بداية من تدريسه الفلسفة، وصولاً إلى رئاسته للأندية السينمائية في المغرب (جواسم)، وتأسيسه ورفاقه ملتقى السينما الإفريقية في خريبكة، قبل أن يحمل اسم مهرجان من أشهر مهرجانات السينما في القارة، يراهن دوماً الناقد السينمائي المغربي نور الدين الصايل على الدور الريادي للسينما في تطور المجتمعات الإفريقية. حول هذه التجربة الطويلة في النقد والثقافة السينمائية، والعديد من المناصب التي تولاها الصايل، كان هذا الحوار..
سينما إفريقية
■ هل يمكن الحديث عن سينما إفريقية خالصة في ظل المتغيرات الحالية؟
□ يجب تحديد معنى (سينما إفريقية خالصة)، لكن ما يلاحظ أن هناك تجليات لسينمات إفريقية مختلفة، حيث هناك أساليب ومواضيع تشترك فيها، وبهذا المعنى يمكن أن نتحدث عن سينما ذات بُعد إفريقي، ابتداء من فضاء التصوير والكيفية التي تصاغ بها الرواية، وطريقة أداء الممثلين يمكن معاينتها ومشاهدتها في الأفلام الإفريقية. لكن المشكل المطروح الآن لكي تكون سينما إفريقية، لا بد أن يتوفر كل بلد على وعي كامل بضرورة إنتاج سينمائي خاص به، أي أن تكون في السنغال مثلاً سينما سنغالية، وقس على ذلك باقي الدول. هناك تفاوتات كبيرة لأن أغلبية الدول الإفريقية ليس لها وعي بأهمية الإنتاج السينمائي. المغرب حل معضلة الإنتاج لأن الدولة اتخذت قراراً يتمثل في تقديم منحة إنتاجية بناء على السيناريو وخطة عمل الفيلم (التحضير والتصوير وتسليم النسخة النهائية). ولكن هذه الطريقة للأسف غير موجودة في ساحل العاج، وليست بكيفية متقنة في السنغال، أو في غينيا وإثيوبيا، وإذا لم يتم العمل بهذه الطريقة، فلن تتاح لهذه الدول فرصة التواجد السينمائي.
النموذج المغربي والسينما التونسية
فالمغرب في الـ10 سنوات الأخيرة شكّل نموذجا لهذه الدول، وشخصيا كانت لي علاقات كثيرة مع المسؤولين على السينما في هذه البلدان ــ وزراء الثقافة المسؤولين عن القطاع السينمائي ــ إلى حد الآن تمكنت كل من السنغال وساحل العاج نسبيا العمل بهذا الأسلوب، وباقي الدول الأخرى ما زالت تتأرجح في ذلك. وأعتبر أن تونس البلد الوحيد الذي عرف كيف يوظف ــ منذ سنتين ــ نظام الدعم بطريقة فعالة، حيث أن تونس انطلقت من إنتاج ضئيل لتصل إلى إنتاج ما بين 8 و10 أفلام سنويا، مما يدل على أن الطريقة التي انتهجناها في المغرب كانت صائبة.
الدعم السينمائي وأثاره
■ تعتبر أن سياسة الدعم ساهمت في تطوير السينما المغربية كميا ونوعيا، ألا ترى أن هذا الدعم كان له بعض الأثر السلبي، وأنتج ما يسميه سعيد يقطين بـ «البدانة»؟
كيفما كان الحال يمكن اعتبار أن سياسة الدعم السينمائي من وجهة موضوعية تحدث تقدما كبيرا في هذا الميدان، فإن تقرر الدولة بطريقة إرادية دعم ورفع سقف الإنتاج السينمائي، فهذا يشكل وثبة لا يستهان بها في ميدان السينما، والدليل على ذلك أننا انتقلنا من إنتاج 3 أفلام إلى 20 ثم 25 فيلما.
الإنتاج والقيمة الفنية
وما بين الكم والكيف، أو القيمة، فهذه قضية أساسية، لكنها تدخل في جدلية الإنتاج السينمائي في العالم كله. فإذا لم تنتج كمية من الأفلام فإنك لن تصل إلى إفراز النوع، ففرنسا تنتج سنويا حوالي 240 فيلما، حيث 85 إلى 90٪ تتم بمساعدة الدولة والقنوات التي تساعد الفيلم الفرنسي، فلو لم تكن تلك الكمية من الأفلام، فلن نصل إلى 10 أو 15 فيلما عالية الجودة. والولايات المتحدة تنتج ما بين 500 و600 فيلم في السنة، لكن هناك فقط 10٪ من الأفلام الجيدة، أي حوالي 50 فيلما تتوفر على قيمة فنية رائعة. وفي المغرب ننتج 20 فيلما وفي الحالة التي يمكن فيها أن ننتج 3 أفلام من المستوى الفني العالي، فإن الأمر سيكون عاديا. أما أن تكون هناك أفلام قد حصلت على المساعدة الإنتاجية، لكن مستواها كان متوسطا أو دونه فذلك شيء عادي جدا، لأن أي اقتراح يمكن أن يكون صائبا أو خاطئا. ففي العالم كله ليس هناك أي ضمانة مطلقة يمكن من خلالها أن نحصل على أفلام جيدة عند استفادتها من الدعم. وأعتقد أن المغرب منذ بداية القرن الحالي حل بكيفية ذكية معادلة الإنتاج السينمائي.. فالآن يفرز الكم تصفية داخلية إلى أن يصبح مع مرور الوقت الفيلم المغربي العادي تقنيا في المستوى العالي.
مزايا الإنتاج الكمي
يبقى المضمون والأسلوب الفني متعلقا باختيارات المخرج وقيمته الإبداعية، ما يهمنا هو أن يصبح الفيلم المغربي المتوسط ضمن هذا الإنتاج الكمي مقبولا على كل المستويات، ما عدا مسألة الاختيارات الفنية التي تصنف مستوى هذا الفيلم جيدا أم رديئا. فكل ما أنتجنا أكثر كانت الحصيلة مهمة، والتي ستصبح مكتسبا، لأن التقني سيشتغل أكثر وسيتطور وكذلك الممثل، ونضمن ضخ دماء جديدة على كل المستويات، وهذه الدينامية مرتبطة بالكم.
حالة سينمائية وليست صناعة سينما
أن نعمل مثل مالي التي تنتج فيلما واحدا كل خمس سنوات، كمثال على ذلك فيلم «يلين»/النور، لسليمان سيسي، فهو فيلم جميل، ولكن فيلما كل 10 سنوات، حيث يتم جلب تقنيين أجانب من الداخل والخارج، ونصنع فيلماً يحصد جوائز دولية، فنحن هنا نتحدث عن حالة سينمائية وليس هناك تدفق سينمائي.
حتمية التطور
وكما هو الحال في السينما المصرية، التي تنتج ما بين 30 إلى 35 فيلما سنويا، نجد المتوسط والسيئ والجميل، لكن الصناعة السينمائية في مصر تتطور وتسير نحو الأفضل بحكم ضرورة التطور التاريخي. وهذه الطريقة هي التي تهمنا الآن في المغرب، حيث إذا أردت أن تقوم بجرد سنوي للأفلام ستجد 5 أفلام دون المتوسط، و7 متوسطة، ويكفي أن تشاهد 4 أو 5 أعمال لها قيمة إضافية، من حيث الفنية والحرفية.
المعايير الموضوعية
■ ما هي الأفلام التي تعتبرها جديرة بتمثيل السينما المغربية، متجاوزة إشكالية الانتشار؟
علينا أن نتساءل أولاً عن المعايير التي يمكن أن نحكم على هذه الأفلام من خلالها، بدون السقوط في أحكام ذاتية. مثال الأفلام التي اختيرت في مهرجان دولية كالبندقية وبرلين وكان. فالمشاركة في هذه المهرجانات الكبرى لا تنبني على صداقة أو اعتبارات شخصية، لأن من يختار هذه الأفلام له مصداقيته في اختياراته. فالمغرب منذ سنة 2004 يضمن مشاركته في أكبر المهرجانات العالمية، وتجد أسماء مثل فوزي بنسعيدي، مومن سميحي، ليلى كيلاني، والأخوان نوري اللذين شاركا بفيلمين كان لهما تواجد قوي في مهرجان برلين. وكلها مؤشرات تدل على أننا في الطريق الصحيح.
ضرورة السوق المحلي
إلا أن دعم الإنتاج لا يعتبر حلا كاملا، بل يجعلنا في نصف الطريق فإذا لم تكن هناك سوق داخلية، أي قاعات سينمائية في البلاد، فسيؤثر بالسلب على المنتوج المغربي ويتناقص عدد الأفلام. فمواكبة السوق للعملية الإنتاجية يضمن لها الاستمرار والعكس يؤدي بها إلى الرجوع للوراء لأن الكم يفرز الكيف.
النقد السينمائي وإمكاناته
■ كيف ترى النقد السينمائي في المغرب؟
النقد السينمائي في المغرب يشمل نوعين.. الأول نقد تنظيري تأملي جامعي، يتحدث عن أمور سينمائية عامة، أي يعنى بالسينما. والآخر احترافي، زيادة عن تأملاته السينمائية يهتم بالأفلام، لأن النقد عليه أن ينشغل أساسا بالأفلام ولا يؤرخ فقط للسينما والنظريات، رغم أنه أساسي للتأريخ للسينما وللتنظير. فالوسائل النظرية ضرورية بكيفية مطلقة، لكن بلورتها تتجلى في كيفية التناول النقدي بعيدا عن الهدم أو التمجيد المجاني الذي يعتمد على صفات من قبيل.. (جميل عظيم ممتاز) فمن المفترض في الناقد الذي شاهد الفيلم أن يطرح بكيفية لائقة، سواء كانت له أحكام القيمة أم لا، ما يمكنه أن يحبب لي الفيلم أو لا يشجعني على مشاهدته.
مستقبل النقد المغربي
أعتقد أن هناك تطورا وأن هذه الطريق هي التي ستشكل مستقبل النقد في المغرب، فطبقا للمعادلة الآنفة الذكر لابد من إنتاج، لابد من سوق، فبالطبع لابد من نقد، وهذا الثالوث يعطي لأي بلد قيمة سينمائية حقيقية، وذلك ما نلاحظه في أوروبا وأمريكا وفي الدول الآسيوية العظمى على مستوى الإنتاج. من ناحية أخرى نجد الناقد المحترف في بعض الصحف والدوريات، وهو ما لم نعشه في ثمانينيات أو سبعينيات القرن الماضي، وهذا ما يعكس انفتاحا حقيقيا، وعليه أن يمنح لنفسه المكانة الحقيقية التي تتمثل في مواكبة الإنتاج والفرجة السينمائية بصفة عامة، لأنه غير مطالب فقط بتقديم الفيلم المغربي، بل إن دوره يتجلى في إطلاع وتوجيه القارئ على ما يظنه جيداً. فالنقد السينمائي في نظري يشكل العنصر الثالث لاكتمال الصورة السينمائية في المغرب.
■ أكثر من 50 سنة في تجربتكم في الميدان السينمائي، ما هي الأهداف التى رأيتها تتحقق؟
عملت مع الرفاق في الجامعة الوطنية للأندية السينمائية، حيث فتحت الباب لسينمائيين شباب وللمشاركة في مهرجانات كانت تحسب على رؤوس الأصابع واشتغلت وفق برنامج على أن تصبح كل مدينة صغيرة أو كبيرة قابلة لأن تحتضن مهرجانا سينمائيا، وهدفي يتمثل في أن تصبح الثقافة بشكل عام والسينمائية على وجه خاص معممة أكثر، وأن يكون التلذد بهذه الثقافة من طرف الجميع لا مقتصرا على فئة معينة، بمنح المشاهد الوسائل الكفيلة لقراءة الفيلم والتلذد بمشاهدة الأفلام الجميلة التي يقترحها عليه العالم، وإذا لم يتوفر على هذه الثقافة السينمائية لن يتمكن من الاستمتاع بتلك الأعمال الفنية، وهذا تصور طبقي للثقافة الذي أناضل ضده منذ الأبد.
قضية «الزين اللي فيك»
■ شاهدت فيلم «الزين إللي فيك» الممنوع من العرض في المغرب، بصفتك رئيساً للجنة التحكيم في مهرجان قرطاج السينمائي في تونس وناقدا سينمائيا كيف ترى هذا المنع؟
«الزين اللي فيك» فيلم منح ترخيصا للتصوير بعد تقديمه للسيناريو، لذلك فكيانه الإداري محقق، والفيلم عندما يصور يتقدم من أجل منحه إذنا للخروج إلى القاعات وهذا ما لم يتم، ومع ذلك فاللجنة منعته أو الوزير أو مدير المركز. وهذا المنع يقتضي تساؤلا قانونيا قبل أن نذهب إلى مضمون الفيلم، هناك معايير إدارية سمحت بالتصوير بعد تقديم السيناريو، ووافقت عليه، وعندما تريد عرضه يجب أن تضع تصنيفا عليه «ممنوع لأقل من 12 أو 16»، وهذا لم يتم العمل به لوقوع ضغط بعد انتشار صور على الإنترنت للفيلم. فالنقاش حول الفيلم خرج من نطاقه العادي وتمحور فقط في .. هل أنت مع أو ضد، مع سينما العهارة أو ضدها، وأين المرأة المغربية الأخت المناضلة. ما وقع من ضجة نتيجة نقاش قبلي يفرض عليك قول لا أو نعم، وأغلب من كان ضد الفيلم كان مسيراً من طرف من يدعون الوصاية. لقد تم خلق أزمة ثقة حقيقية بين المبدعين والجمهور، لأن الوسطاء (بعض النقاد والأوصياء) عملوا على إثارة الضجة والقطيعة، فعوض اللجوء إلى نقاش هادئ من شأنه أن يساهم في توجيه وتطوير مضامين السينما المغربية، تم اعتماد أسلوب المنع أو اللامنع كمفاهيم معرضة للمساءلة ولها تبعات خطيرة. فالفيلم حقق في فرنسا أكثر من 250 ألف متفرج، بينما تم حرمان الجمهور المغربي من مشاهدته.
الخطاب الأخلاقي وتبعاته
■ في الآونة الأخيرة بدأ يطفو على السطح خطاب أخلاقي يتهم السينما المغربية بكونها تشجع على الفساد المجتمعي، كيف يرى الصايل أثر ذلك؟
إنه خطاب عام موجود في العالم كله وليس خاصا بالمغرب، والنقاش الأخلاقي حول الأعمال السينمائية مطروح في إيطاليا وإسبانيا وفرنسا. وهناك تيارات بالنسبة لها الأخلاق شيء قائم بذاته وجامد لا يتحرك، ولا أحد يمنعهم من نشر خطابهم. فهذه ليست نقاشات خاصة بالمغرب، ولكنها تواكب التعبير الفني والسينمائي منذ البداية، لكن رغم ذلك فالخطاب الكاثوليكي الذي حاصر الإبداع في أوروبا لم يمنع لويس بونويل من إبداع روائعه، متحديا الكنيسة الكاثوليكية وكتابها.
حاوره: خالد الكطابي