أعلنت عائلة ديفيد لينش، المخرج الأمريكي الشهير وراء أعمال مثل “توين بيكس” و”مولهلاند درايف”، عن وفاته عن عمر يناهز 78 عامًا. جاء الإعلان عبر صفحته الرسمية على فيسبوك يوم الخميس، حيث جاء في المنشور: “هناك فجوة كبيرة في العالم الآن بعد رحيله”.
إرث فني يتسم بالغرابة والسريالية
تميزت أعمال لينش بطابعها السريالي وأجوائها الحلمية التي أثرت في صناعة السينما لعقود. انطلق مشواره السينمائي بفيلم “إريزر هيد” عام 1977، الذي تميز بصوره المظلمة والمقلقة. ورغم أن النقاد وصفوه في البداية بأنه أقل إثارة مقارنة بأعماله اللاحقة، إلا أن الفيلم وضع الأساس لأسلوبه المميز.
في مقابلة أجراها مع “بي بي سي” عام 2024، تحدث لينش عن تعاونه مع المؤلف الموسيقي الراحل أنجيلو بادالامنتي، الذي ساهم في خلق الأجواء الصوتية الفريدة لأفلامه. قال لينش: “كنت أطلب منه دائمًا أن يجعل الموسيقى أبطأ وأكثر ظلامًا وثقلًا”.
اعتراف عالمي وإشادة مستحقة
حصل لينش على جائزة الأوسكار الفخرية عام 2020 تكريمًا لمسيرته الفنية. وعلى الرغم من إصابته بمرض انتفاخ الرئة في سنواته الأخيرة، إلا أنه صرح بأنه “في حالة جيدة” ولن يتقاعد أبدًا. لكنه اعترف أن المرض كان الثمن الذي دفعه بسبب عادته الطويلة في التدخين.
بداية متواضعة من مونتانا إلى العالمية
ولد ديفيد كيث لينش في 20 يناير 1946 في ميسولا، مونتانا. بدأ مسيرته كرسام قبل أن ينتقل إلى صناعة الأفلام القصيرة في ستينيات القرن الماضي. تأثرت أعماله الفنية برؤية متمردة شجعها والديه منذ الصغر، حيث سمحت له والدته بالرسم على أوراق عادية بدلاً من كتب التلوين التقليدية، ما غرس فيه حب الابتكار.
تحدث لينش في مقابلة مع مجلة “رولينغ ستون” عام 1990 عن تأثير نشأته في الضواحي الأمريكية، قائلاً إنه كان يبحث عن “شيء غير عادي” يكسر رتابة الحياة المثالية التي سادت في خمسينيات القرن الماضي.
انطلاقة إلى النجومية مع “رأس ممحاة” و”رجل الفيل”
أحدث فيلمه الأول “إريزر هيد” نقلة نوعية في مسيرته، حيث جذب الانتباه في عروض السينما الليلية. ورغم أن النقاد لم يفهموه بالكامل، إلا أن نجاحه قاده إلى إخراج فيلم “رجل الفيل” عام 1980، الذي رشح لثماني جوائز أوسكار. الفيلم، الذي قام ببطولته جون هيرت وأنتوني هوبكنز، تناول قصة إنسانية مليئة بالمشاعر حول الوصمة الاجتماعية.
إخفاق “ديون” ونهوض جديد مع “بلو فيلفت”
بعد نجاح “رجل الفيل”، اتجه لينش لإخراج فيلم الخيال العلمي “ديون” عام 1984، لكنه تعرض لفشل نقدي وتجاري كبير. وصف لينش التجربة بأنها “كادت تقتله” وأعرب لاحقًا عن ندمه على هذا المشروع.
لكن لينش عاد بقوة عام 1986 بفيلم “بلو فيلفت”، الذي استكشف الجانب المظلم للمجتمع الأمريكي من خلال قصة تدور حول جريمة في بلدة صغيرة. حصد الفيلم ترشيحًا آخر للأوسكار وجعل من لينش اسمًا مرادفًا للإبداع السينمائي.
“توين بيكس” وتغيير معايير التلفزيون
في عام 1990، أطلق لينش مسلسل “توين بيكس” الذي أحدث ثورة في عالم التلفزيون. دارت أحداث المسلسل حول جريمة قتل غامضة في بلدة صغيرة، لكنه سرعان ما أصبح أكثر من مجرد دراما بوليسية، حيث قدم شخصيات فريدة وأجواءً غرائبية جمعت بين الواقعية والكابوسية.
حقق المسلسل نجاحًا كبيرًا، وحصد ثلاث جوائز “غولدن غلوب” في عام 1991. وصفه النقاد بأنه “وسع حدود التلفزيون” و”غيّر علاقة الجمهور بالشاشة الصغيرة”. ورغم تراجع الموسم الثاني بعد الكشف عن هوية القاتل، إلا أن المسلسل ظل علامة فارقة في تاريخ التلفزيون.
ثلاثية لوس أنجلوس: استكشاف الشهرة والهوية
عاد لينش إلى السينما بأعماله التي استكشفت الجانب المظلم من هوليوود، بدءًا من “الطريق السريع المفقود” عام 1997، ثم “مولهلاند درايف” عام 2001، الذي اعتُبر واحدًا من أعظم الأفلام في القرن الحادي والعشرين، وانتهاءً بفيلم “إنلاند إمباير” عام 2006. تناولت هذه الأفلام موضوعات الهوية والخداع والأوهام المرتبطة بعالم الشهرة.
عودة “توين بيكس” ومكانة أيقونية
في عام 2017، أطلق لينش موسمًا جديدًا من “توين بيكس” بعنوان “العودة”، الذي أعاد كثيرًا من طاقم العمل الأصلي. ورغم مرور أكثر من 25 عامًا على العرض الأول، استمر المسلسل في التأثير على الأعمال الفنية، من مسلسلات درامية مثل “ترو ديتكتيف” إلى ألعاب فيديو مثل “آلان ويك 2”.
حياته الشخصية وتأثيره على من حوله
تزوج لينش أربع مرات وأنجب أربعة أبناء. رغم اعترافه بصعوبة تحقيق التوازن بين حياته المهنية والأسرية، إلا أنه أعرب عن حبه العميق لأبنائه. قال في إحدى مقابلاته: “العمل كان دائمًا أولوية، وأعلم أن ذلك سبب بعض المعاناة، لكن حبي لأولادي لا حدود له”.
إرث خالد
رغم أنه لم يعد لإخراج الأفلام بعد “إنلاند إمباير”، إلا أن لينش حصل على جائزة الأوسكار الفخرية في عام 2019. كما استمر في متابعة شغفه بالرسم والموسيقى. في عام 2022، ظهر في فيلم “ذا فايبلمانز” للمخرج ستيفن سبيلبرغ، حيث جسد شخصية المخرج جون فورد.
توفي ديفيد لينش متأثرًا بمضاعفات مرض انتفاخ الرئة، لكنه ترك إرثًا فنيًا خالدًا وأعمالًا ستظل محفورة في ذاكرة عشاق السينما. كما قال عنه الممثل كايل ماكلاشلان: “ديفيد كان متصلًا بالكون وبخياله بطريقة فريدة. عالمنا أصبح أقل ثراءً برحيله”.