في فيلمها الروائي الطويل الأول “صوفيا ” استطاعت المخرجة وكاتبة سيناريو الفيلم “مريم بن مبارك ” من خلال تبنيها لأسلوب (سنيما الؤلف ) أن تخرج بفيلم يحمل قضية مغربية اقتبست أحداثها من واقع المرأة المغربية التي تتفاقم همومها وتتصادم إرادتها أمام قيود إجتماعية وبنود قانونية تلزمها بأن تكون في خانة الضحية المجبرة على تحمل هذا الدور، فقد كسر فيلم “صوفيا ” كل البديهيات والمسلمات بقضايا المرأة النمطية وحقوقها في ممارسة الجنس خارج إطار مؤسسة الزواج كنوع من أنواع الحرية الشخصية التي تكفل الصحة النفسية والجسدية للفرد فتجعله فردا سويا لا يحاول التأثير بالسلب على مجتمعه من خلال خرق قوانين تكبح رغبته كبالغ من حقه تقرير ما يلائمه ، و بحبكة درامية غير مبالغ فيها كسرت “بن مبارك ” توقعات الكثير من العلمانيين المغاربة الذين يريدون الانصار لهذه الفكرة فجاء فيلمها أكثر مصداقية وواقعية ، تاركا الشعارات و التهليلات لمكانها الطبيعي ومؤكدا من خلال أحداث الفيلم أن الفكرة التي تبنتها السيناريست ليست إلا مواقف طبيعية لمن يعيشونها يوميا.
الفيلم بين واقع حقيقي ونهاية سنيمائية
قصة الفيلم الواقعية التي نقلتها المخرجة مريم بن مبارك ليست إلا إسقاطا سنيمائيا لما يحدث في مجتمعات عربية كثيرة، تتفاقم فيها ظاهرة العلاقات الجنسية غير الشرعية ، أو كما هو متداول في لغة القانون العلاقات خارج مؤسسة الزواج، والذي ينتج عنها أطفال ، تغيب هويتهم بين الدين والقانون.
هذه القضية النمطية التي حاول مخرجون ومخرجات قبل “بن مبارك” معالجتها بإيديوليجيات غير حيادية تنتصر للحركات النسوية المغربية التي وصل عددها إلى 32 جمعية سنة218 ، تطالب بإلغاء قانون 490 والذي سُنَّ حسبهم ليكبح حرية الجنسين في ممارسة الجنس ولو بالتراضي للراشدين حسب القانون ، وتستند تلك الحركات النسوية العلمانية في مطالبها إلى أن هكذا نوع من العلاقات الجنسية بالتراضي بحجة أنها لا تضر بالطرفين ولا حتى بالمجتمع بل هي علاقات تندرج تحت بند الحرية الشخصية للفرد.
من هذه الإيدبولجية انطلقت بن مبارك في كتابة سيناريو فيلمها وإخراجه، مخالفة كل التوقعات بالانتصار لتلك الجمعيات، خاصة وأن القصة الحقيقية التي بنت عليها فيلمها قد وقعت لأحدى قريباتها ، وظلت المخرجة ما يقارب السنتين وهي تراقب وتستمع لمن مروا بمثل أحداث فيلمها مع الخروج عن المألوف في السنيما التي تعالج قضايا المرأة والتي تضع المرأة دائما في خانة الضحية والرجل في قفص الاتهام ،هنا وفي فيلم “صوفيا ” فإن الفتاة الوديعة الهادئة ذات24 ربيعا ،نشأت في كنف أسرة مغربية محترمة، تمارس علاقة جنسية غير شرعية مع “عمر ” ،تكتشف ابنة خالتها حملها الذي ظهر طوال تسعة أشهر وهي حالة طبية تسمىDenial Pregnancy ، ،هذه هي المعلومة الطبية التي افتتحت بها المخرجة فيلمها ، تتجه “صوفيا ” رفقة قريبتها إلى المستشفى لوضع حملها دون إعلام والديها وخالتها اللتن كانت تجمعهم مأدبة غداء على شرف مشروع سينقل العائلة إلى مستوى معيشي أفضل تتعرض الفتاة إلى عدة عراقيل فالمستشفى في غياب وثائق تثبت شرعية حملها فتتوجه إلى مستشفى حكومي أين تضع طفلتها ويمنحها الطبيب مدة 24 ساعة لتسوية وضعيتها القانونية، المدة التي لا تسمح بذلك فتحيل إدارة المستشفى الملف إلى الشرطة لتبدأ منه أحداث تكتشف الأسرة الموضوع فيودع والد صوفيا شكواه ضد ” عمر” الذي اعترفت صوفيا بمعاشرته لها جنسيا بالتراضي وهذا الفعل يعتبر إجرما يعاقب عليه القانون المغربي بالحبس. تبدأ هنا قوة المال الذي يحل الإشكال بالتراضي فيقبل “عمر” الزواج من “صوفيا ” ويقبل “شرطي التحقيق “الإفراج عنهما مقابل مبلغ من المال . يشرع في التحضيرات لحفل الزفاف دون الإعلان عن المولودة ، لكي لا يؤثر ذلك على سمعة والد “صوفيا ” الذي على وشك إتمام صفقة عمره التي ستنقله للعيش في وسط أثرياء مدينة كازبلانكا. تنقلب دفة الأحداث يوم الزفاف يحدث أن تعترف صوفيا لابنة خالتها التي دعمتها بأن “عمر ” ليس والد إبنتها ،بل هو “محمود” شريك والدها ، لكنها لن تصفح عن الحقيقة وأنها مصرة على أن يصبح “عمر ” زوجها والد ابنتها قانونيا فالصفقة تمت بينهما أيضا بالتراضي الرجولة مقابل المال. هذا الموقف من “عمر ” الذي ألغى عنه صفة رجل متهم مغضوب عليه لينتقل إلى الضحية التي تستحق التعاطف والشفقة، ورغم جهود ابنة الخالة لإقناع الجميع العزوف عن إتمام الزفاف إلا أنها تفشل لأن مصلحة الجميع فوق الإنسانية والقانون و الضمير.
وفقت “بن مبارك ” في كتابة سيناريو بقليل من الحوار وابتعدت عن الثرثرة ، متخلية عن تراجيديا الأحداث فجمعت عدة محاور صراع الطبقات ، سلطة المال وتاثيرها في القانون ، الانكسار الاجتماعي ، التأثير الأوروبي على الفرد المغربي خاصة اللغة انقسمت إلى جزئين في محيط “صوفيا ” وقريبتها ، كل هذا منح الفيلم دسامة كسرت حدتها خفة الإخراج والتي نجحت فيها المخرجة من خلال التدرج الطبيعي حسب أهمية الأحداث والتفكيك التنازلي للشخصيات حسب الأدوار وتوزيع مشاهدها حسب الأهمية، الشخصيات قليلة الكلام تعبر أكثربتقاسيم الوجه ونجحت “بن مبارك ” في تحقيق هذا الأسلوب في التعبير في شخصية “صوفيا ” التي أدت دورها الممثلة الصاعدة “مها علمي” فتاة في ربيعها24، ليس لها علاقات إجتماعية، تملك من الغموض ما يتجلى في نظراتها البريئة طوال الفيلم، تبدو بملامح ساذجة كي لا تشكك في حقيقتها حتى نهاية الفيلم .
فالمقابل ، جاء دور ابنة خالة صوفيا الفركوفونية التي أدت دورها الممثلة”سارة برليس ” شخصية واضحة صارمة ، تؤمن بأن المال ليس فوق القانون وواثقة وقوية وهذه صفات منطقية لفتاة نشأت في أوروبا لأم متسلطة قوية لا ترى في شرب الخمر ما لا يتنافى مع القيم التربوية.
كما برزت شخصية بمنطقية متناهية ، لشاب ضائع بين أسرته ووضعه المادي ،عنيف في كلامه قاسي الملامح ، يسكن في حي شعبي فقير لا يتوفر على أدنى شروط الحياة الكريمة ، مستعد لفعل أي شيء مقابل الخروج من منطقته ، بملابس رثة ، يتغير معه كل شيء بمجرد قبوله صفقة الزواج .
هي هكذا شخصيات فيلم “صوفيا ” أبحرت بنا في عمق المجتمع المغربي وكشفت لنا حقيقة الإنكسار الاجتماعي الذي تولدت عنه الطبقية والفروقات الاجتماعية بسبب الوضع الاقتصادي المتفاوت بين الأسر المغربية عَرَّت تلك الحقيقة مشاهد جمعت صوفيا وعمر في غياب موسيقى تضفي على المشاهد حسا تراديجيا فتصل بذلك المشاهد عن الواقع وتنزع من إدراكه الإحساس بالإنحياز أو التعاطف مع أحد الطرفين وتؤكد المخرجة فكرتها من وخلال أحد أقوى المشاهد التي تجمع البطلة التي تعلل إختيارها عمر لحاجته ، كما جاءت مشاهد أخرى جمعت صوفيا بوالدها ذلك الشخص الهاديء الذي لم يزعزعه ما فعلته ابنته؛ شخصية ردود فعلها وأسلوب كلامها هاديء خيالي، من شخص لا يكلف نفسه عناء الغضب، انهزامي الطبع . كذلك زوجته المطيعة لرغبات ابنتها التي قررت أن يكون عمر “الضحية ” ومنقذ عائلتها من الفقر فينتهي الفيلم بمشهد زفاف مغربي تقليدي يجمع الضحية والجلاد تبدو فيه الجلادة مفعمة بالفرح ترتسم على محياها ابتسامات النشوة والإنتصار ، ويظهر فيه الضحيه منفصلا عن واقع نهاية سينيمائية خالية تفتح أمام المشاهد عدة تساؤلات حول ما بعد النهاية.
مريم بن كارا-تونس