في مثل هذا اليوم، الثامن والعشرين من نوفمبر، تتجدّد ذكرى رحيل الفنانة الكبيرة شادية، إحدى أهم أيقونات الفن العربي في القرن العشرين. ورغم مرور سنوات على غيابها، ما زال حضورها الفني والإنساني راسخًا في الوجدان العربي، تتردد أغانيها في البيوت والمقاهي والاحتفالات، وتُعرض أفلامها على الشاشات كأنها ما زالت تُصنع اليوم. لم تكن شادية مجرد نجمة سينمائية أو صوت غنائي ناجح، بل كانت حالة فنية متفردة، جمعت بين الموهبة الفطرية والذكاء الفني والقدرة على لمس القلوب ببساطة شديدة.
طفولة شكلت ملامح فنانة استثنائية
وُلدت شادية في الثامن من فبراير عام 1931، واسمها الحقيقي فاطمة أحمد كمال. نشأت في حي الحلمية الجديدة بمنطقة عابدين في القاهرة، لأسرة بسيطة ينتمي والدها فيها إلى الطبقة الوسطى، حيث عمل مهندسًا زراعيًا ومشرفًا على الأراضي الملكية. كانت الأسرة صغيرة ومتماسكة، ولها شقيقة واحدة تُدعى عفاف، التي لطالما كانت قريبة من شادية ورفيقة طفولتها.
منذ طفولتها، كانت شادية تمتلك صوتًا مختلفًا تخطف به الانتباه، وكانت تحب الغناء أمام أسرتها وأقاربها. لم تكن تدرك يومها أنها ستتحول لاحقًا إلى إحدى أعذب الأصوات التي عرفتها الأغنية العربية، وأن صوتها سيصبح جزءًا من ذاكرة المصريين، وملمحًا فنيًا لا يمكن تجاوزه في تاريخ الفن.
البداية… لقاء غيّر حياتها
دخلت شادية عالم الفن من أوسع أبوابه، حين التقت المخرج الكبير أحمد بدرخان الذي كان يبحث عن وجوه جديدة تضخ دماءً مختلفة في السينما المصرية. تقدمت فاطمة الصغيرة للاختبار، فشدّ انتباه بدرخان صوتها وطريقتها في الأداء، ليقرر منحها الفرصة الأولى في حياتها.
بدأت شادية بأدوار صغيرة ظهرت خلالها موهبتها الجذابة، وكان أول ظهور بارز لها من خلال فيلم “أزهار وأشواك”، لتبدأ رحلة صعود حقيقي نحو قمة السينما المصرية. كان حضورها طاغيًا، يجمع بين البراءة والمرح والقدرة على الأداء التمثيلي الطبيعي الذي يقترب من القلب دون عناء.
“العقل في إجازة”… نقطة التحول
التحول الحقيقي في مسيرة شادية جاء عندما رشّحها بدرخان للمخرج حلمي رفلة والنجم الكبير محمد فوزي في فيلم “العقل في إجازة”. كان الفيلم أول بطولة لها، وأول إنتاج لفوزي، وهو أيضًا أول إخراج لحلمي رفلة. لم يتوقع أحد أن يحقق العمل ذلك النجاح الساحق، لكن شادية أبهرت الجمهور بخفة ظلها وصوتها الناعم وشخصيتها المرحة.
نجاح الفيلم شكّل ولادة “الدلوعة” التي عرفها الجمهور لاحقًا، وفتح الباب أمام سلسلة من النجاحات مع محمد فوزي، من بينها:
-
صاحبة الملاليم
-
بنات حواء
-
الروح والجسد
-
الزوجة السابعة
ومع كل فيلم، كانت تتأكد مكانتها كسندريلا الشاشة ووجهها البريء الذي يستحيل ألا يترك أثرًا عند المشاهدين.
قدرة نادرة على التنقل بين الأدوار
ما ميّز شادية حقًا هو قدرتها على التلون. لم تبقَ في قالب واحد، بل استطاعت أن تتقن:
-
الأدوار التراجيدية
-
الأدوار الرومانسية
-
الكوميديا
-
الأفلام الاجتماعية
-
الأعمال الغنائية
كانت تمتلك حضورًا خفيفًا وطاقة إيجابية تجعل المشاهد يحبها بلا مقاومة، وبالمقابل كانت تستطيع أن تُبكي الجمهور بدورٍ درامي دون أن تفقد بساطتها.
حافظت شادية على احترام الجمهور طوال مسيرتها، ولم تقدّم سوى الأعمال التي اقتنعت بها، لذلك بقيت أعمالها حيّة حتى اليوم، تُعرض وتُشاهد وتمنح شعورًا بالجمال والحنين.

شادية المسرح… معجزة “ريا وسكينة”
في عام 1983، فاجأت شادية الجمهور بقرار جديد: دخول عالم المسرح من خلال مسرحية “ريا وسكينة”، التي تحولت إلى واحدة من أشهر المسرحيات في تاريخ المسرح العربي الحديث.
وقفت شادية على المسرح أمام عمالقة مثل:
-
عبد المنعم مدبولي
-
سهير البابلي
-
أحمد بدير
كانت تجربة فريدة وشديدة التميز، أظهرت قدرة شادية على إضافة طاقة جديدة للفن المسرحي، حيث قدمت أداءً غنائيًا وتمثيليًا كوميديًا لا يزال يُعرض حتى اليوم على الشاشات.

لحظات صعبة… وقطعة شوكولاتة كادت تغيّر القدر
من القصص الشهيرة المرتبطة بالفنانة شادية خلال حياتها، حادثة خطيرة كانت بطلتها “قطعة شوكولاتة”.
فقد روت بعض المصادر أن شادية تعرضت للاختناق أثناء تناولها قطعة شوكولاتة في كواليس أحد الأعمال، لولا تدخل سريع من الموجودين أنقذ حياتها.
ورغم أن الحادثة مرّت بسلام، إلا أنها كشفت جانبًا إنسانيًا رقيقًا في شخصية النجمة، التي كانت دائمًا تضحك وتخفي آلامها وحساسيتها خلف خفة دمها وابتسامتها المحببة.
الاعتزال… قرار لا يُشبه أحدًا
في عام 1984، وبعد مسيرة فنية طويلة حافلة بالنجاحات، اتخذت شادية قرارًا تاريخيًا باعتزال الفن بشكل نهائي. جاء ذلك بعد انتهاء تصوير فيلم “لا تسألني من أنا” أمام مديحة يسري، وهو أحد أنضج أدوارها وأقواها.
لم يكن القرار عابرًا ولا لحظة انفعال، بل جاء بعد تفكير طويل، وكانت شادية واضحة وصادقة مع نفسها:
لقد شعرت أنها قدّمت كل ما تريد تقديمه، وأن الوقت قد حان لصفحة جديدة من حياتها.
اعتزلت الأضواء وهي في قمة مجدها، وهذا ما جعل كثيرين يرون اعتزالها نموذجًا فريدًا من القوة والنضج والاستقلالية. لم تبحث عن وداع جماهيري ولا حفلات تكريم، بل اختارت أن ترحل بهدوء من عالم الفن، مثلما جاءت إليه بخفة وجمال.

سنواتها الأخيرة… الطمأنينة والسلام الداخلي
عاشت شادية بعد الاعتزال حياة هادئة، بعيدة عن عدسات الكاميرات، مكتفية بدائرة صغيرة من أهلها والمقرّبين. كانت تزداد تعلقًا بالجانب الروحاني والإنساني، وتؤكّد لكل من يلتقيها أنها راضية ومتصالحة مع قرارها.
ورغم اختفائها عن الساحة الفنية، بقي اسمها حاضرًا بقوة في قلوب الجمهور، وكانت أي شائعة عن حالتها الصحية تهزّ الوسط الفني وتُشغل وسائل الإعلام.
الرحيل… وبقاء الأسطورة
رحلت شادية في مثل هذا اليوم من عام 2017، تاركة وراءها إرثًا فنيًا هائلًا يمتد لأكثر من مئة فيلم، إلى جانب عشرات الأغاني التي أصبحت جزءًا من الذاكرة الجماعية للمصريين والعرب.
لم تكن مجرد نجمة…
كانت حالة فنية يندر تكرارها، وصوتًا دافئًا كان يُشعر الناس بالأمان والبهجة.
كانت البساطة أجمل ما فيها… وربما هذا ما جعلها خالدة.
سينفيليا

