“في البدء كانت الصورة”
غاستون باشلار
يحاول باشلار إعادة صياغة العبارة الإنجيلية التي تعتبر بدء الوجود كلمة، في نظر باشلار؛ الصورة تسبق كل أشكال التعبير الأخرى، الصورة هي اللبنة الأساسية في الخيال، هي التي تحولت في مستوى ثاني إلى كلمة، أي أن الكلمة ترجمة، ومحاولة لتحويط الواقع الذي لا نعرف “حقيقته” إلا بحاسة النظر، أي أن الكلمة ليست إلا تأويلا للواقع الجامد الذي ينتقل إلينا من حقيقة أنه صورة، ومن القلائل الذين يمتلكون قدرة كبيرة على الإمساك وتطويع الصورة بإمكانيات إبداعية كبيرة في السينما المغربية نجد المخرج هشام لعسري، وما قلته يتأكد بشكل واضح في رائعة “هم الكلاب” الذي أخد عنها صاحبها هشام جوائز عديدة محليا وعربيا ودوليا.
انطلاقا من التصريحات التي قدمها هشام العسري في حواراته التي عقبت خروج الفيلم، يمكن اعتبار الفيلم مأوى لطفولة وحاضر هشام إذ صرح بأن أحداث 1981 تركت في داخله أثرا لا يستطيع أن ينكره هو الذي كان آنذاك طفلا، ولذلك حاولت في بعض الأجزاء والمشاهد من الفيلم تفعيل عيون فرويدية، بل لاكانية حتى؛ لأتمكن من فك شفرتها، اذ أن جزء كبير من المعاني تتوارى وراء الرموز التي تحتاج إلى جهد كبير في استخراجها، وسينما العسري عموما هي هكذا؛ تحتاج جهد تحليلي وتأويلي ليس بالهين، غير أن الرهان بالنسبة لي لم يكن تقديم ملف نفسي عن العسري وهواجسه التي لن تختلف عن هواجس جيله الذي عاش انتفاضة الكوميرا وعاش زمن الجدران التي تسترق السمع وسنوات الرصاص، وأحياها القدر لتشاهد الأفواه تصدح بإسقاط النظام في ثورة الربيع العربي، ونفس القدر -بعبثية ومكر- أحياهم ليروا مصير الربيع واستيلاء الإسلاميين عليه بطريقة أو بأخرى، بل الأهم هو أن أفهم الفيلم بطريقة مغايرة وربما أقدم يد العون لآخرون كي نفهم الفيلم معا أو لا نفعل!
الفيلم نحث بالصورة على الزمن، كما قال الكبير تاركوفسكي ذات يوم، الزمن في فيلم العسري مثقل بمعاني النضال والبحث عن المآل، ينتقل عبره البطل من 1981 إلى 2011 بشكل شبه مباشر عبر ثقب أسود مصطنع هو سجون التعذيب التي عرفها المغرب في مرحلة تاريخية لمواجهة معارضي النظام السياسي، ثلاثون سنة اختُزِلت في بعض المشاهد التي كان البطل يتحدث فيها عن حيثيات التعذيب بدون أن تثير هذه الأخيرة مشاعر الحسرة أو الحزن أو الغضب في نفسه، بل بالعكس يتحدث عنها ببرودة رواقية يؤكد بها بطلنا بأنه تجاوز ونسى كل ما مضى من أجل المستقبل، من أجل ابنه وزوجته، المعنى الذي توسد به روحيا طيلة فترة التعذيب، وهي نفس القصة –تقريبا- التي عاشها بشكل واقعي المحلل النفسي فيكتور فرانكل في معسكرات الاعتقال النازية وتمخض عنها كتاب “الانسان يبحث عن معنى”، حيث يؤكد أن السعي وراء المعنى هو دافع أساسي للحياة البشرية بشكل عام، وهي زاده الوجداني في مواجهة قسوة ووحشية معسكرات الاعتقال النازية، بطل فيلم “هم الكلاب” وجد المعنى في أمل اللقاء بابنه وزوجته وهذا ما جعله قويا في مواجهة سياط المعذبين، فكما يقول فيكتور فرانكل في كتابه “الإنسان لا يُهزم إلا عندما يفقد إيمانه بمعنى الحياة”، ولهذا هانت سنوات التعذيب وأصبح بطلنا ينظر إليها بفتور كأن شخصا آخر هو من وقع ضحيتها.
يُفتتح الفيلم بمشهد الشعارات النضالية، حناجر تعبر عن تذمرها وعن طموحها في التغيير، وهو مشهد أعتبره بمثابة امتحان لحرية التعبير، الامتحان الذي “فشل” فيه المعبرون لحظة صمتهم وقت قيام الآذان، ما يعيدني إلى التأويل الذي قلت من خلاله أن الإسلاميين سرقوا الثورة.
بعد الافتتاحية، استوقفني المشهد الذي يصرح فيه 404 -الذي أدى دوره الأستاذ حسن بديدة باقتدار كبير-بأنه في الأصل خرج ليشتري لابنه عجلة ولزوجته وردة، أنا المسكون بهاجس السيميائيات والبحث وراء الأشياء عن معانيها المحتملة، أتساءل؛ ما الذي يمكن أن تعنيه العجلة غير التقدم والسير للأمام؟ خاصة وأنه يريدها لابنه حتى لا يسقط من على دراجته، ثم ما الذي ترمز إليه الوردة غير الأمل والحب؟ فهل كان الخروج في 1981 يعني –في مخيلة العسري-تعبير عن وعي سياسي يروم التقدم عنوانه الأمل وحب الوطن؟ تقدم وأمل وحب اختطفوا في 1981 وأُطلق سراحهم في 2011، لا أزعم تقديم الجواب هنا بقدر ما أتساءل مثلي مثل العديد ممن قد يذهب تأويله للفيلم لهذا المنحى.
ننتقل وسط الفيلم عبر أحداث تكثفت وراءها رسائل عميقة على المستوى السياسي كالصحفي الانتهازي الذي انتقل من النضال إلى النذالة، أو الايحاءات المرتبطة بسنوات التعذيب كالمشهد الذي فضل فيه 404 النوم على الأرض بدل سرير الفندق، أو حديثه عن كيفية الشرب بالمعتقل ومشهد صراع متشردين امام مقر النقابة، الكيان السياسي الذي أوصِدت أبوابه وجُعِلت جنباته مرتع للمتشردين، وعلى المستوى الاجتماعي في مشاهد تُبَيِّن شيزوفرنية الإنسان المغربي وعدم تباث معاييره، وتعامله المزاجي واللحظي مع الأشياء بما يفيد تناقضه مع ذاته، من دون أن يشكل الأمر بالنسبة له أدنى حرج، نبدأ بالشخصية الرئيسية 404 الذي يصرح بحب زوجته وأنه زير نساء بدون أن يشعر بالتناقض، أو الصحافي المسؤول عن التصوير “الحسكة” الذي يملأ قنينته بمشروب خمري وفي نفس الوقت يمنع صديقه من أن يغير قناة الراديو لأنها تبث القران.
لكن النهاية كانت في مستوى آخر على المستوى الفني، تباث 404 بعد كل ما وقع له من صد ورفض، عدم ارتكانه إلى لعب دور الضحية بشكل درامي مستهلك وينتظره الجميع، بل بالعكس يقدم لنا 404 ٳيحاءا بملامحه بشعور عميق بالرضا وبالتأقلم وبالتجاوز حتى، وهذا في نظري يقدم الدليل على شيئين: أولا قوة السيناريو وتجاوزه للمألوف، ثانيا إمكانيات حسن بديدة الكبيرة في التشخيص، الأمر الذي أكدته لجنة التحكيم بمهرجان طنجة آنذاك وفي مهرجان دبي في نفس السنة.
من الدلائل القوية على تميز هشام العسري فنيا وتقنيا نجد استعمالاته الخارجة عن المألوف للكاميرا، فهو بالتأكيد ليس بالمخرج الكسول، بل تُكَلفه أفلامه من الجهد العضلي ما يساوي أو أكثر تكلفة الجهد الفكري والابداعي الذي يصرفه في أعماله بشكل عام، وفي هم الكلاب بشكل خاص، فنجد مشاهد الجري والحركة الدائمة في جل أطوار فيلمه، مما يبين أن الكاميرا دوما محمولة وتضع المشاهد في وضع واقعي كأنه مشارك وجزء من تلك المشاهد بدون حاجز، وهي نقطة تحسب له.
كما أن للعسري قدرة هائلة على التقاط الوجوه التي تستبطن جمالية مُنْكَفِئَةٌ على ذاتها، لا تُستشعَر إلا بمجهود تأملها، لهذا يقال عنه مخرج متمرد، ففي الوقت الذي تعد فيه الوسامة تذكرة مرور إلى الشاشة الصغيرة والكبيرة في بلدنا، هشام العسري يبحث دوما عن ما يعتبره المجتمع بمعاييره قبيح، ليقلب الطاولة على تلك المعايير، انه فنان مبدع ينتمي روحا وفكرا إلى ما بعد الحداثة، مع نفسي أسميه جاكسون بولوك السينما المغربية، يشتركان في التجريد والتجريب غير أن هشام العسري يتميز بكونه يعرف إلى أين يقود ممثليه ومشاريعه الفنية -في الوقت الذي يتوه المشاهد، وحتى الممثل أحيانا ولا يعرف مسار الفيلم ويتساءل ” اش باغي يصنع هاد هشام العسري؟”- على عكس جاكسون الذي يبدع بلا تصور مسبق أو حدود موضوعة.
محمد لحميسة