رحل عن عالم الفن واحد من أكثر نجوم بوليوود حضورًا وتأثيرًا، الممثل الهندي الأسطوري دارمندرا، الذي توفي عن عمر ناهز 89 عامًا بعد مسيرة فنية امتدت لستة عقود، صنع خلالها إرثًا سينمائيًا استثنائيًا يصعب تكراره. وجاءت وفاة دارمندرا، الذي ظل يعاني خلال الأسابيع الأخيرة من تدهور صحي استدعى دخوله وخروجه المتكرر من أحد مستشفيات مومباي، لتطوي صفحة أحد أعمدة السينما الشعبية في الهند، وأحد أبرز الوجوه التي ارتبطت بذاكرة الجماهير منذ ستينيات القرن الماضي وحتى اليوم.
شكل خبر رحيله صدمة كبيرة داخل الأوساط السينمائية والسياسية الهندية، إذ أكد مسؤول في الشرطة الهندية – بعد استشارة الطبيب المعالج – خبر الوفاة، مشيرًا إلى أن دارمندرا فارق الحياة بعد أزمة صحية مفاجئة رغم محاولات إنقاذه. ورغم عدم الكشف عن تفاصيل طبية دقيقة، فإن جمهور الممثل كان يتابع بقلق حالته الصحية منذ أسابيع، بعد انتشار أخبار متكررة عن دخوله المستشفى وخضوعه لفحوصات وعلاجات متواصلة.
ولم يتأخر رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي في نعي الفقيد، إذ كتب على منصة “إكس” منشورًا عبّر فيه عن حزنه العميق، قائلا إن وفاة دارمندرا تمثل “نهاية حقبة كاملة في السينما الهندية”، وإن الراحل كان “شخصية سينمائية أيقونية، وممثلا استثنائيا أضفى سحرًا وعمقًا على كل دور أدّاه”. وأضاف مودي أن الطريقة التي جسد بها دارمندرا الأدوار المتنوعة “لامست قلوب عدد لا يحصى من الأشخاص”، مؤكداً أن تأثيره الفني والثقافي سيظل حاضرًا لأجيال.
ولد دارمندرا عام 1935، وظهر لأول مرة في السينما في مطلع الستينيات، قبل أن يتحول سريعًا إلى نجم لامع بفضل حضوره القوي على الشاشة وقدرته على أداء أدوار مختلفة، مزجت بين الرومانسية والكوميديا والأكشن ودراما الأسرة. وكان دارمندرا من بين عدد قليل من النجوم الذين جمعوا بين الجاذبية الجماهيرية العالية والقدرة الفنية الرفيعة، مما جعله جزءًا أساسياً من هوية بوليوود في فترة ازدهارها الذهبي بين الستينيات والثمانينيات.
ورغم أنه قدم أكثر من 250 فيلمًا، فإن دوره في فيلم “شولاي” (Sholay) عام 1975 ظل أيقونياً لا يتكرر، إذ جسد شخصية “فيرو” التي أصبحت جزءًا من الثقافة الشعبية الهندية. ويعتبر “شولاي” واحدًا من أعظم الأفلام في تاريخ السينما الهندية، حيث ظل ضمن قائمة الأعمال الأكثر تأثيرًا ونجاحًا واتساعًا في الانتشار. وقد شكل فيه دارمندرا ثنائيًا لا يُنسى مع النجم أميتاب باتشان، حيث يعد هذا الثنائي من أقوى الشراكات الفنية في تاريخ بوليوود.
لم تكن شهرة دارمندرا وليدة فيلم واحد، بل توسعت عبر العديد من الأعمال التي أكدت مكانته نجمًا شاملاً يمتلك قدرة فريدة على التنقل بين الأدوار. ففي فيلم “الزهرة والحجر” عام 1966، أثبت جدارته كممثل يستطيع تقديم أداء درامي ورومانسي متكامل، فيما رسّخ فيلم “سيتا وغيتا” عام 1972 حضوره العائلي المحبب لدى الجمهور، خاصة إلى جانب الممثلة هيما ماليني التي أصبحت زوجته لاحقًا. وفي السبعينيات، قدّم أيضًا فيلم “الأخوان دارام وفير” الذي عزز مكانته كنجم أكشن قادر على تجسيد القوة والمرح في آن واحد، إلى جانب فيلم “موكب الذكريات” سنة 1973 الذي ظل حاضرًا في ذاكرة عشاق السينما الهندية لسنوات طويلة.
ومع بداية الثمانينيات، لم يفقد دارمندرا بريقه بل واصل تقديم أفلام ناجحة جعلته أحد أكثر الممثلين نشاطًا واستمرارية. وقد اشتهر بأسلوبه القريب من الجمهور، وبشخصيته الودودة داخل وخارج الشاشة، ما عزز مكانته كأحد رموز الثقافة الشعبية الهندية. وكانت ابتسامته، وصوته، وطريقة إلقائه للجمل الحوارية، جزءًا من هوية بوليوود لعقود طويلة.
وعلى المستوى السياسي، خاض دارمندرا تجربة فريدة بانضمامه إلى البرلمان الهندي بين عامي 2004 و2009، ممثلاً عن حزب بهاراتيا جاناتا. ورغم الانتقادات التي واجهها أحيانًا بسبب قلة حضوره للبرلمان، فإنه ظل محط احترام شريحة كبيرة من المجتمع الهندي التي اعتبرت مشاركته خطوة رمزية تعكس مكانته وشعبيته الجارفة. وفي المقابل، لم يتخلّ عن السينما بالكامل خلال فترة عمله السياسي، بل واصل دعمه لصناعة الأفلام وإنتاج أعمال شارك فيها ولداه ساني ديول وبوبي ديول.
وكرمت الهند الراحل بعدد من الجوائز والأوسمة الرفيعة، أهمها وسام “بادما بوشان”، أحد أعلى الأوسمة المدنية التي تُمنح لشخصيات تركت بصمة راسخة في الثقافة والفن والمجتمع. وقد اعتُبر حصوله على هذا التكريم اعترافًا رسميًا بدوره الفاعل في تشكيل جزء مهم من الهوية السينمائية الوطنية.
دارمندرا لم يكن مجرد ممثل، بل كان مدرسة كاملة في الأداء التمثيلي، وتعلم منه عشرات النجوم الذين ظهروا بعده. وقد اشتهر بقدرته على تجسيد الشخصيات البسيطة القريبة من الناس، مما جعله يُلقَّب بـ“الرجل العادي البطل”، وهو لقب نادر في عالم بوليوود الذي لطالما احتفى بالبطولة الخيالية والشخصيات الخارقة. لكن دارمندرا استطاع أن يكسر القاعدة، مقدماً أدوارًا واقعية، مليئة بالصدق والعفوية والدفء الإنساني.
كما عرف الجمهور علاقته المهنية والعائلية الوثيقة مع ولديه ساني ديول وبوبي ديول، حيث شاركهما في بعض الأعمال السينمائية، وكان سندًا لهما في مشوارهما الفني. وقد ساهم أيضاً في إنتاج عدد من الأفلام التي شارك فيها ولداه، تأكيدًا منه على دعم الجيل الجديد من العائلة في مواصلة الإرث السينمائي.
وكان الجمهور يترقب خلال الشهر المقبل عرض آخر أفلامه “إيكيس”، لكنه رحل قبل أن يشهد خروج العمل إلى النور. ويقول مقربون منه إن الممثل ظل حتى أيامه الأخيرة متعلقًا بالفن والتمثيل، ويعتبر السينما بيته الأول والأخير.
برحيل دارمندرا، تخسر بوليوود واحدًا من أكثر رموزها حضورًا، وأكثر نجومها تأثيرًا على المشاهدين. فقد ترك وراءه إرثًا فنيًا ضخمًا يشكل جزءًا من ذاكرة ملايين الهنود والعرب والآسيويين الذين كبروا على أفلامه. ورغم غيابه الجسدي، فإن صوته، وصورته، ومشاهده الخالدة ستظل جزءًا من تاريخ الفن الهندي، ومن ذاكرة كل من أحب السينما في لحظة من حياته.
لقد انتهت حياة دارمندرا، لكنه لن يغيب عن الشاشة، ولن تختفي ملامحه من وجدان الجمهور. سيبقى حيًا في كل مشهد أكشن أدّاه، وكل لحظة رومانسية عاشها على الشاشة، وفي كل قصة جسّدها بصدق، وفي كل جيل جديد سيكتشف أعماله لأول مرة. فهو من تلك القامات التي لا تتكرر إلا نادرًا، والتي تخلّدها السينما مهما طال الزمن. ومع سقوط الستار على آخر فصول حياته، يبقى إرثه شاهدًا على نجم لم يعرف سوى العطاء، وعلى إنسان أحب الفن فأحبه الناس.
سينفيليا

