من قبل عقود مضتْ كانت هناك لعبة يسير بها رجل في شوارع المُدُن العربيَّة العتيقة؛ صندوق خشبيّ كبير يحمله صاحبه على كتفيْه، ثم يضعه على حوامل ويدعو الناس إليه. في هذا الصندوق فتحات يضع الشخص عينه على أحدها؛ فيرى كثيرًا من المشاهد تتوالى لتصور له قصصًا كان يسمعها سماعًا من قبل ولا يراها، مثل قصص أبي زيد الهلاليّ وقصص الأميرة والصعلوك الشجاع وغيرها. لعبة ذات اتفاق بسيط للغاية؛ قليل من المال تدفعه مُقابل أن ترى الدنيا وحكاويها في صور. وأنت في عجب شديد كيف يصدر عن هذا الصندوق الخشبيّ تلك القصص التي طالما حلمتَ بها، وكيف من قلب الجماد تتولد الحياة بكل ما فيها من دراما. هذه اللعبة هي نفسها التي يعدك بها صُنَّاع فيلم “صندوق الدنيا”، فيلم سترى فيه دراما الحياة على شاشة فسيحة تسمى “سينما”.
“صندوق الدنيا” فيلم من تأليف وإخراج عماد البهات، وبطولة خالد الصاوي، رانيا يوسف، صلاح عبد الله، باسم سمرة، علاء مرسي، عمرو القاضي، أحمد كمال، وكثير غيرهم. وبهذا يصنف تحت صنف الأفلام الجماعيَّة؛ التي فيها يفتت دور البطولة مُوزَّعًا على كل المشاركين في العمل. وهي أفلام ذات مزاج خاص، وغالبها يتناول فكرة ويقدم عرضًا مغايرًا لأفلام البطولة العاديَّة التي نراها كل يوم. وفي هذا المنحى لمْ يقصِّر “صندوق الدنيا” في شيء؛ فهو حالة فريدة غير اعتياديَّة، حالة جادَّة في ظلّ كثير من السخف الذي نراه، حالة تستحق الاهتمام وتسليط الضوء عليها. فإذا لمْ نهتم بهذه التجارب الجيدة المثمرة فبِمَا سنهتم؟! هذا ما يجب أن نسأل أنفسنا عنه جميعًا.
تدور أحداث الفيلم حول مجموعة من القصص الفرعيَّة التي تتلاقى في منطقة وسط البلد بمدينة القاهرة. قصص أبطالها أناس نراهم كل يوم في حياتنا، نماذج أناس تضيق بهم الحياة، وتهمِّشهم، وتمارس عليهم ظروف العصر أقصى ضغوطها. يجتمعون في ليلة واحدة في منطقة ضيقة هي عدد من الشوارع المُتماسَّة حتى يكاد كل منهم يرى الآخر -إنْ لم يره فعلاً- ثم يلتحم به كتفًا لكتف، ثم يمضي في الطريق. تجمعهم أيضًا حالة هي حالة التِّيْه والضياع، لكل واحد منهم سبب أو أسباب تدفعه لأن يمشي هائمًا على وجهه في طريق لا يعرف له نهاية. حتى لتسيطر عليك أوصاف بعد مشاهدتك للفيلم قد تدور في فلك واحد من أنَّه فيلم عن تائهين في طريق الحياة.
هذا كل ما يمكن قوله حول قصة الفيلم! لسبب قد يبدو واضحًا من النوعيَّة هو أن الفيلم جماعيّ يتناول قصصًا فرعيَّة، لا قصة ممتدة -قد نكشف بعضها ويظل غالبها منتظرًا المشاهدة-. ولهذا من الصعب أن تسرد بنيان الفيلم إلا عن طريق كشف أحداثه كلها تقريبًا. ومن الممكن تصنيف الفيلم تحت صنف “بطولة المكان” لولا اسمه والحالة التي يقدِّمها واللذان يدخلانه تحت تصنيف آخر قد يسمى بـ”أفلام الحالة”.
في الفيلم كثير من معالم الجودة والتميُّز اللذان يجعلان منه حالة خاصَّة. الفيلم قريب من ناحية قصته إلى أنماط القصص القصيرة والمسرحيات. لكنَّ المسرح وأسلوب المسرح غالبانِ على الفيلم إلى حد بعيد. وللعلم هناك الكثير من القصص القصيرة والمسرحيات التي تشبهه. ولا تتوقف مشابهته للمسرح في حيِّزه المكانيّ المُوحَّد، وحيِّزه الزمانيّ المُوحَّد وحسب، بل في وجود الحالة الجامعة بين خطوط الدراما في الفيلم. ولا يتوقف الأمر هنا، بل حتى الأساليب الجزئيَّة مسرحيَّة كذلك. من ضمنها الجمل الترميزيَّة التي تحمل معنى رمزيًّا، وكذلك نقاط البدء في كل خط دراميّ، حتى بعض أساليب الحوار مثل الحوار في المشاهد الأولى بين السائق وابنه التي تبدو وكأنَّها تقول ما يريده صانع الفيلم، لا ما يقتضيه المشهد. وهذه كلها أساليب مسرحيَّة ليست افتعالاً في المسرح، لكن قد يعدها البعض افتعالاً في حيِّز فنّ السينما. ولعلَّ أبرز اقتراب لفنّ المسرح في الفيلم هو مشهد النهاية الذي جاء مسرحيًّا بامتياز.
هل أسوق هذا على أنَّه عيب؟! لا بالقطع؛ قد يكون عيبًا -أو شبه عيب- في فيلم آخر لكنْ في فيلمنا هذا ليس عيبًا؛ لسبب واضح هو اسم الفيلم “صندوق الدنيا” الذي يشبه إلى حد كبير المسرح نفسه. سيفتح لنا صندوق الدنيا أستاره لنرى ما بداخله من الدنيا والعجائب. وقد قسَّم صانع الفيلم عمله إلى لوحات أو أقسام، وكأنَّه يفصلها كما كان يفصلها صاحب الصندوق القديم إلى قصص تتلو بعضَها. وهو مكتوب بطريقة مشاهد الاسترجاع (الفلاش باك)؛ حيث يبدأ الحدث من نقطة، ونعود بعدها لنرى بعض التفسير في نقطة سابقة.
وإنْ كان التأليف مشابهًا للمسرح فإنَّ الإخراج كان سينمائيًّا بامتياز. لقد أجاد المخرج إجادة بالغة في هذا الفيلم، ولو كان هناك “أوسكار” محليّ لفاز بها دون تردد. نتحدث هنا عن إخراج يعرف كيف يدير المشهد ليوصل لك ما يريد. والمُخرج من القليلين الذين نراهم يُجيدون التعبير عن طريق تحريك الكاميرا، لا أقصد هنا الحركات الأفقيَّة والرأسيَّة وحسب، بل أقصد الحركات الاهتزازيَّة والانفعاليَّة للكاميرا. وقد اختارها في لقطات بعض المشاهد بإتقان وتفنُّن كبيرين.
ولعلَّنا سنعرف قيمة الإخراج في الفيلم إذا اعتبرنا المكان الذي تدور فيه الأحداث وخصوصيته في التصوير. التصوير في مواقع المُحاكاة (الاستوديو) غير التصوير في الأماكن الحقيقيَّة التي هي البيئة الطبيعيَّة للمشاهد. التصوير في الاستوديو أنت المُتحكِّم فيه أمَّا التصوير في أرض الواقع وبين الناس فيقلل من تحكُّمك درجات ودرجات. فما بالنا بالتصوير في منطقة “وسط البلد” التي تعجُّ بالأناس والباعة والسيارات ونفيرها، ولا تهدأ صباحًا أو مساءً! .. عند هذه النقطة نعرف أهميَّة الإخراج في الفيلم. والمخرج لمْ يخترْ طريق الهروب من التصوير في الواقع، بل إنَّ كثيرًا من مشاهد الفيلم مُصوَّرة في الشارع، وبين الناس. وهنا لا يصحّ أن نفوِّت الإشادة البالغة لفريق الإنتاج بالفيلم الذي بمجهودات مُضنية استطاع أن يوفِّر الظروف الملائمة لهذا التصوير؛ ليخرج الفيلم وقد أضاف إنجازًا فوق كونه فيلمًا. وقد لا يدري صعوبة هذا إلا المشتغلون في الحقل فعلاً.
ولا تقلُّ قيمة التمثيل في الفيلم عن الإخراج في شيء؛ فالفيلم حالة تمثيليَّة في منتهى الجديَّة والإحكام. الجميع منضبط، والجميع يحاول تقديم أفضل ما عنده، الجميع لا يقصر في شيء وهذا ما قد يسعدك فوق سعادتك بالأداء. “خالد الصاوي” الذي قدَّم أداءً ليس غريبًا عن براعته المُعتادة إلا بإضافة واحدة هو أنَّه يمثل في فيلم حقيقيّ لا فيلم تهريج مصنوع لجني أموال وحسب، و”صلاح عبد الله” الذي أحكم كلّ جملة صوتيَّة من حواره مُصاحبًا إيَّاها بالأداء الحركيّ، “علاء مرسي” الذي مثَّل دون كلمة واحدة في براعة ليست غريبة عن موهبته الكبيرة، “رانيا يوسف” التي انصاعتْ للفيلم لا انصاع الفيلم لها، واختارت أن تكون أداة للفيلم لا أن يكون الفيلم أداة لها ولعلَّ هذا هو سرّ أدائها المتميِّز هنا. ولعلَّ أبرز مَن يستحق الإشادة هو “عمرو القاضي” الذي سيُفاجئك بأداء مُتفرِّد حقًّا.
موسيقى الفيلم على يد “د/ أمير جادو” نقطة ارتكاز في تدعيم المعاني التي يقدمها الفيلم. لقد قدَّم الفيلم تأليفًا موسيقيًّا حقيقيًّا، واضح فيه الاجتهاد والتواصل مع صناع الفيلم. هذه التوليفة تخرج ما يسمى بالموسيقى الفيلميَّة، التي في غالبها صارت مجرد نسخ ولصق في أفلامنا.
هذا فيلم مختلف عن بقيَّة الإنتاج السينمائيّ. اختار فيه صانعوه منطقة “وسط البلد”؛ ولهذا الاختيار معنى وغرض فهي خليَّة النحل الدائبة التي لا تهدأ، وهي المكان الذي يلتقي فيه آلاف الكادحين في الحياة، واللاهثين وراء أرزاقهم كل يوم. وإنْ بدا لك أنَّهم يعرفون مقصدهم، لكنْ من نظرة أخرى سترى أنَّهم تائهون في الطريق.
عبد المنعم أديب