في عالمنا الموحش، أصبح من شبه العادي أن تتعرض للظلم، لكن المُفاجئ ـ حدّ الصّدمة ـ أن تحب ظالمك؛ فمن أكثر الأمور مأساوية في الحياة أن يحب المرء جلاده وسجانه، فيفقد الإحساس بالظلم. وهذا الحب أشد شرا من الظلم نفسه.
خلصتُ إلى هذه النتيجة بعد مشاهدتي لفيلم “الممر الأخضر”؛ هو أحد الأعمال السنيمائية الخالدة، والمقتبس من رواية لستفين كينغ، سيناريو وإخراج فرانك دارابون، وبطولة النجم طوم هانكس.
الفيلم يهجم على المشاهد ويشده منذ الدقائق الأولى رغم غموض بدايته، لينتهي بنهاية مأساوية.
تدور أحداثه في جناح في السجن ينتظر فيه المحكومون بالإعدام مَقْدَم يومهم. المكان أطلق عليه الكاتب اسم The Green Mile أو “الممر الأخضر” إن صحت الترجمة.
وتدور أحداث الفيلم سنة 1929م، وهي فترة عرفت فيها الولايات المتحدة أسوء أزمة اقتصادية في تاريخها وهي ما عرف بـ”الكساد العظيم”.
- أول ما يجب الانتباه إليه لتحليل هذا الفيلم هو أن المساجين الثلاثة الذين نفذ فيهم الإعدام في الفيلم كل واحد فيهم ينتمي إلى فئة من الأقليات.
أبرزهم إدوارد ديلاكغوا، وهو مواطن فرنسي مقيم بلويزيانا وهي المدينة التي تدور فيها أحداث الفيلم /الرواية وهي فرنسية الأصل، واسمها منسوب للويس 14 ولا يزال يعيش فيها الكثير من الفرنسيين إلى اليوم، وقد كانوا يومها مضطهدين، ولكن ليس لدرجة السّود، إذ كان الباعة الأمريكيون يرفضون بيعهم أي شيء حين يكتشفون أنهم فرنسيون، ولهذا كانوا يحاولون تحسين نطقهم للإنجليزية حتى لا ينكشف أمرهم، وهو ما ظهر حين قال قائد الممر بول (طوم هانكس) لديلاكغوا: “انجليزيتك تبدو أحسن حين تريد شيئا”.
ثم أقلية السكان الأصليين الهنود الحمر ممثلة في السجين آرلنبيتربوك.
وأقلية السود ممثلة في بطل الفيلم الأسود جون كافي. وهو ما يمثل أغلب الأقليات المقيمة بأمريكا وقتها، والتي عانت من اضطهاد كبير، وكانوا ضحية ممارسة التفرقة العنصرية من الحكومة الأمريكية ضدهم بما فيهم الأقلية الأوروبية.
- أول ما يشد الانتباه في “الممر الأخضر” ـ ممر الإعدام ـ هو حالة السكينة والسلام والطمأنينة التي يعيشها المساجين، وهذا هو الهدف الرئيسي من وجود هذا الجناح بقيادة بول ايدجيكومب (طوم هانكس)؛ أي السيطرة على المحكومين بالإعدام إلى غاية تنفيذ الحكم عليهم.
والأسلوب الذي كان ينتهج في ذلك ليس بالضرب أو القمع أو التخويف، وإنما السيطرة عليهم فقط بالحديث أو بـ”الحب” إن صح القول، كإشارة إلى جعل الأقليات تحب الحكومة وتنصاع لها رغم أنها في حالة احتقان وغضب من النظام الأمريكي، ورغم أنه في هذه الفترة كان قد تم بشكل رسمي إنهاء العبودية والإعلان عن المساواة بين جميع فئات الشعب الأمريكي، وذلك بعد أن قرر الرئيس الأمريكي أبراهام لينكولن سنة 1862م رسميا إنهاء العنصرية والتعامل مع الأقليات باعتبارهم مواطنين أمريكيين دون أي تمييز.
وقد كان واضحا أسلوب السيطرة بـ’الحب’ في الرواية الأصلية لـ”ستيفن كينغ” وعند كاتب سيناريو الفيلم “فرانك دارابونت” حيث تعمدا جعل العاملين في الجناح طيبين ووسيمين ويشغلون موسيقى هادئة في الممر ويحدثون المساجين بصوت هادئ. وقد عبّر “بول” رئيس الجناح عن ذلك بصريح العبارة سواء في الفيلم أو الرواية، حيث قال: “الرجال تحت الضغط من الممكن أن ينفجروا، فيؤذون أنفسهم ويؤذون الآخرين، لهذا مهنتنا هي… الكلام… وليس الصراخ”.
وأسلوب “الحب” هذا كان ناجعا مع الأقليات.. إلا أنه لم يكن كذلك مع المواطن والسجين الأمريكي الوحيد “وارتون” الملقب بـ”بيل الجامح”، والذي كان يتمرد باستمرار على نظام الحب الذي كان يفرضه “بول”، وكان كل مرة يُعاقَب. ولهذا كانت شخصية بيل حاسمة للتفريق بين فعالية أسلوب “الحب” على المواطن الأمريكي وفعاليته على الأقليات. كما أن ستيفن أوضح في الرواية أن بيل لم يكن ليُعدم في كل الأحوال لأنه تحت السن القانوني.
ولإبراز هذا الأسلوب أكثر وجدت شخصية السجان بيرسي ويتمور، الذي كان ممقوتا من الجميع، لأنه كان يستخدم أسلوب الضرب والتخويف والإهانة، وهو ما لا يسمح به أسلوب “الممر الأخضر”، وقد قال عنه بول أنه “رجل أناني وغبي ومتهاون، وهذا مزيج سيء في مكان كهذا، فعاجلا أو آجلا سيؤذي شخص ما أو ما هو أسوء”.
- “الممر الأخضر” اسم جميل رغم أنه جناح إعدام، وهو ما جعل مخرج الفيلم فرانك دارابونت يتمسك به بدل اسم الرواية الأصلية “اللحظة الأخيرة”. وفي اعتقادي أن دارابونت اختار عنوان الفيلم على أساس رسالته؛ أي الحديث عن اسم في الظاهر جميل وفي الباطن مرعب ومأساة حقيقية.
وما يدل أكثر على ذلك هو القصة المحورية للفيلم والتي تدور حول بشاعة جريمة قتل طفليتين صغيرتين بعد اغتصابهما، وقد كان مقصودا ومتعمدا من الكاتبين اعتماد جريمة بشعة ووحشية كهذه، فيجد المشاهد أنهما طول الفيلم يلمحان أن المشكل ليس في الجريمة وإنما في أسلوب تنفيذها “الطفلتان قتلتا بالكلام وحبهما لبعضهما” فسلما نفسيهما للقاتل بدون مقاومة، وهو ما عبر عنه جون كوفي مخاطبا بول بالقول: “لقد قتلهما بحبهما لعضهما”. وهذا هو الأسلوب الأمريكي في التعامل مع الأقليات في فترة الكساد.
وقد أشار جون كوفي أن أسلوب السيطرة بالحب موجود في العالم كله، حيث تدفع السلطةُ الناسَ لتُحبَّ سجانها وجلادها وتخضع له.
هذا الأسلوب كان يمثله بول رئيس السجانين بوضوح، ولهذا قتل جون كوفي بيلي بالقصاص، وجعل من بيرسي مجنونا لعنصريته، فجون كوفي كان غاضبا من أسلوب الجريمة أكثر من الجريمة ذاتِها؛ أي: ” قتلهما بحبهما لعضهما”، وقد كانت هذه أول جملة قيلت في الفيلم وذكر بول بها وهو على كرسي الإعدام.
وفي لقطة في بداية الفلاش باك، والتي أجد أنها كانت تأسيسية في مشهد عادٍ لمساجين يشتغلون بالحفر وتكسير الصخور، لكن الغريب أن كل المساجين كانوا سودا بدون استثناء، ففي جميع الأفلام التي تظهر العبيد يشتغلون ـ و”12 سنة من العبودية” كمثال ـ يظهر أن العبيد يشتغلون ويغنون وهم تحت ضرب السياط، لكن المشهد العظيم الذي ابتكره المخرج فرانك دارابونت فيه أيضا الشغل القاسي والغناء، لكن بدون سياط، وهم ليسوا عبيدا، بل هم راضون بوضعهم ومحكومون بالحب.
كما أن إسناد دور بول لطوم هانكس كان مناسبا جدا لإبراز “سلطة الحب”، لأن طوم ذو وجه هادئ ووسيم ومحبوب، وهو ما كان مناسبا جدا للفيلم وللشخصية. وقد صرح ستيفن كينج أكثر من مرة أنه سعيد جدا لقبول طوم هانكس للدور.
- الفأر في الممر الأخضر: وهو عنوان الفصل كما ورد في الرواية.
المساحة الشاسعة التي أفردها فرانك دارابونت للفأر في الفيلم لم تكن اعتباطا، وفي اعتقادي يمثل الحلم البسيط للناس البسطاء: شغل، أكل، ولهو. وقد سمح له بول بالوجود في الممر، لأنه لا يغير من واقع السجناء شيئا، بل يساهم في تهدئتهم وإلهائهم.
ولأن بيرسي يمثل السلطوية الفجة قام بقتل الفأر لأنه يرفض التعامل مع السجناء بليونة عكس بول/السلطة الذي كان يمني السجناء/الشعب بالقول أن الفأر سيعيش في مكان جميل وستخصص له ميزانية ليبقوا دائما غارقين في الأحلام والأوهام للحفاظ على النظام.
وعلى ما يبدو فإن ستيفن كينع كان متأثرا بالرواية العظيمة والشهيرة “فئران ورجال” لكاتبها جون شتاينبك، فهي أيضا تدور أحداثها في فترة الكساد، وأحد أبطال الرواية ضخم الجثة كضخامة جون كافي وبذكاء متدني بالكاد يعرف أساسيات الحياة مثل كوفي أيضا، وطموح أبطال الرواية بسيط جدا يتمثل في مزرعة يعيشون عليها ويوضح شتاينبك أن الحلم لن يتحقق يوما لكن من الضروري أن يعيشوا على هذا الحلم للسيطرة عليهم. كذلك بطل الرواية الضخم شبيه جون كافي يموت بطريقة غريبة فأخوه خوفا عليه من تعذيب الناس له قتله أي أنه أيضا قتله لأنه يحبه.
ورواية “فئران ورجال” أيضا مستوحاة من قصيدة اسكتلندية كتبت سنة 1785م بعنوان “إلى فأر” للشاعر الشهير روبرت برنز، يخاطب فيها الشاعر فأرا وينصحه أن لا يحلم لأن أحلامه لن تتحقق يوما لأنه ببساطة فأر.
القصيدة والروايتين والفيلم رسالتهم واحدة، وهي أن بعض الناس كُتب عليهم فقط أن يحلموا دون أن يحققوا حلمهم يوما مهما كان بسيطا.
- فيلم The Green Mile أنتج مباشرة بعد فيلم The ShawshankRedemption وكلاهما تدور أحداثهما في سجن أمريكي؛ ففي آخر رواية “اللحظة الأخيرة”، وبالضبط في الصفحة 478، حين كان يتحدث بول عن اللعنة التي لعنه بها جون كافي وأنه يتخيله في كل لحظة وقال: “قد علمت، بل أدركت شيئا مفزعا أنه أحيانا لا تجد فارقا على الإطلاق بين الخلاص واللعنة” فالفرق بين شاوشانك و”الممر الأخضر” هو أن الأول يحكيه سجين والثاني يحكيه سجان.
في شاوشانك نفهم أن السجن يلعن المسجون ويطارده حتى بعد خروجه كما حصل مع بروكس أمين مكتبة السجن الذي انتحر بعد خروجه. أما “الممر الأخضر” فيخبرنا أن لعنة السجن أشد وطأة على السجان من السجين.
- من يكون جون كوفي وما هي رمزيته في الفيلم؟
أغلب الذين تحدثوا عن الفيلم قالوا أن شخصيته تمثل المسيح، إلا أني لا أجدني متفقا مع هذا الطرح. صحيح أنه يشفي المرضى لكنه لا يحيي الموتى فهو يساعد وينقذ من الموت في اللحظات الأخيرة لكنه لا يحيي. كما أنه في الفيلم كان يكره بيل كما أنه انتقم من كل الأشرار في الفيلم وهو ما يتعارض مع صفات المسيح.
جون كوفي هو إنسان بسيط كل ما يفعله أنه يساعد الناس بما يستطيع، إلا أنه بما أصبح عليه الناس من أنانية ولا مبالاة فشخص مثل كوفي يعتبر معجزة، وكدليل على هذا فالسلسلة التي أهدته زوجة مدير السجن من خلال البحث وجدتها ترمز للقديس كريستوفر وهو شخص ضخم الجثة والعضلات مثل كوفي، ويروى أن كريستوفر كرس حياته فقط لمساعدة الناس، وكما حصل مع كوفي أعدم القديس ظلما أيضا، ولهذا كان كوفي كلما سئل “ماذا فعلت ؟” يجيب: لقد ساعدت، ألم أساعد؟ !
رضوان القسطيط