في فيلمه الأخير «الخادمة» (2016) يلعب المخرج الكوري بارك شان ووك، خلال ساعتين وأربع وعشرين دقيقة، مع المشاهدين مُخفيا تفاصيل في بداية ووسط سرده الفيلمي ليُعلن عنها بعد ذلك بالتدريج، وبأسلوب تَعدُّد الأصوات الرَّاوِية الذي يذكرنا بفيلم كـ«راشمون» لأكيرا كوروساوا، بِحيث نشاهد نفس الحدث من وجهات نظر مختلفة أو بشكل تختفي فيه بعض التفاصيل في رواية لتظهر بشكل يَقلب كل المعطيات في الأخرى.
وبما أن تَمَكُّن بارك شان ووك من حرفته السينمائية لم يعد مجالا للنقاش بين «السينفيليين»، فإن من نافل القول أن هذا الفيلم الذي هو اقتباس من رواية للكاتبة الإنجليزية سارة واترز، ناقلا الأحداث من إنجلترا القرن التاسع عشر إلى كوريا خلال أربعينيات القرن الماضي، لم يشذ عن كونه تحفة سينمائية كما أفلامه الأخرى، يتمنَّى المشاهد ووهو يُتابع فصولها الثلاثة ألا تنتهي.
يدخل هذا الفيلم ضمن صنف الدراما التشويقية الإيروتيكية، كونه يتناول قصة حب بين امرأتين تَتَّحِدان لهزم غطرسة رجلين، واحد يطمع في ثروة إحداهما والآخر يستغِلُّها ويُبقيها لديه سجينة منذ أن كانت طفلة. إنه فيلم عن قدرة المرأة على التفوق على كيد الرجل وجبروته وسطوته في زمن لم يكن للمرأة صوت ولاقدرة على التَّمرد على السُّلطة الذكورية.
مع بارك شان ووك ومخرجين سينمائيين موهوبين آخرين وبأفلام كفيلم «الخادمة» استطاعت السينما الكورية أن تصبح ومنذ مُدَّة واحدة من بين أهم السينمات العالمية وأكثرها فنية وإبداعا وتجديدا، لتخلق نوعا من التوجه أو المدرسة السينمائية التي استطاعت أن تُجدِّد في أغلب الأنواع السينمائية مهما كانت كلاسيكية، بل إن مخرجيها تمكَّنوا في كثير من الأحيان اختراق هاته الأنواع واللعب في ركائزها وقواعدها.
في فيلمه الوحيد الذي أنجزه خارج بلده كوريا «ستوكر» (2013)، والذي بقدر ما هو فيلم ذاتي به بصمة بارك شان ووك ويحتوي على مقومات سينماه بقدر ما هو فيلم يضم أيضا مقومات السينما السائدة في هوليود، نجد واحدة من بين أهم وأجمل البدايات في السينما العالمية وهي بداية صعود الجينريك، بحيث بقدر ما يُمكن قراءتها أول الأمر على كونها بداية رومانسية لفيلم رومانسي بقدر ما سنعود إليها مع بارك شان ووك في النهاية لتصبح من أعنف ما نراه في السينما العالمية. هي بداية خادعة، سنعلم حينما سيُقفلها المخرج الكوري المُتميِّز في آخر الفيلم بشكل دائري مدى خداعها، بحيث تصبح حُمرَة الزهور المُخاتلة ناتجة عن دم «شريف» البلدة الذي تقتله البطلة بكل قسوة وعنف بعد أن يكتشف أنها قاتلة، وتَنقلبُ كلماتها «الرقيقة» معبِّرة عن أبعاد أخرى واصفة شخصيتها غير السوية، على عكس ما فهمناه في البداية. وهنا نجد كل مقومات سينما بارك شان ووك من خلال ثنائية الإخفاء والكشف وفي اللعب مع المُشاهد الذكي، ليلتقي بهيتشكوك في واحدة من أهم مميزات أفلامه والتي تُؤسس لسينما التشويق لديه، والذي يعترف ووك بأنه تأثر بأفلامه وأن مشاهدة فيلمه «عرق بارد» كانت السبب الذي جعله يتجه للإخراج.
لكن على العموم فالرومانسية لدى بارك شان ووك ليست خالصة إذ تختلط في أفلامه بالعنف والدماء والمواقف الحادة والعنيفة.
الكاميرا عند بارك شان ووك متحركة على الدوام فاللقطة الممتدة عنده تحمل في طيَّاتِها لقطات متعددة وتقطيعا ضمنيا للقطات بحيث وبحركة خلفية أو أمامية ينتقل من لقطة مقربة إلى لقطة متوسطة ثم عامة، وذلك في نفس سياق الإخفاء والكشف الذي أشرنا إليه سابقا. إذ أن أسلوبه الإخراجي يتماهى وينصهر كُلِّيَّة مع مضامين أفلامه وتيماتها، بحيث يُصبح الشكل والمضمون لُحمة واحدة من الصعب الفصل بينهما، وهو الأمر الذي لا نجده سوى عند كبار المخرجين في تاريخ السينما العالمية.
يلعب ماهو خارج مجال الرؤية (أو خارج الإطار) دورا مهما في سينما بارك شان ووك، إذ بقدر مايُؤثِّثُ هذا الأخير كل الفضاء المصور بأشياء لها دورها في السرد السينمائي ولا تكون أبدا مجرد ديكور زائد فحتى الألوان المستعملة لها تعابير درامية جد محددة، فإن مكونات «خارج الإطار» لها أيضا دور مهم، إذ يتعمَّد بارك شان ووك أن يدع بعض مكونات السرد مختفية وغير مُصوَّرَة متحدِّيا ذكاء المُشاهد بذلك، فإما أن يعلن عنها بعد ذلك أو يدعها محذوفة الأمر الذي يُقوِّي السرد ويعززه.
لدى بارك شان ووك أسلوب خاص لاتخطئه العين «السينفيلية»،
ففيلم «أيها العطش، هذا دمي»(2009) فيلم سريالي جميل يخلط فيه بارك شان ووك بين صنف أفلام الرعب ومَصَّاصِي الدماء من جهة ونوع أفلام التحليل النفسي، بأسلوب سوريالي لم يستطع التَّفَوُّقَ فيه بمثل هاته البراعة والتَّمكن سوى رائد السوريالية في السينما العالمية لويس بونويل.
وهنا يصبح المونطاج مُتَضَمَّنا في هذه المشاهد وليس ملموسا وظاهرا للعيان، بحيث يبدو أن المخرج يُمارسه وهو يصور أفلامه وقبل أن يصل للوحة المونطاج، وهو توليف غير تقليدي وبالاستمرارية ومن غير قطع. بحيث لو كان مخرج آخر لقام بقطع المشهد إلى لقطات ولفقد قيمته الفنية التي نجدها عند بارك شان ووك.
في نفس الفيلم يُؤسس بارك شان ووك لأسلوب سينمائي خاص بحيث نجد مشهدا وكأنه فيلم قصير داخل الفيلم الطويل، إذ يقوم من خلال حوار يدور بين شخوص الفيلم الجالسين حول طاولة يلعبون لعبة ما بالتمهيد لما سيقع وذلك بالحديث الدائر عن إمكانية خلق تواصل من خلال النظرات حتى لو استغنينا عن الكلام لِيُؤكد أحد الجالسين حول الطاولة أنه استطاع التواصل مع زوجته الأجنبية التي لم تتمكن مِن إتقان الكورية بهذه الطريقة، هذا كله فقط للمرور لاكتشاف أن البطل وحبيبته هما قاتلا الإبن وذلك من خلال تعابير وإشارات من عيني الأم التي لاتستطيع الكلام ولا التحرك بعد وفاة ابنها.
نجد عند بارك شان ووك تلك القدرة على الخلط بين الأنواع السينمائية بسلاسة وفنية وبحنكة المُتمكِّن من حرفته السينمائية. فهو قادر على اللعب بالأجناس وتفجيرها من الداخل وإعادة الاشتغال عليها وعلى أساساتها الكلاسيكية.
في ثلاثيته حول تيمة «الانتقام» وفي أفلام («تعاطف مع السيد انتقام» 2002، «أولد بوي» 2003 و«السيدة انتقام» 2005) يقوم بتنويعة جميلة ومختلفة عَمَّا عهدنا مشاهدته في الأفلام الغربية التي درجت على استنزاف هذا الموضوع بشكل فَجّ يعتمد على نفس الوصفة التي «قُتلت» تناولا، بحيث أصبح من يشاهد يعلم ماسيقع بعد ذلك منذ بداية الفيلم.
ورغم أن نسخة أمريكية جد مخلصة لفيلم «أولد بوي» (2013) وبنفس العنوان من إخراج سبايك لي سترى النور بعد ذلك سنة 2013 إلا أنها لن تكون في المستوى الفني والجمالي لفيلم بارك شان ووك، وربما لو لم يكن هنالك مجال للمقارنة بين الفيلمين لأمكن قبول النسخة الأمريكية، لكن المقارنة ستكون دائما في غير صالح فيلم سبايك لي الذي أخرج بدوره أفلاما جيدة في الماضي ولديه مسار محترم كسينمائي صاحب تصور ورؤية إخراجيتين.
فيلمه الروائي الطويل الثالث «منطقة أمن مشتركة» (2000)، الذي كَرَّسَهُ كمخرج رائد في الموجة السينمائية الجديدة في كوريا الجنوبية، من خلال نجاحه التجاري الساحق وقيمته الفنية معا، ليس مجرد فيلم عن الصراع بين الكوريتين، إذ صَوَّره ووك بكل حيادية وبدون الميل لأحد الطرفين، بل هو أيضا فيلم ضد الحرب ومع السلام ويمجد ماهو إنساني بِغضِّ النظر عن كل مادون ذلك من إيديولوجيا أو مصالح سياسية قُطرِيَّة ضيقة.
في هذا الفيلم تظهر موهبة بارك شان ووك في صنع وتصوير شخوص من لحم ودم، شخوص إنسانية بامتياز. السرد الفيلمي به مُتشظِّي ومبني على عدة فلاشباكات واسترجاعات، كل واحدة تنفي الأخرى بحيث نشاهد نفس الواقعة ليس من عدّة وجهات نظر لكن من وجهة نظر كاذبة ومُضَلِّلَة إلى وجهة نظر ورواية تحكي الحقيقة وتصل إليها في نهاية الفيلم.
عبد الكريم واكريم