هذه الثلاثية مقتبسة عن رواية إيروتيكية (جنسية) للكاتبة الإنكليزية E.L James.
حققت الرواية نجاحاً جماهيرياً كبيراً وتمت ترجمتها إلى أكثر من خمسين لغة مع مبيعات فاقت المئة مليون نسخة حول العالم بحسب ويكيبيديا.
مع ذلك، لا يبدو أن الأفلام الثلاثة استطاعت الاقتراب من النجاح الذي وصلت إليه الرواية الأصلية. أراء النقاد السينمائيين لم تكن إيجابية وتصنيف IMDb لا يشير إلى أن سلسلة الأفلام Fifty Shades of Grey, Fifty Shades Darker, Fifty Shades Freed قد لاقت الجماهيرية نفسها التي حظيت بها الرواية.
الأمر الذي يدفعني لتقديم رأيي بهذه الثلاثية هو الجدل الكبير الذي لا تزال هذه السلسلة تطرحه، بالإضافة إلى وجود حاجة حقيقية لنشر الثقافة الجنسية لدى الجمهور العربي لا سيما ما يتعلق بالتحديد بالعلاقات الجنسية السادية.
قد يقول قائل إن هذه السلسلة هي عبارة عن أفلام إباحية مغلفة في إطار قصة حب مع القليل من الدراما والتشويق، وقد تحجم الكثيرات والكثيرون عن متابعة الفيلم بعد أول مشهد سادي.
لست هنا في معرض الدفاع عن هذه الثلاثية ولا التشجيع على مشاهدتها. ولست كذلك في معرض قدحها وذمها وتصويرها على أنها من المحرمات. ما يعنيني بالتحديد هو تقديم شرح بسيط آمل معه أن أقدم إضافة تثقيفية حيال موضوع الشخصية السادية وسلوكها على وجه الخصوص.
لا بد هنا من الإشارة إلى كون السادية هي اضطراب (أو شذوذ) نفسي جنسي يجعل صاحبه يكتسب اللذة الجنسية من خلال تعذيب الطرف الآخر بشكل مادي (ضرب، جلد، صفع …) أو معنوي (سب، إهانة..).
يمثل غري شخصية تتحول من مراهق مازوخي إلى رجل سادي في هذه السلسلة.
غري الطفل لم يحظى بأسرة مثالية فالأم مدمنة كحول، والأب قاسٍ وعنيف. ينتهي الأمر بغري بأن تتبناه أسرة غنية ترعاه وتربيه بعيداً عن والديه الطائشين.
ظروف نشأته جعلت الكثير من العقد النفسية تعشعش في شخصيته وتنمو مع سنين مراهقته.
إحدى صديقات أمه بالتبني (السيدة روبنسن) كانت المسترسMistress التي أدخلته عالم السادية والخضوع في بداية مراهقته.
كانت تكبره بسنين عديدة. استغلت شخصيته المنغلقة ووسامته لتجعل منه خادمها المطيع Submissive وتمارس السادية الجنسية عليه. تعذبه وتضربه وتصل لنشوتها الجنسية من خلاله.
في المقابل، وجد المراهق غري في هذا الاستلاب النفسي والجسدي أماناً (سلبياً) عوضه عن حرمانه من عاطفته تجاه والدته المدمنة، وحرره من مشقة اتخاذ أي قرار طالما أن إرادته مستلبة كلياً للمستريسروبنسن، وشكل له استجابة نكوصية للقهر الذي عاناه في طفولته.
يمثل غري المراهق شخصية مازوخية (أو ماسوشية). والماسوشية هي نقيض السادية وتعرف بأنها ” انحراف (أو اضطراب أو شذوذ) نفسي جنسي تصبح معه اللذة الجنسية والإشباع الجنسي مرتبطان بالتألم وتلقي أساليب التعذيب المادي (ضرب، جلد ..) أو المعنوي (سب وشتم وإهانات …).
التفاعلات النفسية داخل شخصية غري مع تقدمه في العمر وتزايد امتلاكه لعناصر القوة (المال والنفوذ والشهرة والنجاح المهني) هي عوامل جعلته شيئاً فشيئاً ينتقل من مرحلة الخادم مُستَلَب الإرادة إلى مرحلة السيد (Master).
استمرت والدته في كونها محور عقده النفسية، وبعد أن كان يجد لذته في تلقي التعذيب من سيدته (السيدة روبنسن) بات هو من يتلذذ بتعذيب الأخريات. كان يختار الفتيات الشبيهات بوالدته – يتضح ذلك من خلال صورة والدته في شبابها والشبه بينها وبين آنا وخادمته الأخرى التي حاولت قتل آنا بالمسدس في إحدى اللقطات-، وينتقم منها من خلالهن.
الاضطراب النفسي لم يتغير. الشيء الذي تغير هو شكل هذا الاضطراب. تحول غري من كونه مراهق مازوخي ليصبح رجلاً سادياً. وتحولت علاقته بالسيدة روبنسن إلى علاقة صداقة فقط، هذه الحالة شكلت له نوعاً من التوازن الهش في شخصيته.
الآن غري هو الشاب الثري القادر من خلال وسامته وماله ونفوذه على الإيقاع بالفتيات ليمارس معهن سلوكه السادي ويمتع نفسه بتعذيبهن ومضاجعتهن بعنف وقسوة.
إلى أن تدخل حياته وبمحض المصادفة شابة جميلة (آنا) وتبدأ معها قصة علاقة سادية تتطور مع تتالي أحداث الجزأين الثاني والثالث.
آنا الفتاة العذراء أعجبت به وأحبته، في حين كان هو لا يزال يراها ك”خادمة” Submissive جديدة تضاف إلى سجلات خادماته السابقات.
استطاع حب آنا بالتدريج أن يخفف على غري مشاكله النفسية، خصوصاً مع مراعاتها لاضطراباته وقبولها لأسلوبه السادي شيئاً فشيئاً رغم وصوله في أحد جلساته التعذيبية إلى مرحلة إيلامها الشديد، الأمر الذي دفعها لتركه لفترة وجيزة، قبل أن يعود ويعتذر ويكتشف بالفعل أنه يحبها وأن إيذاءه لها لم يعجبه.
وهنا بالضبط حدثت الانعطافة الواضحة في سلوكه معها، وبدأ يتحرر من اضطرابه المزمن ويرفض داخل نفسه إيصالها إلى درجات مرتفعة من الألم، ويشعر أنه يحبها في أعماقه ويراها كحبيبة وزوجة مثالية.
مع ذلك ظلت الطقوس السادية حاضرة، بل وبدأت آنا تجد المتعة في تلقي العذاب من زوجها (أصبحت الطرف المازوخي من العلاقة)، إلا أن وصول غري إلى مرحلة مسامحة والدته وزيارته لقبرها يشير إلى تمكن حب آنا من مساعدته على تجاوز أكبر عقده النفسية، ويوحي بأنه لامس بدايات علاجه النسبي من ساديته المزمنة.
تتخلل السلسلة العديد من المشاهد الجنسية والسادية. هي ليست ثلاثية ينصح بها للمشاهدة العائلية، وقد لا ينصح بها حتى بالنسبة للراشدين من أصحاب العلاقات السوية.
قد تكون الفكرة الأهم التي يمكن استخلاصها من هذه الثلاثية هي أن الحب قادر على صنع المستحيل. كما تقدم هذه السلسلة درساً جنسياً يتلخص في أن الوصول إلى علاقة عاطفية/جنسية أفضل يتطلب وجود شفافية متبادلة ومصارحة مباشرة تمكن كل طرف من معرفة رغبات الطرف الآخر وميوله والأساليب والحركات والتقنيات الحميمة المفضلة لديه، الأمر الذي يضمن مستويات أعلى من المتعة الجنسية وبالمحصلة يرفع مستويات الرضا والتفاهم والسعادة بينهما.
من جديد، لستُ هنا في معرض التسويق للسادية ولا المازوخية ولا تقديمهما كمثال اعتيادي للعلاقات. على العكس، لا بد من التذكير أن هذه العلاقات هي علاقات غير طبيعية وأن السادية والمازوخية هما اضطرابان نفسيان جنسيان يستلزمان علاجاً متخصصاً بحسب درجة كل منهما.
تجدر الإشارة إلى أن للسادية والمازوخية درجات متفاوتة وأنواع مختلفة، وأن تشخيصهما لدى فرد ما يتطلب اختبارات خاصة يتّبعها أخصائيون نفسيون. ليست كل قسوة جنسية تعني بالضرورة أن الشخص سادي وليس كل تلذذ بتلقي الألم يعني بالضرورة أن الشخص مازوخي.
إبراهيم حسن – سوريا