في ترميم وصف «الصامتة»
غالبا ما ننظر للتطوّر بناء على هذه القناعة التي تفسِّره كنوع من الحركية المنطقية المتَّجهة نحو التَّحصيل والكسب وبلوغ الكمال، والتي تحمل في خلفيتها هذه النظرة المشفقة على أحياء الماضي والأشياء التي كانت تسكنه، متمثلة إياها ككائنات تعاني النقصان والحرمان. وارتباط السينما كفن بالصناعة والتقدم التكنولوجي يجعل من هذه القناعة المؤطر الرئيسي للنظرة الإنتقاصية التي يحملها الكثير عن سينما الفترة الصامتة. فمن داخل الوعي المترسِّب كليا أو جزئيا لهذه القناعة، والتي قد يحملها شعوريا أو دون ذلك كلا الطرفين المتقابلين من منتجي ومستهلكي السينما، تتأسس أحكام القيمة التي جعلت توصيف «الصامتة» عبارة عن مظلة مفهومية لقاموس خصب من الدلالات التي تحوم في حيز النّقص والبدائية وعدم النُّضج. وهي دلالات ترسَّخت مع الزمن بحكم جهلنا المبرمج لهذه السينما، حين نتمثلها، داخل الحدود الشكلية لأحد أنواعها من جهة؛ وحين نترك طريقة تلقّيها تؤثت للمعيارية التي نحكم بها على قيمة منتوجها من جهة أخرى.
فالسينما الصامتة، في نظر ونظرة الأغلبية، هي هذه السينما الفكاهية التي أنتجت في النوع الكوميدي فقط، ونعرفها من خلال أفلام شارلي شابلين وباستر كيتنولوريل وهاردي. وكون فيلموغرافية شارلي شابلين صمدت لهذه المدة، عبر الإقبال عليها الذي لم ينقطع بعد، فقد رُسِّخت هذه القناعة أكثر فأكثر وصارت عابرة للأجيال. إلى جانب هذه الإختزالية الحاذفة، تدخل طريقة عرض هذه السينما كعنصر رئيسي ساهم هو الآخر في بلورة النظرة الإنتقاصية لها وسكِّ التمثل المغلط والمغرض لكينونتها. فلفترة طويلة، كانت القيمة النوعية للسينما الصامتة هي المقابل النوعي لجودة العرض الذي نشاهده في القاعات والتي كانت، في جلها، تفتقر لمسلاطات مصممة لأربعة وعشرين لقطة في الثانية، عوض ستَّة عشر لقطة كما يتطلب الفيلم قبل دخول الصوت، وأحيانا كان يتم عرض الفيلم بشرائط مبعثرة النظام أو تنقصها بكرة، أو مجردة من العناوين المصاحبة. كما أن مشاهدة هذه السينما عبر شاشة التلفاز حيث لا تنصاع صورتها للشكل الضوئي لهذا الأخير كان يجعل منها عبارة عن صور تتلاحق بطريقة مسرَّعة تسمها الضّبابية وكثرة البقع الصفراء. وكون الفيلم الصامت رهين بالمستوى البصري قلبا وقالبا، فقد كانت رداءة النسخة المعروضة هي المعيار الذي يُستعمل في الحكم على المستوى الفني للأصل.
من هذا المنطلق تصبح عملية Restoration التي أصبحت، في سياق الفن السابع، مقترنة بالسينما الصامتة تتضمن كل المراحل والحالات التي تحيل إليها المفردات التي تدخل في حقل الكلمة السيمانتيكي مثل الترميم، والإستعادة والتجديد وكل ما من شأنه إرجاع القماشة البصرية للفيلم، وكنتيجة لذلك، بعث كل الأبعاد الفنية والجمالية التي كان يتضمنها في النسخة الأصلية. في هذه العملية، التي سنقتصر على الإشارة إليها في مقاربتنا باصطلاح الترميم – وبشكل من الإختزال الذي لا ينقصه بعض التعسف – تعود الحياة للفيلم الصامت، لتعود معها عملية مشاهدة السينما من داخل إعتبارات همِّها الأولي والأصلي، أي كفن بصري يبحث عن تميُّزه عن باقي الفنون الستة التي سبقته. حين نشاهد الفيلم الصامت المرمَّم، وبصوت مصاحب مُتفرِّد ومُفرَد، كمقطوعات مباشرة على البيانو، يشارك عازفها المشاهد في حضوره داخل قاعة العرض، حتما سندخل في طقس شفاء -تدليل آخر لكلمة Restoration- من هذه النظرة القاصرة للسينما الصامتة، وربما نعيد إحياء طقس المشاهدة السينمائية بالتركيز على السينما مباشرة وعدم التيه في حيثيات تضيِّع الفيلم وتبتعد به أكثر فأكثر عن كنه السينما الجمالي والتعبيري البصري.
لكن هذا لا يعني أن السينما الصامتة تستقل بالنموذج المثالي والمعياري الذي لا تشوبه شائبة في إنتاج الفن السابع. فمعايير الجودة التي تقيِّم العمل السينمائي، عبر كلِّ فترة من فترات تاريخ السينما، تنسحب كذلك على إنتاج السينما الصامتة حين نجد فيها الجيِّد والمتوسِّط والرديء. والسينما الصامتة ليست كذلك هذه السينما الصافية التي تقدّم الجانب الشكلاني وتعنى به دون أي حساب لمحتواها المضاميني الحكائي. فالفيلم الصامتكان كذلك فيلم الحكاية والسردية، والمجتمع والفرد، ولا ينقصه هذا البعد الإتنوغرافي أوالأنثروبولوجي الذي يجعل من السينما عينة تعبيرية تحفِّزعلى المقاربة من خلال المنظور الاستقرائي لمباحث الدراسات الثقافية عموما، وليس فقط الإطار المحصور للنظرية الفنية. غير أن هذه الإعتبارات في كليتها أو في جزء منها، لا تطفو إلى السطح لتطغى وتسيطر على مقصودية استبصار ولمس البعد الجمالي والفني بالدرجة الأولى، والتي تشكّل الحافز الأولي وراء إقبال أغلب مشاهدي الألفية الثانية على الفيلم الصامت حين يظهر من جديد في نسخة مرمّمة. فعودة السينما الصامتة في الآونة الأخيرة هي عودة المشاهدة من منطلق ما يمكن أن نصطلح عليه بالسينفيلية الراديكالية، حيث لا يساوم عاشق السينما في حقِّه الضّمني في العثور على صورة سينمائية صرفة.
من الصعب على عاشق السينما اليوم أن يشاهد الفيلم الصامت المرمّم دون أن يندمج في طقس من التعالقات المشهدية التي تتحاور فيها سينما الأمس مع سينما اليوم، أودون أن تكون مشاهدته نوعا من الحوار الداخلي المفتوح بين الآراء والمواقف التي تحوم حول الخطاب النظري الذي تناول الفنِّية artistry السينماتوغرافية عموما. مشاهدة السينما الصامتة اليوم هي من ثم إنخراط في نوع من المشاهدة المقارنة التي تعادل في فعلها ونتائجها ما يتحقق في القراءة المقارنة داخل سياق الحقل الأدبي. ويمكن أن نقول إن هذه المشاهدة التناصية بقيت اليوم الأثر الوحيد الذي يمكن أن نقتفي فيه الطريق نحو العشق الخالص للسينما وسط عباب الهرج الإعلامي الذي أصبح يُحسب على السينفيليا*.
المشاهدة كمقارنة
في المشاهدة المقارنة للفيلم الصامت المرمَّم قد نعثر في سينما الأمس على مفتاح العبقرية الخارقة لبعض الإبداعات الحاصلة والمحصلَّة التي تتميَّز بها سينما اليوم. قد نصفّق أكثر للممثل ليوناردو دي كابريو عن الأوسكار الذي منحته إياه الأكاديمية الأمريكية، لا عن الأداء المنفرد لدوره في فيلم «العائد» The Revenant، داخل ظروف طبيعية لا تصفها كلمة القاسية بإنصاف، بل لكون هذا الأداء اعتمد على ملامح الوجه وحركة العينين وإمالات الرأس، وتفعَّل في شروط صمت وجمدة فرضتهما ظروف الإعاقة الجسدية التي تعاني منها الشخصية في حكاية الفيلم ووجد مرجعيته في السينما الصامتة. هذا الأداء جعل من ليوناردو دي كابريو ممثلا عابرا للزمن نقلنا ببراعته وحرفيته إلى فترة بدايات السينما حيث كانت التعبيرية الكوريوغرافية محور التعبيرية السينماتوغرافية، وكانت الصورة السينمائية، بناء على ذلك، تغني عن ألف كلمة حوارية. في السينما الصامتة قد نعثر كذلك على شخصيات بول توماس أندرسون المعروضة أمام كاميرا تابثة، من زوايا جانبية وعبر تصاميم تنتمي للمدرسة التعبيرية، تبديها وكأنها ترغب في الخروج من الإطار؛ نعثر عليها كأشباح سينمائية، بحياة أخرى داخل زمنية سبقت زمنيتها بما يزيد عن مائة سنة.
في مشاهدة السينما الصامتة اليوم، نؤثت كذلك لوعي سينمائي محض، يدمجنا في جمالية هذه الصورة التي تميز سينما بيلا تار وثيو أنجيلوبولوس أو نوري بيلج جيلان، على سبيل المثال لا الحصر، وتقول ما تقول بمنطق صمتها الفصيح. في هذه المشاهدة المقارنة التي تتفعَّل عبر الذاكرة السينمائية، نعثر كذلك على سند هذه التعبيرية والجمالية الغنية لأسلوبية راهن عليها مخرجون معاصرون، يَشغرُ البياض مساحة كبيرة في سيناريو أفلامهم الأدبي، وتتمركز الأنساق التواصلية لديهم على سينماتوغرافيا تُخرج الكلمة الحوارية من أفقها التدليلي، وتعتني بالإمكانيات الإيحائية للمشهد، أوالتعبير الجسدي، أوالفضاء الترميزي للوجه كحيز زمكاني مصغَّر أو الفضاء الطبيعي، كأليغورية وجودية تسمو بالعين من أداة للمشاهدة إلى أداة للتأمل. في فضاء ليف كوليتشيف الخارجي والطبيعي نجد حيز الإشراقة الصوفية الذي يشدنا بصمته وسكون كائناته في أفلام أندري تاركوفسكي. وفي نظرة بطلة فيلم الشروق (1927) لفرديرك ولهيلم مورنو نعثر على الطاقة الحوارية التي تحملها نظرة بطلات الأخوين جونبيير وليك دردين.
النظرية والمواقف
مشاهدة فيلم ينتمي لأوائل فترة السينما الصامتة، حيث كان تسمى السينما وكفى، هي مشاهدة الفن السابع من منطلق الطاقة وليس من منطلق الفعل. فانبعاث كل فيلم صامت بفضل المجهودات الجبارة للمؤسسات والجمعيات المهتمة بالفن السابع، أو الفنون عموما، هو باعث على الإكتشاف لما هو سينمائي فنّي محض. فما يحرّك الإقبال على الفيلم الصامت المرمّم كمادة بصرية هو دافع استكشاف أوجه التنويعات التعبيرية والصياغات الجمالية المحصّلة فيه بغض النظر عن محتواه المضاميني. فمشاهدة الفيلم الصامت المرمّم توجّهها نية التأمل لكيفية معالجة مضمون فيلمي عوض الإستسلام الفاتر للحبكة التي يحملها. إنه اهتمام بالتعبير السينمائي على حساب القصة التي تشتركها السينما مع فنون أخرى. وهذا هو النوع من التّلقي الميثالي للسينما، والذي قطعا قد نتمرس عليه ونمارسه بمشاهدة المتن الفيلمي الصامت المرمّم، وهو الذي يتوخاه كل مؤلف سينمائي من جمهوره.
مشاهدة السينفيلي للفيلم الصامت المرمَّم عملية تحليلية بالدرجة الأولى لأنها تدخل التراكم الذي حصلته السينما كمّاً وكيفا في «عين» الإعتبار. فهي مشاهدة مزدوجة عبر الذاكرة التناصية تنظر جدليا لمتن الماضي في متن الحاضر والعكس بالعكس. في هذه العملية يتحقَّق للسينما درسها الفيلولوجي، كما أشرنا أعلاه، حيث يقف السينفيلي من خلالها على دقائق تطور اللغة وطرائق القول السينمائيين بين الماضي والحاضر، وأوجه الثبات والتحوُّل في هذا التطور، ومن خلال جسم تطبيقي ملموس يضيء عتمات التجريد في المتون التنظرية المحيطة بالسينما، وبالأخص تلك التي كانت تدور في فلك السجال بين المناصرين والمعارضين للحوار المنطوق.
أثناء مشاهدة الفيلم الصامت المرمّم يجد السينفيلي المشفَّر نفسه، وبغض النظر عن رغبته أو عزوفه عن ذلك، متخندقا في جبهة المدافعين عن الفيلم الصامت كالمنظر رودولف أرنهايم، ليستنتج بطريقته الخاصة كيف كان المخرجون السينمائيون، وداخل حدود الإمكانيات المتاحة لهم، منخرطين في إيجاد صيغة أسلوبية صافية للفيلم الصامت تحوِّله، من مجرد هذا العرض الفرجوي للصور المتحركة، إلى فن قائم بذاته. بالتالي كان دخول الصوت بمثابة إجهاض مبكر لعديد من الإنجازات التي حققها الفنان السينمائي على المستوى الشكلي، وعلى حساب غرض غير فني كلية، كطلب أكبر قدر ممكن من «الطبيعية» وبكل معاني السذاجة التي تحملها هذه الكلمة في سياق الفن للفن.
كما قد يجد هذا السينفيلي نفسه في الجبهة المعاكسة كمدافع عن الحوار المنطوق. فدخول الحوار المنطوق أثرى السينما بحواراتها الخالدة، وبجمالية صورها السمعية، لا بما نفهمه من وراء هذا التركيب الإصطلاحي في اللسانيات، ولكن لما نشعره في طريقة كلام شخصيات روبير بروسون أو ستانلي كوبيرك، أو هذه الدعيمة التطبيقية في الشريط الصوتي التي بنى عليها جون بولتون آراءه حول تقنية وجمالية الصوت الفيلمي (1985).
هذا التخندق لا يعني استبعاد موقف وسط يحفظ للسينما خصوصيتها الجمالية والتعبيرية كحل التوليف الطباقي counterpoint بين الصورة والصوت الذي ارتآه سيرغي إزنشتاين وعالج أبعاده في النظرية والممارسة. وبغض النظرعن الموقف والموقع، قد يخلص هذا المشاهد السينفيلي المشفَّر، وبطريقته الخاصة وفي حدود معرفته، لما توصَّل إليه المفكر إيروين أنوفسكي بقوة وعمق تحليله، ومكانته في دوائر النظرية الثقافية والفنية، حين استنتج أن العلامة التي تدل على الربح أو الإضافة في مجال الفن عموما، وفي السينما بالخصوص، هي المؤشر نفسه على خسارة ونقصان ما. فمجاهدة السينما نحو تحقيق الإكتمال الإستيطيقي، حسب تصور ما، كانت في نفس الآن عملية للتخلص مما تراكم كميا ونوعيا في حصيلة هذا الأخير (Style and Medium inthe Motion Pictures).
الذاكرة والتقنية
مشاهدة السينما الصامتة المرمّمة تمنح كذلك هذا التمرين المعرفي الذي يجمع بين السينما والميتاسينما. أي بين السينما كمادة للاستهلاك والسينما كحقل للتأمل. فهي هذا الدرس الفيلولوجي، إن جاز الإقتراض من حقل اللغة، بالنسبة لمشاهد الألفية الجديدة، والذي أصبح يستهلك سينما تنهل من كل الحقول المعرفية والفنية، لتصير هذا النسيج التعبيري الذي يعبّر عنه الإصطلاح الجديد cinematrix (ريتشارد بورتون وروبيرت ستام.2015)، وعبر كل الوسائط المتنوعة في الحجم وفي تقنيات وطرق خلق التفاعل والتجاوب مع المشاهد. من سينما القصة الكلاسيكية إلى سينما الفيديو كليب، ومن شاشة الأيماكس إلى الشاشة التي تسع الجيب، ومن نمط الأبعاد الثلاثة 3D إلى نمط البعد الرابع 4D، ومن هذا الأخير إلى النمط الذي يجمع البعد الرابع والواقع الإفتراضي جنبا إلى جنبVR4D، أصبحت المشاهدة السينمائية تتجاوز الحكاية والقماشة الشكلية إلى هذه التجربة التي ترمي بالمشاهد، مجازا وتقريرا في فضاء العوالم المحيطة بالفيلم ليعيشها عبر انفعاله النفسي والجسدي معا.
من منطلق التقدم التكنولوجي وثورة المعلوماتيات، وفي واقع يخلق فيه كل مشاهد محتمل سينماه يوميا عبر كاميرا الهاتف الذكي، تقدم مشاهدة فيلم صامت مرمَّم فرصة معاينة مرحلة تكوين أبجدية الصورة المتحركة، من تصاميم وإطارات ومونطاج داخلي وخارجي وتنويعات الروابط بين اللقطات، حين كانت هذه الاختيارات المرفولوجية تنمُّ عن موقف إبداعي وتكشف عن الخلفية الإستطيقية للمخرج، إن لم تعرِّي على الإيديولوجية التي تحرِّكه كمبدع، قبل أن تصبح مستبطنة ومستهلكة، ومفروغة من كل خلفيات الوعي التي ذكرنا. الفيلم الصامت المرمَّم من ثمَّ يشكِّل ذاكرة أيقونولوجية بالمعنى المزدوج لهذه العملية الذهنية. فهو يحمل صورة عن الماضي، في مادة مضمونه، وفي نفس الآن يمنح صورة عن الأداة التي كانت تُستعمل في الماضي لإنتاج هذه الصورة. بالتالي يمكن مقاربة السينما الصامتة المرمّمة في تاريخانية المشاهدة الآنية كنموذج آخر لحامل الذاكرة الغير المباشر، إذ بنقلها للماضي تنقل كذلك فكرة عن «طريقة النظرة» في هذا الماضي، لتصير هذه السينما عيّنة أخرى في النسق الذاكراتي التقني mnemotechnical system الذي تناوله المفكر الفرنسي برنارد ستايغلير Bernard Stiegler في كرّاساته الثلاث حول التقنية والزمن وكان الجزء الثالث منها يعنى بالسينما (La technique et le temps, tome 3. 2001–اعتمدنا الترجمة الإنجليزية لهذا الكتاب).
عبد اللطيف عدنان