الرئيسيةمتابعات سينمائيةمهرجان رأس سبارطيل الدولي للسينما والفنون: الأوجه الخمسة للمُقنَّع المجهول

مهرجان رأس سبارطيل الدولي للسينما والفنون: الأوجه الخمسة للمُقنَّع المجهول

فؤاد اليزيد السني وهشام الحليمي خلال مهرجان رأس سبارطيل الدولي للسينما

بمناسبة مهرجان رأس سبارطيل الدولي للفيلم المنعقد من 23 إلى 26 من شهر أبريل الحالي لسنة 2025، تحت عنوان ” السينما والفنون” حصل لي الشرف أن تلقيت الدعوة لحضور عرض مجموعة من الأفلام القصيرة، فكانت بالفعل أمسية عرض شيقة، خرجت منها بانطباع شخصي موحِ ذا رسالة مشفرة لفيلم قصير تحت عنوان “القناع” من إخراج هشام الحليمي، متمنيا له مزيدا من الإبداع في هذا الفضاء السينمائي. وكذلك شكري وامتناني لكل المساهمين في هذا المهرجان الناجح في حلته الجديدة.

  

فيلم القناع

فيلم القناع

الأوجه الخمسة للمُقنَّع المجهول

 

المشهد الأول: رقصة المقنّع الحالم.

مشهد جسد في حالة نشوة رقص صوفية، يحاول من خلالها الرقّاص المقنّع، أن يتحرر بفعل رقصته الرّوحيّة من قناع فولاذي مثبت على وجهه بشبه شبكة خيوط عنكبوتية. وتتمثل هذه الرقصة في حالة نشوة جسدية لاإرادية. حالة صحو ذاتي، يدرك فيها الوجه الخارجي المقنّع قرينه الداخلي المتحرر من كل الأقنعة الوجودية الخارجية المُثبتَة عليه. وبالمناسبة، يدرك هذا الوجه المزدوج بأن له ظاهر يحمل طبيعة هويته البشريّة وباطن غير محدد الهوية قد يجهله حتى هو، ولكن حدسه يوحي له بانه يتمتع بكل الصفاة والقدرات النفسية الهائلة، والتي قد تمكنه حتى بزحزحة الجبال من أماكنها والسفر روحيا إلى أقصى المجرّات المسافرة بالسرعة الضوئية إلى أقصى حدود الكون المرئي.

ويدرك أخيرا، وأعني هذا الوجه المزدوج الحبيس في قناع ازدواجيته، بأنه يمثل في هذا الواقع الخارجي المُعطى مرآة خارجية مركَّبَة على وجه حقيقي قرين، لا ولن تدركه العين المجرّدة أبدا.

فحالة المشهد الأول إذن، هي حالة صحو وإحساس بلذة نشوة داخلية لرقصة ذات توّاقة للتحرّر من كل قيد جسدي لبلوغ حالة اللانهاية الأزلية. ولكن هذا الوجه الخارجي المقنّع، لا يبيح لهذه الذات السجينة أن تنعم بطعم حرية انعتاقها وتحررها من ثقل جاذبيّة هذا الوجود المادّي العنيف.

المشهد الثاني: حالة شناعة القناع الخارجي المخيف بمظهره الأسود وقيوده اللاصقة بالذات.

يستيقظ المُقنّع المجهول من نوم ثقيل، يتقلب في فراش عريض يسع كل غرفة النوم، يتقلب يمينا وشمالا، وبعد مشقة وحركات جسدية بطيئة، يحمل ثقل جسده من على السرير ويقف به على قدمين واهيتين ويتنقل به برتابة روتينية هائلة، في فضاء مُقَنّن ومُقيّد بكل الأدوات والآليات والحركات الجسدية الرّوتينيّة الموهِنة والمُتعِبة للذات السجينة.

ويتنقل المجهول المُقنّع في هذه الجغرافية البيتية الضيّقة بكسل وتعفف، لغاية ما يلاقي وجهه الخارجي من جديد منعكسا في مرآة حلاقته الصباحيّة المعتادة. يتطلع فيها مُبَحصِصا في صورة وجهه الخارجي المُقنّع ثم يضع أصبعه على حنكته غير الحليقة كمن يكلمها مستهزئا بها، ثم يستدير متجاهلا إياها ومتجها لتناول وجبة فطوره على الطاولة المستديرة الواطئة. ويبدو وكأنه قد نسي تماما ذاك الحلم الروحي الراقص الذي زاره في نومه ليلة أمس والذي على ما يبدو، ما فتئ أن نسيه بمجرد ما فارق سريره الخشن. ويبدو أنه من خلال هذا اللقاء المرآتي الرّوتيني المعتاد، كانت نرجسية الوجه المُقنّع قد نسيت نشوة الوجه الروحاني الطليق ولذة رقصة الروح العالقة بها. وفجأة، رنّ في مقصورة ذاته النائمة، رجع صدى لهاتف خارجي وقع عليها بكل ثقل معدن رنينه الفجائي، كاسرا كل  حواجز أيامه الروتينية، ليخرج منطلقا في نهاية المطاف، من روتين اليقظة إلى نشوة العدو خلف المجهول الذي دعاه إلى استلام هديته المجهولة العنوان التي طالما اشتاق إليها وحلم بها.

المشهد الثالث: هاتف من المجهول يهتف بداخله ويفاجئه بجلجلة ثقيلة وشديدة الوطء، شبيهة بجلاجل وحي الأنبياء والأولياء الصالحين.

ويشعر المجهول المُقنّع بحالة قلق رهيبة انتابته ودفعت به إلى الركض بكل ما أوتي من قوى نحو صندوق بريده لتناول هديته قبل ان يسرقها منه بعض الجشعين او المتطفلين. وتبدأ حالة استيقاظ الجسد من سباته الروتيني العميق، ومسابقة الزمن في استلام الهدية والقبض عليها قبل أن تطير منه. وهكذا اندفع بسرعة جنونية نازلا من شقته المتواجدة في علياء العمارة الساكن بها، ملتهما كل الدرجات النازلة بلهفة برقية، لغاية ما قبض على هديته وسار ناج بها من ضوضاء المدينة لضواحيها حتى لا يخطفها منه أي أحد أو يشاركه في أسرارها.

وركض بها حتى أمنت نفسه من كل خطر محدق بها، ثم غشيته السكينة وارتاح باله وهو ماش بتؤدة ووقار تحت ظلال الأشجار الوارفة نحو المقعد الحجري العمومي الخالي من كل حس بشري. وحين ارتاح باله وتنفست نفسه الصعداء، تناول بشغف وحب اطلاع علبة هديته وازاح خيوطها فكانت المفاجأة ويا لها من مفاجأة.. !  القناع نفسه الذي حاول التخلص منه في رقصة حلمه.

المشهد الرابع: حالة خيبة وهلع وتتمثل في حالة صدمة نفسية تلقاها المجهول المُقنّع بعثوره على قناع وجهه في علبة الهدية المجهولة المصدر.

وبهذه الصدمة الجديدة بدأت الرحلة العكسية للمجهول المقنّع في اتجاه شقته العالقة بالسماء الغريبة النوايا. بدأت الرحلة هروبا من المجهول الذي يلاحقه، خائبا، منكسرا ومستسلما للقدر الروتيني الذي كتب له وقدّر عليه.

كانت عودته لا إرادية، ولكن محكوم عليها بحكم واقع لا يرحم ولا مفر له من وطأته. وهكذا مضى عائدا من حيث أتى، من نفس الطريق التي قطعها ذهابا، وهو أسعد ما يكون بنيل المطالب بالتمني، بنفس متوهجة ومشتعلة شوقا إلى بلوغ المعالي.

ولكنه عاد يجرجر خيبته كما ظله الثقيل في حالة انكسار معنوي واستسلام مطلق للقناع الدنيوي الرهيب الذي سلط عليه. عاد صاعدا إلى شقته، وكانت معاناته وهو يصعد درج العمارة شديدة الوقع على نفسيته المحبطة وجسده المنهك الذي لم يعد قادرا على التجانس والتناغم معه في حالات نشواته الحلمية الروحية. وحين وصل صاعدا إلى شقته بعد جهد ومشقة وإعياء واجترار لجسد عنيد ومشاكس، تجاوز عتبة الباب الذي خلفه وراءه مشرعا تلاعبه أصابع الريح الخفية، واتجه مباشرة إلى معاينة قناع وجهه في مرآة التجليات، وأغمض عينيه والنوم قد بدأ يغمره والحلم سار فيه كمخدر، فكانت المفاجأة غير المنتظرة.. !

المشهد الخامس:  حالة تكملة المشهد الحلمي الأول والتحرر الجسدي رقصا من عبودية القناع.

عاد المقنّع المجهول داخلا من جديد في نشوة حلمه الرّاقص. عاد راقصا بأريحية ومرونة وسلاسة وإيقاع متجانس مدهش، معلنا حالة تناغم وتزاوج لروحه المنعتقة من قيود الجسد.

وفي هذه النشوة الروحية الفريدة، توجهت يد المقنّع الراقص صاعدة نحو وجهه المقنّع وتناولته نازعة إياه وكأنه لم يكن أبدا قناعا اصطناعيا دنيويا، وأزاحته بكل مرونة لتكشف ولأول مرة عن الوجه الحقيقي القرين وقد تلألأ نورا وشعشع منيرا كل زوايا الغرفة المظلمة، وسقطت شبكة الخيوط العنكبوتية السوداء، ومشى المقنع المجهول مستبشرا بوجهه الجديد،  متجاوزا كل حواجز العالم المادي نحو عالم افتراضي تسوده السكينة وتمرح في جنانه كل الممكنات المستقبلية وعجائب وغرائب فردوس الأحلام الوهمية.

=انتهت=

بقلم فؤاد اليزيد السني –  طنجة في 25 – 04 – 2025

 

الفيلم من إخراج هشام الحليمي، بطولة محمد أهبياج، سيناريو ياسين الحليمي، موسيقى الفيلم لعبد الإلاه الكينادي وإنتاج LINAM SOLUTION

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *