروه ـ بعد قتله ـ لغاية الوقاية من البرد، كما أن مخالب الدب التي احتفظ بها «هيو» وقلدها عنقه، كانت رمزا ووسيلة دعم معنوي له من أجل المقاومة والتشبت بالحياة وعدم الاستسلام مثلما يتشبت الدب بواسطتها في الطبيعة الموحشة لحماية نفسه والحفاظ على بقائه. ولا ننسى أيضا أن الحصان الذي استعمله أعداؤه الفرنسيون للإغارة والفتك بالقبائل الهندية (ومنها قبيلة زوجته وابنه)، هو نفسه الذي سيساعده على الهروب من هجمات الهنود الحمر، وهو أيضا الذي سيقيه من شر البرد القاسي بعد أن شق بطنه واختبأ داخله بحثا عن الدفئ. ضف كذلك إلى العوامل المساعدة الهندي الذي أنقد حياة «هيو» وساعده على متابعة مسيرة الحياة، بالرغم من أن قبائل الهنود كانوا يصارعون هؤلاء الغرباء الذين احتلوا أراضيهم وسرقوا خيراتهم.
وإذا كانت الطبيعة بعناصرها المتنوعة شكلت حاجزا ـ في البداية ـ أمام رغبة «هيو» في الانتقام من قاتل ابنه «فيتزجيرالد، فإنها ستسخر قواها ـ مع تطور أحداث الفيلم ـ من أجل بلوغ البطل لهدفه (الانتقام). فإذا كانت التداريس الجغرافية الصعبة، والمناخ القاسي البارد، والمياه الباردة، والأراضي الخالية الموحشة، قد اعترضت طريق «هيو» في البداية، فإنها أيضا رسمت له خطة الوصول إلى الهدف، وساعدته في تجاوز كثير من المخاطر والعقبات (سباحته في المياه الباردة هروبا من هجمات الهنود، معرفته لمكان هروب فيتزجيرالد من خلال آثار أقدامه على الثلوج…)، وقد تعمد المخرج كونزاليز ايناريتو هذا الازدواج في الدور الذي أسنده لعناصر الطبيعة، من خلال اعتماده على تقنيات متنوعة ركزت أساسا على الإضاءة الطبيعية، ففي اللحظات الموحشة الصعبة التي تواجه البطل يلجأ المخرج إلى الإنارة الخافتة، حيث تتغطى السماء بالغيوم الزاخرة بالثلوج أحيانا، وبالأمطار الغزيرة أحيانا، وما يزيد من ظلمة المكان هي تلك الأشجار الكثيفة التي تغطي السماء المتلبدة، والتي كثيرا ما يركز عليها المخرج من خلال تركيز الكاميرا عموديا (من الأسفل إلى الأعلى) عليها وهي تتحرك بين أنامل الرياح. وبما أنها تتحرك، فالحركة تولد التغير والتحول، وهذا ما نستشفه من خلال تحول السماء الملبدة بالغيوم والثلوج، إلى سماء منيرة يسطع وهج الشمس منها، ويتسلل عبر أغصان هذه الأشجار إلى وجه «هيو» في لحظات الفرج و الانعتاق، وقد كان لهذا المشهد حضور قوي ومتكرر في لحظات الفيلم، وهو هنا رسالة فنية تجسد الاستمرار في المقاومة والصراع من أجل البقاء إلى حين تحقيق الهدف (الانتقام).
ومن أجل أجل خلق الجمالية الفيلمية، المواكبة والمتوافقة مع طبيعة الموضوع، استعان ايناريتو بمجموعة من العناصر الفنية والتقنية، يبقى أبرزها بطبيعة الحال ما يخص الجانب التشخيصي والتصويري، فقد برع ليوناردو دي كابريو كثيرا في أدائه دور «هيو غلاس» متقمصا بذلك دورا اعتبره الدور الأصعب الذي جسده في حياته السينمائية (سباحته في مياه درجة حرارتها تحت الصفر، أكله كبد ثور بوفالو، معايشته لظروف مناخية قاسية وتضاريس جغرافية صعبة….)، ضف إلى ذلك أن ايناريتو اختار لفيلمه هذا البعد التشخيصي، خاصة مع تقليصه لمساحة الحوار، وتركيز الكاميرا على تفاصيل الأداء وتفاصيل الجسد المقاوم للحظة فنائه، الساعي للحفاظ على بقائه. إنها المقاومة والرغبة في أخد الثأر التي تفرض على الجسد التحرك والتفاعل والاستمرارية في مساحة الصورة، وهذا ما أتقنه أيضا البارع توم هاردي في أدائه لدور الشرير الحاقد فيتزجيرالد، فاختياره من قبل المخرج لأداء هذا الدور لم يكن من قبل الصدفة، بل لتناسب وتوافق صفات توم وملامحه مع هذا الدور(الحقد، الكراهية، الرغبة في القتل، الحسد، الشر…)، واختيار ايناريتو هنا لتوم يذكرنا باختيارات مخرج الويسترن سباغيتي العالمي سيرجيو ليوني لشخصية الشرس التي أداها الممثل لي فان كليف باقتدار وبراعة في فيلم «الطيب والشرس والقبيح»، حيث كانت ملامح الشروالحقد تتقطر من ملامح «فان» من بداية الفيلم إلى نهايته.
أما فيما يخص التصوير، فلا شك أن أسلوب المكسيكي ايمانويل لوبزكي المتفرد في التصوير السينمائي راق لعديد النقاد العالميين، خاصة بعد تحصله على جائزة الأوسكار لثلاث مرات متتالية عن فيلمه (جاذبية) مع المخرج ألفونسو كوارون سنة 2013 وفيلميه الأخيرين رفقة ايناريتو (بيردمان) 2014 و(العائد) الذي نحن في صدد الحديث عنه. والمتأمل لأسلوب لوبزكي من خلال الفيلمين الأخيرين سيلاحظ مدى براعته في إطالة مدة اللقطة، من خلال ما يسمى بتقنية «اللقطة الواحدة» أو «اللقطة الطويلة»، التي تصل مدة الواحدة منها إلى 10 دقائق او أكثر، وهذا ما شاهدناه في لقطة صراع «هيو» مع الدب. إنه أسلوب مميز يسعى لإخفاء المونتاج والتقليص من حجمه، من خلال اعتماد تقنية «الكاميرا المترصدة» التي تتبع وتترصد خطوات الممثلين، وتحيط بمختلف جوانب الفضاء المكاني، وذلك بالاعتماد على تصوير يتعدى حدود الكاميرا التى بين يديه فيطير ويقفز ويحلق فى الفضاء ويسقط فوق المياه وفوق الشلالات وبين أشجار الغابة ومن فوق الجبال لنرى مشاهد مختلفة ومتنوعة محيطة بكل جوانب الفيلم ومعتمدة بالدرجة الأولى على التصوير الطبيعي الصادق في نسخه للمشهد المباشر . كما ارتكز الفيلم على لقطات مكبرة في الغالب تترصد المستوى التشخيصي الذي يجسد مقاومة البطل من أجل البقاء ضد الحواجز والمعيقات الطبيعية، وإصراره على الانتقام وأخد ثأر ابنه من الهارب فيتزجيرالد.
وأسند ايناريتو دور إنجاز الموسيقى التصويرية للفيلم، للثنائي «ريويتشي ساكاموتو» و«كارستن نيكولاي»، وجاءت الموسيقى متناسبة مع طبيعة الفيلم، من خلال الاعتماد على ألحان صامتة متوافقة مع طبيعة اللحظة وتطورها في الفيلم، فتارة ننصت لتلك الألحان الموحشة المرعبة التي يتولد رنينها في ظل الامتحان الصعب الذي يجتازه «هيو» في مقاومته لعناصر الطبيعة الموحشة والمناخ القاسي، وتارة أخرى تتلود تلك النغمات الشجية الرنانة المرافقة لبروز لحظة الانفراج وبزوغ وهج الشمس الدال على استمرار الوجود.
وفي الختام، يمكن القول أن المخرج كونزاليز ايناريتو، أنجز لنا ـ من خلال فيلمه العائدـ تحفة سينمائية راقية من كل المقاييس التقنية والفنية، وهذا ما برر ترشحه وحصده لأكبر الجوائز السينمائية سنة 201ف، سواء في الكولدن غلوب، أو جوائز النقاد، أو جوائز البافتا، أو الأوسكار التي توجت مسيرة ليوناردو دي كابريو الحافلة بالجهد والعمل والمكابدة من أجل الفن، ورسخت مكانة كونزاليز ايناريتو كأحد أبرز المخرجين العالميين في وقتنا الراهن، ضف لذلك أنها كرست هيمنة ايمانويل لوبزكي على جوائز التصوير السينمائي للسنة الثالثة تواليا، وهذا ما كان له أن يكون لولا الاندماج والتوافق والاتحاد والعمل الجاد الذي ميز طاقم فيلم العائد، خاصة في ظل الظروف المناخية والجغرافية الصعبة التي رافقت إنجاز الفيلم.
محمد فاتي