تقديم:
البحث في حقبة من حقب التاريخ، من خلال لغة الصورة، وبالضبط في المجال الفيلمي الوثائقي، يعد رؤية لها قيمتها التوثيقية و/أو الوثائقية، لاسيما في زمن صنع الآخر صورتنا ومنذ بداية قول الأشياء بالصورة. كيف يمكن، إذن، ومن خلال كتابة وإخراج فيلم وثائقي ما، وقد يكون فيلما وثائقيا تلفزيونيا أو سينمائيا، النبش في مرحلة سياسية/تاريخية حديثة، تكون فيها الذات المحلية أو العربية أو كل الذوات التي تحكم فيها الآخر واحتلها وفعل فيها وبها ما شاء، موضوعا جوهريا للبحث وبلغة الصورة ذات البعد الوثائقي؟.
أكيد، أن الآخر(مثل فرنسا هنا)، الذي احتل العديد من الدول بما فيها دولة الشقيقة الجزائر، قد ظل، ولازال، يقدم رواية واحدة مبررة للعديد من الأفعال الاستعمارية وتجلياتها العسكرية والثقافية، الخ. من أجل خلق نوع من الردود التاريخية والعلمية والفكرية، تم تأليف وكتابة العديد من المؤلفات، والهادفة إلى تبيان حقيقة وخلفيات الاستعمار الفرنسي في الجزائر، وكل الدول التي عاشت هذا الاحتلال، كما قدمت بعض الأفلام السينمائية الروائية، بتوقيعات سينمائية جزائرية أو غيرها لتفسر طبيعة وغايات الاحتلال الفرنسي للجزائر الذي دام لأكثر من قرن من الزمن. وفي مقابل، كل هذا نجد القليل من الأفلام الوثائقية (التلفزيونية والسينمائية)، الجادة التي استطاعت أن تقوم بوظيفة تفكيك بعض الموضوعات السياسية، وبطريقة غير اندفاعية، بل بطريقة تأملية تفكيكية لها العديد من الدلالات والعبر المفيدة لنا جميعا، في هذا الزمن الذي طغت عليه اهتمامات أخرى، مما سيجعل الناشئة، عرضة لعدم التصاقهم بقضاياهم الوطنية والإنسانية ككل.
عتبة العنوان: (ألم العنونة).
دماء على نهر السين:
منذ البدء نشعر بمدى خلخلة العنوان للمتلقي، خلخلة جعلتنا نتساءل، ما العلاقة بين الدم والنهر/الماء؟. علاقة انزياح مارسها المخرج، وهو هنا المغربي المهدي بكار، المتشبع بثقافة الصورة الوثائقية وشعرية المونتاج، ليعلن ومنذ البدء، أن هناك علاقة تنافر وتضاد بين السائلين (الدم والماء). صحيح، فهما معا يتلقيان في السيلان، وهما معا جوهر الحياة والخصوبة البشرية، ودونهما الهلاك والموت، لكن، في سياقات هذا الفيلم الوثائقي، بنيا على فعل مؤلم، هدفه خلق حالة توتر لدى المتفرج، لأن أفق انتظاره، سيصاب بتمزقات نفسية ولا إنسانية، لكون العنوان ومن منظور تركيبي أيضا، رسخ هذا العنف/القتل الذي مورس على أصحاب الدماء التي سالت هنا. دماء تم استعمالها كنكرة، في حين العلاقة بين النهر والسين، هي علاقة إضافة/تعريف، مما يجعلنا نستنتج مدى التنكرة للدماء التي سالت هنا، وعلى نهر تم تسميته وتحديد هويته الجغرافية والسياسية، بل وحتى على مستوى إعراب هذه الجملة/العنوان، نجد أن لفظة دماء، تتموقع ضمن خبر لمبتدأ محذوف تقديره هذه، مما يجعلنا هنا، نعمق علاقتنا وتعاطفنا مع هذه الدماء التي تم حذف مبتدئها، وتصنيفها ضمن حالة الثبات باعتبارها جملة إسمية وغير فعلية مولدة للحركة والفعل، وهو بعد تركيبي آخر يضاف لما سبق، مما يولد الإحساس بأننا أمام حدوثة لها وقعها القوي على المتلقي/المتفرج.
دماء 17 أكتوبر 1961:
قد يكون القليل منا، ومن محيطنا العربي من المغرب إلى المشرق، لاسيما فئة الشباب، من يعرف حادثة 17 أكتوبر 1961، التي تتلخص في مطالب شعبية جزائرية سلمية بفرنسا، غايتها المطالبة باستقلال الجزائر عن سلطات فرنسا الاستعمارية، لبناء دولتها وبأبنائها الحقيقيين. وقائع رهيبة وقعت خلال هذا التاريخ، كلل بتعنيف واعتقال وقتل العديد من الجزائريين، بل “قمة” العنف الفرنسي، تجلى هنا في رمي العديد من الجزائريين والبعض منهم، مكتوف الأيدي في نهر السين الفرنسي.
كيفية النبش في هذه الدماء الجزائرية التي سالت هناك، في بلد كان ولايزال يدعي أنه مدافع ومساهم عن الحق في الحياة للناس جمعاء؟.
الصورة وألمها في فيلم “دماء على نهر السين”:
المتتبع لطبيعة محتويات هذا الفيلم، حيث مدته الزمنية (84 د)، من الممكن أن يستشف ذلك الألم الذي عاشه الشعب الجزائري الشقيق، لاسيما، والألم ومن خلال كل تجلياته كان هو الحاضر. كيف ذلك؟. نفضل تقديم هذه التجليات وفق العناصر التحليلية الفنية التالية:
1/ في البدء كانت الغابة: في البدء كان الرعب.
منذ البداية موقعنا المخرج في شباك الغابة، جعلنا، ومن خلال مجموعة من الأصوات الآدمية وغير الآدمية، نشعر بالرعب، الذي تعمق بشعرية تلك الصور الممتعة للعين، صورالأغصان حينما تتشابك، مما يوحي بشكل واع أو غير واع، أننا فعلا أمام قضايا متشابكة ومتداخلة ومتسارعة ومتصارعة فيما بينها، أي أن لا وعي الصورة هنا، جعلنا ندرك أن مسارات الحكي، ستصبح شبيهة بالتواءات هذه الأشجار/الأغصان.
صياح وعويل آدمي، على إيقاعات مائية وأصوات طيور مخيفة ومرعبة، كأنها تستنكر ما تطل عليها من الأعلى…هنا ندرك قيمة إخراجية فنية تمتح من عوالم سينماتوغرافية قوية ودالة.
2/ حينما يتحول النهر، إلى شخصية فاعلة في الحكي:
من رحم النهر/الماء، الذي رميت فيه كائنات بشرية حية مقيدة، ولدت الحكاية، بل فيه أشرقت الشمس، لتخلخل المياه، بل لتخرج الحقيقة من جوفه، وهي ملونة باللون الأحمر المحيل على الدماء البريئة. من بطن الماء ستولد الصورة، التي علقت حبل الغسيل، بغية حكي حدوثتها للناس وللعالم أجمع.
النهر هنا، وبلغة السرديات، هو شخصية منها وإليها يعود الحكي. الماء في كل حكايات العالم، سواء ذات البعد الديني السماوي، أو الوضعي، أو عبر مسارات تاريخ الإنسان الأرضي والسمائي، كان رمز الخصوبة، بل رمز الحياة، إلا أنه هنا، كان شاهدا على القتل وخنق الحق في الحياة. كم كانت فكرة البدء به، وجعله يبوح بطريقة فنية جميلة ودالة، لها تلك القيمة النفسية والوجدانية المؤثرة في نفسية المتلقي.
غسيل الفيلم، بل عفوا، صور الفيلم الصادمة الأولى علقت على الحبل، وهي تهتز، في إشارة دالة ومنفتحة على العديد من القراءات، ومنها على وجه الخصوص، البحث عما ينصف الضحايا، بل نشر صورهنا، تحيل أيضا وكما أشرنا سالفا، إلى نشر الغسيل وجعلها أمام عيون الناس ( أنسنة الحدث).
3/ الفوتوغرافيا في خدمة القضية:
الفوتوغرافيا، هنا، اكتست وبلغة أهل القانون، حجة الضحية، دليل على بشاعة الفعل، وجعل الآخر ومنذ البدء يتموقع ضمن خانة الجلاد. كيف يمكن هنا، وبلغة الفوتوغرافيا، المبنية أساسا على ثنائية اللون الأبيض والأسود، أن تصبح ذلك الشاهد على الجرم، بل من رحمها من الممكن أن ننتشل البياض لمنحه للشهداء، ونبقي اللون الأسود لجعله في عنق الجلاد، كدليل على ممارسة فعل من الصعب محوه بلغة السياسة، بل من الصعب تأويله خارج ثنائية الخير والشر، حيث الحق في الاستقلال هو فعل خير، مقابل رفضه وقتل من طالب به، هو فعل شر أبدي.
الفوتوغرافيا، وهي تتراقص، معلقة فوق حبل الغسيل، تخيل لنا فعلا أنها قتلت للتو، تحريكها، لم يكن فعلا اعتباطيا، بل حتى لو كان ذلك، لانتشلناها من قبضة يد الفيلم/المخرج، لنمارس حقنا المشروع في التلقي والتأويل، ولنقول ما قلناه سابقا، ونزيد عليه، هنا، أن رقصة الصورة هنا، شبيهة بذبح/رقصة الديك، مما يحيلنا على عوالم سيكولوجية عنيفة، يتداخل فيها الرقص بالعويل والبكاء والذبح والقتل، الخ.
4/ محنة الذاكرة:
النبش، في هذا الفيلم الوثائقي، تلبس بالعديد من أشكال الحكي، التي كانت تصب كلها في اتجاه واحد، لا إنسانية الآخر، بل وإنسانية الحق الجزائري في المطالبة بحقه التاريخي والشرعي، والمحدد في الاستقلال. لقد قيل هذا بالحكي بالصورة ومن جملتها الحكي عبر الذاكرة، أو ما يمكن تسميته بالسفر في ذاكرة الوجود الجزائري بفرنسا، قيل هذا أيضا بلغة أو بثنائية البياض والسواد، من موقع متحرك. محنة المواطن الجزائري بدأت بالهامش المكاني في فرنسا، والعيش خارج شروط الحياة، مما جعله يدرك ومنذ البدء، أن الآخر غايته في كل تعامل هو امتصاص خيراته وخصوبة جسده و مخياله، الخ.
السفر في ذاكرة ممزقة بفعل ممارسة كل أشكال العنف عليها، من لدن الفرنسي، هو خيط جامع لكل الحكايات التي حكيت من طرف العديد من المتدخلين في الفيلم، والذين حكوا قصصا مرعبة ومخيفة، بل ومن خلالها نكتشف قيمة وأهمية هذا الفيلم الغني بأرشيفه، الذي أراد المخرج، ومن خلاله، أن يحافظ على مسافة مهمة ليقول القول بلسان الآخرين.
جروح عديدة ميزت حكي الذاكرة الجزائرية هنا، سواء من لدن أبنائها، أو من لدن الغير، مما يجعلنا نوقف بين الفينة والأخرى، ما لدينا من تمثلات حول القضية، في أفق “التصحيح” و”التعديل” و”الإضافة”، لأننا أمام خصوبة المتون المقدمة هنا، وبلغة أرشيفية، تكشف شرعية الطرح، وتاريخية القضية، وبالتالي فهم، أنه من الصعب طي صفحة الذاكرة بيسر ودبلوماسية مبتسمة، بل، وحده حكي الحدوثة لكل الأجيال، في أفق فهم ما وقع وتحليله والكتابة عنه بلغات الإبداع، ومن موقع أنسنته، دون السقوط في لغة الانتقام،الخ، هو ما يمكن أن يجعلنا متصالحين مع ذواتنا ومع الغير، وما هذا الفيلم، إلا ذلك النموذج المنشود، بجانب نماذج أخرى ومن مجالات فنية وثقافية عليها أن تتوسع في الكتابة، من أجل الفهم والإفهام.
5/ صورة فرنسا من خلال موريس بابون:
دهاليز الأزقة والشوارع والفنادق، وكل الأمكنة الفرنسية، بحثا عن المناضلين الجزائريين، كان خلفها آمر الشرطة الفرنسي ، موريس بابون، الذي “تخصبت” منهجيته التعذيبية مما راكمه من تجارب في مواجهة انتفاضات المدن المغربية والجزائرية وغيرها. موريس هذا، نصبته فرنسا في هذه المهمة الأمنية بباريس، لكي يخطط لأي فعل رافض للاحتلال الفرنسي، مما جعله معذبا و”متفننا” في القتل، مراهنا على هذا الأسلوب الأمني ليؤتي أكله.
كل الأشكال التعذيبية التي مورست من طرف موريس، شكلت موضوعا جوهريا للتحليل والتفكيك في الفيلم ومن مرجعيات سياسية وفكرية متعددة من الجزائر وفرنسا وغيرهما، بل تصل ذروة التحليل حينما طرحت أسئلة قوية ودالة حول تلك العلاقة الرابطة بين موريس وديغول. هل كان هذا الأخير على علم وبينة مما يفعل موريس؟. من جملة الإجابات القوية والدالة التي وردت على لسان البعض، في ما معناه، أنه، أي موريس كان يد ديغول اليسرى، وبيده اليمنى كان يفاوض حول استقلال الجزائر.
التشبع، بالوطنية، والرغبة في الاستشهاد من أجل الجزائر، فعل لم تستطع أساليب فرنسا الأمنية القمعية خلال هذه المرحلة التاريخية الستينية، من القضاء عليها، حتى ولو بفعل رمي الجزائريين وهم مقيدي الأيدي في نهر السين.
سيظل موريس بابون، ذلك الثقب الأسود في ذاكرة التاريخ المشترك بين فرنسا والجزائر، بل وحتى سوريا والمغرب، لاسيما وأن هذا المسؤول الأمني مر من هذه الدولتين وترك بصمته الأمنية في مواجهة انتفاضات المدن، كفعل تحرري من سلطة فرنسا المستعمرة للبلاد والعباد.
6/ وفي الأخير العودة إلى الجزائر:
على امتداد ما يقرب من ساعة وسبع عشرة دقيقة، من أصل ساعة وأربع وعشرين دقيقة كمدة زمنية للفيلم، قضيناها هناك، في ذاكرة فرنسا التاريخية المثقلة بدماء “سالت” على نهر السين، ستحولنا كاميرا المخرج، نحو الجزائر، وبلغة الألوان، وتجعلنا، وبعيونها، نزور تمثال/رمز الحرية والشهداء، حيث التسمية المنحوتة اليوم في ذاكرتنا جميعا، أن هذا البلد هو بلد المليون شهيد، ليجعلنا نتساءل عما وقع بعد كل هذه التضحيات الجسام، فيكون الجواب، هو صراع الأجنحة حول الحكم، وقيادة الجزائر نحو مرحلة الاستقلال ومابعدها.
كيف تم الانتقال من فرنسا إلى الجزائر، وبلغة الصورة؟.
أكيد أن البدء بالعلم الجزائري، وكتابة لفظة الجزائر، وجعلنا نستمتع، ببعض المآثر والمكونات الطبيعية والبشرية، الخ، للجزائر، وفي مقدمة كل هذا، تلك القنطرة الموحية بإمكانية تأويل رابط بين جيلين، هو ما يمكن أن نولده هنا من مرجعية تأويلية حالمة، لكن الانشغال بالفعل السياسوي، والصراع الداخلي حول من يقود الجزائر نحو بر الأمان، وعدم ذكر “فدرالية فرنسا” المحيلة على أحداث 17 أكتوبر، والنبش في الذاكرة الفرنسية التي تمرغت في دماء الجزائريين وعلى نهر السين، الخ، يبدو قد تعطل ولأسباب عديدة كما جاء على لسان المتدخلين في الفيلم.
في أربع دقائق الأخيرة، أرجعنا الفيلم، إلى فرنسا، لتتبع محاكمة موريس بابوان، ليس في قضية قتل الجزائريين، بل في قضية تهريب اليهود، ليقضي جزءا قليلا من العقوبة السجنية التي حددها أحد المتدخلين في عشر سنوات، والعفو عنه، فيما تبقى من العقوبة، ليطرح السؤال، ويختتم به الفيلم رحلته الوثائقية في زمكان هذا الحدث وعلى لسان أحد المتدخلين: لماذا؟ لم أعرف، أي لماذا لم يحاكم حول ما تم فعله في عهده؟.
البدء بالصراخ وصوت الرصاص والعويل وصوت الغربان المخيف والمرعب والمحيل على فعل القتل، والختم بسؤال يتعلق بعدم العقاب؟؟، كل هذا يجعلنا نشعرعلى مستوى القضية، وكأنها قيدت ضد مجهول، وهو المعلوم، لكن على مستوى الرؤية الفنية جعلنا فعلا ندرك قيمة قضية لم نكن نعي العديد من تفاصيلها الدقيقة، وقد صيغت لنا برؤية فنية تؤشر على وعي المخرج بأهمية حكي الحدوثة بين الفينة والأخرى بلغة الصورة/الصوت، وفي مقدمتها لغة الموسيقى التي رافقت القضية بشكل حزين دال على رائحة القتل.
على سيبل الختم:
دماء على نهر السين، فيلم وثائقي، تمكن من خلاله المخرج المهدي بكار وطاقمه التقني وقناة الجزيرة الوثائقية ككل باعتبارها منتجة ومؤمنة بأهمية وقيمة هذا الفيلم في توثيق الذاكرة العربية الجريحة بفعل الاستعمار، من البوح وحكي ما جرى يوم 17 أكتوبر 1961، داخل فرنسا لجزء مهم من الشعب الجزائري، حيث كان مطلبه الحقيقي هو إزالة الاستعمار الفرنسي، وجعل بلده حرا طليقا. أن يبصم مخرج مغربي/مغاربي، سيرته الذاتية بهذا الفيلم الوثائقي عن الشقيقة الجزائر، هو بشكل أو بآخر، حجة على مدى قوة اللحمة المغاربية، وبالتالي، الفيلم يحمل رسالة تضامنية تاريخية رمزية إنساينة، مفادها أننا هنا وعلى امتداد هذا الاتحاد المغاربي، نشكل مواطنا واحدا على الرغم من الجروح التي لازالت مستمرة هنا وهناك، وهي تمارس بشكل محكم من طرف القوى الخارجية لمنع وخلخلة هذه اللحمة المغاربية التي تشهد عليها وحدة الجغرافيا والتاريخ وسوسيولوجيا الثقافة وحكايات الجدات المغاربيات، وتشابه الأنفاس وقسمات الوجوه واللغات العامية والإنسانيات المغاربية ككل.
د. الحبيب ناصري